موسى ولطف الله (5) موسى يواجه فرعون

عبد العزيز بن عبد الله السويدان
عناصر الخطبة
  1. موسى يواجه فرعون في قصره .
  2. موقف الطغاة أمام الحجج الباهرة المهددة لملكهم .
  3. يقين الداعية بالنصر رغم قوة الأعداء الظاهرية .

اقتباس

إن الطاغوت مراوغ مستميت، لا يستسلم هكذا من قريب، وحتى لو رأى الحقَّ فإنه لا يسلِّم ببطلان حُكْمِه بسهولة، هذا هو طبعه، لا يقبل الحق، ويراوغ؛ ولهذا سرعان ما يتهم الناصح بالسحر، أو بالإرهاب، أو بتكوين مجموعات مسلحة! ويشكك في نواياه. (قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ * يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ) ..

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].

أما بعد : فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

دخل نبي الله موسى وأخوه هارون -عليهما السلام- دخلا أرض مصر نبيَّين مرسلين، يحدوهم الأمل في نجاح مهمتهما،كيف لا؟ وقد طمأنهم ربهما بقوله (لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى) [طه:46].

وكان من مبشرات هذه المعية الإلهية أن مكنهم الله -تعالى- من اجتياز حرس فرعون بأمان، والوصول إلى قصر الطاغية، وهذا -بلا شك- تمهيدٌ وتيسير لهم من رب العالمين -جل وعلا-.

وكانا خلال مسيرهما يذكران الله -تعالى- ويسبحانه دون فتور؛ امتثالا لوصية الله -تعالى-: (وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي) [طه:42]، فإن ذكر الله أعظم زاد للمؤمن في كل حال في الشدة والرخاء، بل حتى في وسط المعركة والتحام السيوف لا يتوقف لسان المؤمن عن ذكر الله تعالى، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [الأنفال:45].

والتقى الطرفان، موسى وأخوه هارون في مواجهة فرعون وملئه، فمن يتكلم؟ وإذا بموسى -عليه السلام- ينطق أمام عدوه بفصاحة ووضوح دون حاجة إلى فصاحة أخيه هارون، وذلك من لطف الله -تعالى- به -عليه السلام- لما دعاه من قبل: (وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي) [طه:27]، فاستجاب له ربه وحل عقدة لسانه، فيا لَلطف الله!.

وابتدأ موسى بتعريف نفسه بصفته الجديدة، وأنه اليوم يقف أمام فرعون، ليس بصفته ربيبا له، وإنما بصفته رسولا لله! (يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [الأعراف:104]، وناداه بقوله: (يَا فِرْعَوْنُ)! ناداه بالاسم الدال على الملك والسلطان، نداء إكرام وتقدير؛ لأن الله -تعالى- وصاهما بقوله (فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا) [طه:44].

ثم بين موسى أنه قد جاء بآية من الله تدل على رسالته: (قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) [الأعراف:105]، فدعا فرعونَ إلى التوحيد وتطهير النفس والخشية من الله: (فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى * وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى) [النازعات:18-19]، ودعاه إلى التوقف عن اضطهاد بني قومه، وأن يسمح لهم بالهجرة معه.

وحذره من العذاب على مَن كذَّب وتولى: (إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى) [طه:47].

وكأخلاق الطغاة المتوارثة أعرض فرعون عن كل هذه النداءات الجليلة ليفتح موضوع المنة فقال: (قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ * وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ) [الشعراء:18-19]، أي: عندما جحدت نعمتي عليك فربيتك حتى كبرت فقتلت ذلك القبطي؟!.

فقال موسى -عليه السلام- (فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ) [الشعراء:20]، أي: فعلتها في ذلك الحين وأنا من الضالين، أي: قبل أن يوحى إلي وأبعث رسولا، فاعترف أنه فعلها على ضلالة ما قبل الرسالة، وليس كفران بنعمة فرعون.

ثم أرجَع المنة إلى الله وحده فقال: (فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ) [الشعراء:21]، فالمنة لله -تعالى- وحده أن وهبني النبوة واختارني رسولا.

ثم عاد موسى إلى أول الكلام حول امتنان فرعون عليه بالإيواء والتربية، فأبى ان يسميها نعمة، قائلا: (وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ) [الشعراء:22]، أهذه نعمة تمنها علي أنْ أويت فردا واحدا من بني إسرائيل، ثم ذبحت بني قومه كافة، واستحللت نساءهم، واضطهدتهم، وجعلت منهم عبيدا لديك ولدى حاشيتك ولبني قومك؟ أهذه نعمة تمنها علي؟.

وابتدأ فرعون بعد ذلك يسأل سؤال المتعالي المستكبر المتهكم: (قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى * قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى * قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى * قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى) [طه:49-53].

وفي آية قال: (وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ * قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ) [الشعراء:23-24]، وهو جواب ليكافئ ذلك التجاهل والتهكم، إنه رب هذا الكون الذي لا يبلغ إليه سلطانك يا فرعون ولا علمك، أتدعي أنك إله هذا الشعب وهذا الجزء من وادي النيل؟ إنك وهو كالذرة في ملكوت السماوات والأرض وما بينهما.

رب السماوات وما بينهما! فراجع يا فرعون أمرك، واعرف مقدار حجمك، وجّه نظرك إلى الكون الهائل، وفكر فيمن يكون ربه، إنه رب العالمين، قال: (إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ)، وهي التفاته ذكية من موسى إلى الملأ إلى الحاشية التي كانت حول فرعون.

فالرد على فرعون هنا ليس خاصا به فقط وإنما هو لجميع من يسمع في ذلك المجلس (إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ)؛ لعله يجد منفذا إلى قلب أحد منهم.

يلتفت بعد ذلك فرعون إلى مَن حوله يعجّبهم من هذا القول، يريد صرفهم عن التأثر به، فهو في ذلك على طريقة الجبارين الذين يخشون تسرب كلمات الحق الصريحة إلى القلوب، ويمنعون الناصحين من التأثير في الناس، ويسخّرون إمكاناتهم لطمس الحقائق.

ويلتفت فرعون إلى من حوله من الحضور: (قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ) [الشعراء:25]؟ ألا تسمعون هذا الهراء؟ لماذا لا تعترضون أو تستنكرون؟ ويبادرهم موسى ليسبق فرعون إليهم بإضافة بيان آخر: (قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آَبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) [الشعراء:26].

وفي هذا كسر واضح لعقيدة الدم الإلهي لدى سلالة الفراعنة، عقيدة توارثهم للدور الإلهي، فرعون تلو الآخر، كل واحد منهم يزعم انه إله كلي في علمه وحكمته، فلا حاجة له إلى شريعة تهديه؛ بل هو ذاته الدين والشريعة.

فموسى هنا يقول لهم بكل قوة: آباؤكم الأولين من الفراعنة لم يكونوا أربابا ولا آلهة؛ بل كان -وما زال- لهم ولكم ربّ خلقهم وخلقكم ورزقهم ورزقكم وأقام شأنهم وشأنكم، ثم أماتهم ويميتهم أجمعين: (رَبُّكُمْ وَرَبُّ آَبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ).

فكأنما لمس بيانُه هذا عرقا مؤلما لدى فرعون؛ لأن موسى قد نسف بكلامه ربوبية الآباء والأجداد، وهذا يقتضي نفسا للمرجعية السياسية والتشريعية وردها إلى الله وحده، ويقتضي كذلك إلغاء للطاعة العمياء التي طالما تمتع بها الفراعنة! انتفض فرعون: (قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ) [الشعراء:27]، يريد أن يتهكم على مسألة الرسالة في ذاتها ويتهمه بالجنون.

ولكن هذا التطاول في الوصف لم يربِك موسى ولم يؤثر في ثباته؛ بل مضى في طريقه يصدع بكلمة الحق التي تزلزل الطغاة: (قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) [الشعراء:28]، المشرق والمغرب مشهدان معروضان للأنظار كل يوم يحددهم شروق الشمس وغروبهما، يستدل بهما وتحكى حولهما القصص، ويُتنادَم فيهما الشعر؛ ولكن القلوب لا تنتبه إلى عظمة خلقهما لكثرة تكرارهما.

وهذا الحدثان العظيمان لا يجرؤ فرعون ولا غيره من المجبرين أن يدعي تصريفهما، فمن يصرفهما إذاً؟ ومن ينشئهما بهذا الإتقان الذي لا يتخلف مرة؟ (لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ) [يس:40].

إن هذا التوجيه يهز القلوب البليدة هزا، ويوقظ العقول الغافلة إيقاظا، وموسى -عليه السلام- يثير مشاعرهم ويدعوهم إلى التدبر والتذكير واستخدام العقل: (إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ)! والطغيان لا يخشى شيئا كما يخشى يقظة الشعوب، ولا يرعبه أكثر من صحوة القلوب، ولا يكره أحدا كما يكره الداعين إلى الوعي واليقظة.

وإذا ما فقد الحجة أمامهم صار كهياج الثور، وأقفل الحوار، وهدد وزمجر وتوعد، وهذا ما حصل لفرعون! ترك حاشيته والتفت إلى موسى هذه المرة: (قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ) [الشعراء:29].

هذا التهديد هو ملاذ العاجز، وحيلة المهزوم، فالباطل لا يستطيع الصمود طويلا أمام الحق، غير أن التهديد لم يُفقد موسى رباطة جأشه، كيف؟ وهو رسول الله! كيف؟ والله معه ينزل السكينة عليه وعلى أخيه في أحلك المواقف.

وإذا بموسى يفتح الصفحة التي أراد فرعون أن يغلقها ويستريح، يفتحها بقولٍ جديدٍ وبرهانٍ ملموس أكيد: (قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ) [الشعراء:30]؟ حتى لو جئتك ببرهان واضح على صدق رسالتي، أتدخلني السجن؟ وأسقط في يدي فرعون أمام الملأ؛ لأنه لو رفض الإصغاء إلى برهانه المبين لدل ذلك على ضعفه وخوفه من حجته، كيف؟ وهو يدعي أنه مجنون.

(قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ) [الشعراء:31-32]، أمام أعينهم العصا تتحول فعلا إلى ثعبان تدب فيه الحياة بإذن الله، ثعبان مبين ظاهر، ليس بسحر ولا تشبيه، فذعر الطاغية.

أورد الطبراني في تفسيره نقله سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: "فألقى عصاه فتحولت حية عظيمة فاغرة فاها، مسرعة إلى فرعون، فلما رآها فرعون أنها قاصدة إليه اقتحم عن سريره واستغاث بموسى أن يكفها عنه، ففعل".

(وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ) [الشعراء:33]، أخرج يده من جيب ثوبه أو قميصه بعد أن أدخلها فيه فإذا هي بيضاء تشع نورا، آيات بينات أمام الملأ تبهر العقول.

لكن؛ هل يستسلم فرعون وملؤه بالرغم من قوة الآيات لهذه الدعوى الخطيرة، دعوة التوحيد؟ هل يستسلمون لربوبية رب العالمين وحكمه؟ وعَلام إذاً يقوم عرش فرعون وتاجه وملكه وحكمه؟ وعلام تقوم مصالح الملأ من قومه ومراكزهم التي هي أصلا من عطاء فرعون ورسمه وحكمه؟ علام يكون هذا كله إن كان الله هو رب العالمين؟.

إن ذلك يعني أن لا حكم إلا لشريعة الله، ولا طاعة إلا لأمر الله، فأين يذهب شرع فرعون وأمره إذاً؟ وهل كان فرعون وملؤه يسفكون الدماء البريئة سنوات عديدة إلا خوفا على هيمنته وسلطانه؟.

أيها الإخوة : إن الطاغوت مراوغ مستميت، لا يستسلم هكذا من قريب، وحتى لو رأى الحقَّ فإنه لا يسلِّم ببطلان حُكْمِه بسهولة، هذا هو طبعه، لا يقبل الحق، ويراوغ؛ ولهذا سرعان ما يتهم الناصح بالسحر، أو بالإرهاب، أو بتكوين مجموعات مسلحة! ويشكك في نواياه.

(قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ * يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ) [الشعراء:34-35]، وفي آية: (يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ)، وهل قال موسى هذا؟ لا، لم يقل! ولكن مقتضى دعوة التوحيد ألا يكون سلطان ولا حكم في الأرض إلا لله -تعالى-، والطغاة يفهمون هذا المقصد.

إذاً؛ فموسى يريد أن يخرجنا من الأرض، يريد أن يذهب بسلطاننا، هذا ما اتفق عليه الملأ، فاستشار فرعون: (فَمَاذَا تَأْمُرُونَ)؟ ماذا ترون على سبيل الاستشارة؟ (قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ * يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ) [الشعراء:36-37].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من سار على نهجه واستن بسنته إلى يوم الدين.

أما بعد: فقد اقترب موعد الحسم، فرعون يجر معه الباطل والكبر والجور، وموسى -عليه السلام- يرفع لواء الحق والعدل وينصر دعوة التوحيد، فإذا بفرعون يرفع عقيرته متحديا موسى، قال: (قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى * فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى * مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى) [طه:57-59].

معاشر الأخوة : إن اليقين بالله -تعالى- من أكبر عوامل نصر المؤمنين، اليقين بالله، ولهذا أقسم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على النصر هو وأصحابه عندما كان في أشد مراحل الصراع ضعفا في مكة، لما قال -كما صح في السنن-: "قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض، ثم يؤتى بالمنشار فيجعل على رأسه فيجعل فرقتين ما يصرفه ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون عظمه من لحم وعصب ما يصرفه ذلك عن دينه، والله! -يقسم، صلى الله عليه وسلم- لَيُتِمَّنَّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضر موت ما يخاف إلا الله -تعالى-، والذئب على غنمه، ولكم تعجلون".

إذاً؛ فلا بُدَّ من اليقين ولو كثر الأعداء واجتمعوا وسيطروا، فاليقين بالله هو الذي جعل موسى يختار مواجهة السحرة في يوم الزينة، وهو يوم عيد من الأعياد الجامعة لديهم، حتى لا يتخلف أحد، حتى يجتمع أكبر عدد من الناس.

واليقين بالله هو الذي جعله يشترط حشر الناس ضحى، في عز نور الشمس، وهو أدعى للنظر، كي يشهدوا قوة الله وضعف أعدائه، هذه الروح الواثقة بالله -تعالى- هي التي تكسر الحجر، وهي التي ترهب الأعداء، وهي التي يقف الطغاة أمامها خانعين ضعفاء.

ولله الأمر من قبل ومن بعد...

اللهم انصر من نصر الدين، واخذل من خذله....


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي