إني -والله- لأعجب كيف يُنال من الله في أرضنا ومن أبنائنا، كيف ينال من الله في مهد الإسلام وأرضه، كيف يُنال من الله من قبل من بذل أسلافه النفس في رفع كلمته؟!! إن حالنا والدين ومَن أنزل الدين حالٌ مزرية؛ فقد خفّ ميزان الدين في نفوسنا، ولم تعد تغار النفوس على ربها أن ينال أحد منه، أو يعرضَ له من قبل الأوباش الملاحدة بسوء، حتى لقد انتقل القالة من السر إلى العلن، بل أصبحوا يجاهرون بذلك في وسائل الاتصال السريعة ..
إنَّ الحمدَ لله، نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه، ونعوذُ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا. من يهده الله؛ فَلا مُضلَّ له، ومن يضلل؛ فلا هاديَ له، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أن محمدًا عبده ورسوله.
أما بعدُ: فإنَّ أصدقَ الحديث كتابُ الله، وخيرَ الهدي هديُ محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشرَّ الأمور مُحـدثاتُها، وكلَّ محدثة بدعة، وكلَّ بدعة ضلالة، وكلَّ ضلالة في النار.
أيها الأحبة في الله، كأني بذلك النبيِّ الكريم أوَّلِ رسل الله الكرام؛ نوحٍ عليه السلام، وهو يدعو قومه ليلاً ونهارًا سرًّا وإعلانًا؛ وهم في ضلالهم يعمهون، ولا يزيدهم حرصه على هدايتهم إلا طغيانًا كبيرًا واستهزاء، ولم يكن ذلك الهزء منهم موجهًا إلى شخصه الكريم عليه السلام، بل امتد إلى الرب الجليل الكريم سبحانه وتعالى؛ مما جعله يقذف بكلمة ملؤها التحسر والغبن، ويكاد قلبه الطاهر عليه السلام تغلي مراجله، بل إن قلبه ليضجّ اشمئزازًا من هول ما يقولون؛ ليقول لهم: (مَالَكُمْ لاَ تَرْجُونَ للهِ وَقَارًا) [نوح: 13]؛ لِم لا تعظِّمون ربكم؟ ولِمَ لا تجلونه وتنزلونه سبحانه المنزلة العالية من التقدير والاحترام؟ وهو ربُّكم وخالقُكم والموجدُ لتلك المنظومة المسخرة في السماوات والأرض من أجلكم.
لقد أكرمكم ربكم سبحانه، ولكنَّكم واجهتم ذلك بالسخرية والاستهزاء، لقد جهلتم حتى لقد بلغ بكم جهلُكم أن خضتم فيما لم تحيطوا به علمًا؛ إنه لعجيبٌ أمرُكم وغريبٌ سعيكم؛ إنه سبحانه يتحبب إليكم بالنعم، وتواجهونه بالمنكرات، حتى لقد حار العقلاء في وصف صنيعكم، لكنه في عرف العقلاء اللؤم والغباء.
لقد افتتح قوم نوح عليه السلام، باب الكفر، وجعلوه مشرعًا لكل راغب في الولوج إلى ربقة الإثم، وجعلوا الاستهزاء بالرب سبحانه وسمًا على صدق الدعوى؛ لذا تجد الرهط الأثيم من أمم الأنبياء السابقين، يتنافسون في الإقذاع، والأنبياء تنهاهم عن هذا الفعل الوخيم ذي العاقبة الأليمة، لكنهم لا يرعوون ولا يزدجرون؛ لتمضي كلمة الله ووعيدُه فيهم بالإهلاك؛ فأهلك قوم نوح وعاد وثمود والأحزاب من بعدهم؛ ليُتْبَعُوا في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة، ألا بعدًا لأولئك القوم وسحقًا..
لا زالت تلك الشنشنة الإبليسية أيها الجمع الكريم، تسري فتتلقفها القلوب الغلف والعقولُ النخرة، حتى إن أمتنا نالها ما نال تلك الأمم، وركبتْ ساقتها حذو القذة بالقذة، لا تكاد تنأى عنها أو تميل؛ فكان من هذه الأمة المحمدية العزيزة على ربها من أساء الأدب مع ربِّه، وقذف بالأذى تجاه خالقه سبحانه، لقد كان ذلك في الزمن القديم، عند حدوث المعترك بين النبي صلى الله عليه وسلم وقومه السفلة الكفرة، لقد أسمعوا محمدًا صلى الله عليه السلام ما يؤذيه في ربِّه، وكذلك الصحابةُ سمعوا من المنافقين شيئًا إدًا وقولَ زور كريهًا؛ فكان الله لهم بالمرصاد لعنًا وطردًا وإهلاكًا، وفي الآخرة مصيرُ السوء ينتظرهم (إِنَّ الَّذِيْنَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُوْلَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهمْ عَذَابًا مُهِيْنًا) [الأحزاب: 57].
ولا يزال إبليس يمرر ذلك المنكر ويروِّج له، ويجعله بزخرفه وتزيينه علامة للمعرفة والثقافة، كما أن الانعتاق من ربقة العبودية علامةٌ على التطور، فأنت لا تأخذ بأسباب الحضارة وتُنْظمُ في سلك التقدم حتى تكفر، وحتى تتبع الكفر كُليماتٍ تهزأ فيها بالدين ومشرع الدين، وذلك من مكر الشيطان وتوهيمه؛ لذا ترى كلَّ من لحق بِشِرْعَةٍ أو نحلة، ومنذ بواكير الدعوة يأخذ بهذا النهج المقيت، لقد سبُّوا الله في علاه وانتقصوه سبحانه، حتى إن الأبدان لتقشعر مما تقذفه ألسنتهم، وتروِّج له أبواقهم....
ولكن والحق يقال: لقد تعامل من كان قبلنا مع هذا الغلو والإرهاب القولي تعاملاً حازمًا، مما ألجأهم إلى الخزي؛ فلم تَعُد تُسمَع تلك الترهات، ووِئدت بسبب من ذلك الحزم تلك الهرطقات المجنونة؛ لقد تُتِبِّع أولئك الشواذ؛ فَأُعمِلَ السيف فيهم قتلاً وصلبًا وتقطيعًا، لقد ضُحِّي بالجعد بن درهم غداة عيد الأضحى عندما أساء الأدب مع الله، وصلب الحلاج عندما قال في الله قولاً قبيحًا، في عدد كثير من الزنادقة أحصت كتب التاريخ أسماءهم وسِيَرهم.
لقد كان الحكام السابقون على اختلاف توجهاتهم صلاحًا أو تقصيرًا، لا يرضون أن يمس الجناب الإلهي ولو بكلمة واحدة؛ لذا ترى الحكام كانوا حزمًا في مواجهة تلك الطغمة المفترية على ربها؛ فأنشئوا ديوانًا عرف بديوان الزنادقة أو الزندقة، وكانت مهمته تتبعَ الملاحدة الكفرة ومن كانوا على قول مائل عن الصواب في ذات الله أو الدين، وكانت لديوان الزندقة هيبته، وقد كان عمله مبنيًّا على التحري والتثبت، ولم يكونوا يأخذون أحدًا على الظنة؛ لذا عندما يأخذ صاحب الزندقة أحدًا؛ فالهلاك ولا ريب.
وبذا استقام الدين عند أولئك القوم، لقد حفظوا لله جلاله؛ فحفظهم الله، وأعزوه في نفوسهم، فرزقهم الله العزة والمكانة بين عباده، جزاء وفاقًا، بل إن الأمة في تلك العصور ما ضحَّت بزنديق كافرٍ إلا أعقبها الله نصرًا وتمكينًا، ولكن ما حالنا في هذه العصور أيها الجمع الكريم، مع الزنادقة وأصحاب الأقوال الكفرية؛ إنها وربي حال مزرية، ولنا وقفات معها في الخطبة الثانية إن شاء الله.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب؛ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله على إحسانه، ونشكره على توفيقه وامتنانه، ونصلي ونسلم على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وأصحابه وإخوانه، وسلم تسليمًا.
أما بعدُ: فيا أيها الأحبة في الله، حالنا والدين ومن أنزل الدين حال مزرية؛ فقد خفّ ميزان الدين في نفوسنا، ولم تعد تغار النفوس على ربها أن ينال أحد منه، أو يعرضَ له من قبل الأوباش الملاحدة بسوء، حتى لقد انتقل القالة من السر إلى العلن، بل أصبحوا يجاهرون بذلك في وسائل الاتصال السريعة وأكثرها انتشارًا؛ لكي يضمنوا انتقال الألم والحزن لكل نفس مسلمة.
ولا يزال أولئك الزنادقة يقولون، والمجتمع حاكمًا ومحكومًا في سكوت؛ مما جعلهم يزدادون غلوًّا ووقاحة، وهذا والله مؤشر على الخذلان، وبالاستمرار لن نزداد من الله إلا بعدًا ومقتًا، وقد يأخذنا الله بعذاب من عنده؛ إني والله لأعجب كيف يُنال من الله في أرضنا ومن أبنائنا، كيف ينال من الله في مهد الإسلام وأرضه، كيف يُنال من الله من قبل من بذل أسلافه النفس في رفع كلمته؟ لكنها الحقيقة المرة التي يجب أن نعيَها ونتعاملَ معها وفق معطياتها الشرعية، وهي قتل من قال كلمة سوء في الله أو دينه أو نبيه، ولو تاب، وتوبته بينه وبين ربه، لو طبِّق هذا الحكم لانقمعت رايةُ الكفر والنفاق والزندقة، ولأبدلنا الله بالذل عزًا ونصرًا وتمكينًا.
إن ما تسمعون أيها الجمع، من إساءة لله ودينه ونبيه محمد صلى الله عليه والسلام، ما هو إلا مؤامرة محكمة الصنع تأخذ بمبدأ التدرج، ولا نهاية لها إلا بتقويض الدين ورسومه، أدركنا ذلك أم تعامينا؛ فلقد كانت البداية منهم في الصحابة لمزًا، وبدءوا بالجانب الأضعف معاوية رضي الله عنه وأرضاه، وبحسن قصد خاض معهم من خاض من أهل السنة.
ولما رأوا أن المجتمع قد تشرب هذا المكر، بدءوا بنبي الأمة محمد صلى الله عليه والسلام؛ فلمزوه وسخروا منه، وها هم الآن يرتقون مرتقى صعبًا؛ فينالون من الله جل في علاه، وقد وُجِهوا وعندما ضُيِّق عليهم ورأوا الجد في المحاسبة تبرءوا، وهم يراهنون على أن المجتمع ينسى وأن حميته لربه تقل بمرور الأيام؛ ليتسنى لهم بعد ذلك القول، وهذا لن يكون إن شاء الله وفينا عين تطرف.
ومن هنا أهيب بكم وأنتم أهل الدين والغيرة على حماه أن لا تسكتوا عن أصحاب المقولات الفاسدة؛ عليكم بالإنكار عليهم، والدعوة إلى محاكمتهم، كما أهيب بالحكام حكام أهل هذه البلاد، ومن يعلنون الشرف بحماية العقيدة أن ينبروا لأولئك الفاسدين المفسدين، وأن يطيحوا بهم وبرؤوسهم، وفي ذلك تمام الملك ودوامُه، واعلموا أن الله ناصر من نصره، ومن خذل الله فإن الله خاذله ولا ريب، والجزاء من جنس العمل.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي