ولاء المنافقين للكافرين، ولو عاشوا بين ظهراني المسلمين، وقلوبهم مع أعداء الدين، وإن كانوا بألسنتهم وأجسامهم وعدادهم في المسلمين، يخشون الدوائر فيسارعون للولاء والمودة للكافرين، ويسيئون الظن بأمتهم فيرتمون في أحضان أعدائهم ويزعمون إبقاء أيادٍ عند الكافرين تحسبًا لظفرهم بالمسلمين: (فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِم يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ) ..
أما بعد:
فيا عباد الله: اتقوا الله حق التقوى...
معاشر المسلمين: إن للمسلم نظرة خاصة متميزة إلى حوادث التاريخ، منتزعة من عقيدته وقرآنه، الذي يعرض عليه مصارع الظالمين المتجبرين، عرضًا حيًّا موحيًا، ويبعث في قلبه الأمل، وهو في أقصى درجات الضعف والمحاصرة من قبل أعدائه، الذين هم أعداء الحق ابتداءً، وهذه النظرة لها أدلتها الكثيرة التي يصعب حصرها من الكتاب والسنة، ومن العجب أن يتسرب إلى هذه الحقيقة أدنى شك في حس المسلم الذي يتلو القرآن الكريم ويفهم معانيه، ويعرف طرفًا من سيرة نبيه وجهاده وجهاد أصحابه.
ولكننا في زمن أُبعِدَ فيه -قصدًا- أهلُ القرآن وأهل السنة عن دروب التوجيه والتأثير، وأُقصوا عن رسم السياسات الإعلامية والثقافية والاقتصادية والعسكرية، وأُحِلّ بدلاً منهم -قصدًا أيضًا- نفرٌ تقمموا موائد أعداء الإسلام حتى أُتخموا من فُتاتها، وخرجوا على الناس؛ بقلوبهم المنخوبة، وعقولهم الممسوخة، يُخَذّلون بني قومهم من العرب والمسلمين، ويشيعيون بينهم روح الضعف والخوف والخور، وعقدة الشعور بالنقص والتبرؤ من عوامل القوة والعزة التي يستمدونها من دينهم وتاريخهم، ويغرسون في النفوس حتمية زائفة مضمونها أن دول الكفر قوة لا تقهر، وأن الحياة والسعادة في تلبية مطالبها، والإذعان لرغباتها، وأن الموت والدمار، والفقر والحياة النكدة في التصدي لها ورفض ما تريد.
وإننا نجد في كتاب ربنا -سبحانه وتعالى- وسنة نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- قصصًا وأحداثًا لا يفهمها حق الفهم إلا من يواجه مثل الظروف التي حدثت أول مرة، هنا تتفتح النصوص عن رصيدها المذخور، وتتفتح القلوب لإدراك مضامينها الكاملة، وهنا تتحول تلك النصوص من كلمات وسطور إلى قوىً وطاقاتٍ.
وإن الإنسان ليقرأ النص القرآني مئاتِ المرات؛ ثم يقف الموقف، أو يواجه الحادث، فإذا النص القرآني جديد، يوحي إليه بما لم يوحِ من قبلُ، ويجيب على السؤال الحائر، ويفتي في المشكلة المعقدة، ويكشف الطريق الخافي، وليس ذلك لغير القرآن في قديم ولا حديث.
معاشر المسلمين: لقد سعى زعماء يهود بني النضير في السنة الخامسة من الهجرة لإقامة تحالف كبيرٍ يستطيع مجابهة المسلمين، وقد نجحوا في ذلك؛ فقام تحالف من يهود بني النضير، وقريشٍ وحلفائِها، وأعراب غطفان، وكان هذا أكبر تجمع يتعاقد عليه أعداء الإسلام منذ بداية الصراع بين المسلمين وأعدائهم في الجزيرة العربية، جاؤوا بخيلهم ورجلهم يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم، يريدون القضاء على الإسلام.
سمع النبي بمسيرهم، فاستشار الصحابة -كعادته في مثل هذه الأمور الخطيرة-، فأشار سلمان بحفر خندق يمتد بين طرفي الحرتين من جهة الشمال، وهكذا تكون المدينة محصنة من جهاتها الأربع، وقد تم حفر هذا الخندق خلال مدة قصيرة، وشارك فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بنفسه مشجعًا الصحابة على بذل أقصى طاقاتهم.
فوجئ العدو بهذه المكيدة التي لا تعرفها العرب، واتخذ المسلمون خطة الدفاع من وراء الخندق، واستمر الحصار أربعة وعشرين يومًا عانى المسلمون فيها من البرد والسهر، والخوف والجوع شيئًا عظيمًا، وكانوا كما قال الله: (وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَـارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِللَّهِ الظُّنُونَاْ) [الأحزاب: 10].
ومما زاد الأمر شدة تخاذل المنافقين وإرجاف المرجفين كما قال الله: (وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَـافِقُونَ وَلَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً) [الأحزاب: 12].
وبعد أن نقض بنو قريظة عهدهم مع المسلمين وانضموا إلى تحالف الأحزاب، صار المسلمون بين عدوين يتربصون بهم كما وصف الله (إِذْ جَاءوكُمْ مّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ) [الأحزاب: 10]، ولم تنقطع محاولات المشركين لاقتحام الخندق، حتى إن الرسول والمسلمين معه لم يتمكنوا في أحد الأيام من صلاة العصر، فما صلوها إلا بعد غروب الشمس، ورغم هذه المعاناة الشديدة فقد ثبت المسلمون الصادقون ثبوت الجبال الرواسي، وعلم الله ما في قلوب المؤمنين من الثبات والعزيمة، فأنزل نصره عليهم وأرسل (ريحاً وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا) [الأحزاب: 9]، وكان العدو قد ملّ الحصارَ، وتهيأ للرحيل، وانسحب التحالف، وكفى الله المؤمنين القتال، وأعز الله جنده، وهزم الأحزاب وحده.
معاشر المسلمين: وإتمامًا لهذا النصر العظيم نزل جبريل -عليه السلام- وطلب من الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن ينهض لجهاد بني قريظة الذين نقضوا العهد في أحلك المواقف والمسلمون في ضيق شديد، فحاصرهم رسول الله حتى نزلوا من صياصيهم على أن يحكم فيهم سعد بن معاذ؛ لظنهم أن سعدًا سيخفف عنهم العقوبة بسبب حلفهم القديمِ مع الأوس، ولكن سعدًا لم تأخذه في الله لومة لائم، فحكم بقتل الرجال، وسبي النساء والأولاد وأخذ الأموال، وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة"، وهكذا قُضي على آخر معقل من معاقل يهود في المدينة واستراح المسلمون منهم.
معاشر المسلمين: ما تقدَّم نبذة يسيرة عن الغزوة التي علق عليها القرآن أعظم تعليق، يصور نماذج البشر وأنماط الطباع، يصور القيم الثابتة والسنن الباقية التي لا تنتهي بانتهاء الحادث، فهلم لنأخذ شيئًا من الوقفات التي أشار إلى وصفها القرآن وذكرت بعضها السنة، ونزلت سورة باسمها نستلهم منها الدروس والعبر والفوائد.
فمن ذلك -إخوة الإسلام- تكالب الكفر على المسلمين، لقد تمالأ العرب واليهود في الجزيرة، وقاد أبو سفيان أضخمَ جيش شهدته جزيرة العرب الذي كان عشرةَ أضعافِ جيشِ بدرٍ وقرابة أربعة أضعاف جيش أحد، إضافة إلى العدو الداخلي يهود بني قريظة الذين نقضوا العهد وانضموا إلى الأحزاب.
لقد جاء الكفر جملة واحدة وكما وصفهم -عليه السلام-: "لقد رأيت العرب رمتكم عن قوس واحدة، وكالبوكم من كل جانب"، وإذًا فلا بد أن يقرَّ في حس المسلمين أن الكفر كلَّه قد يلتقي في مرحلة من المراحل على إبادة الإسلام والمسلمين ويتناسى ما بينه من عداوات؛ لأن الكفر ملة واحدة في الحقيقة؛ ولأنهم جميعًا حرب على الإسلام؛ لأنهم يشتركون في الخطر المحدق بهم من ظهور الدين الحق الذي يقطع مصالحهم في استعباد الناس وتسخيرهم لأهوائهم.
إخوة الإسلام: أصيب سعد بن معاذ بجراحة عميقة في أكحله -عرق في الذراع-، فدعا الله قائلاً: "اللهم إن كنت أبقيت من حرب قريش شيئًا فأبقني لها، فإنه لا قومٌ أحب إليَّ أن أجاهدهم من قوم آذوا رسولك وكذبوه وأخرجوه، وإن كنت وضعت الحرب بيننا وبينهم فاجعلها لي شهادة ولا تمتني حتى تقر عيني من بني قريظة". وهذه الدعوة من سعد تصور مبلغ ما انطوت عليه قلوب المسلمين من غيظ لخيانة يهودٍ وتمزيقها المعاهدة القائمة.
إن اليهود قد جمعوا مع الغدر اللؤم والخسة، فلقد تبين أن حرص بني قريظة -في الأول- على التزام العهد إنما كان خوفًا من عواقب الغدر فقط، فلما ظنت أن المسلمين أحيط بهم من كل جانب وأنها لن تؤاخذ على خيانة أسفرت عن خيانتها وانضمت إلى المشركين المهاجمين، ولا بد أن تفهم الأمة الإسلامية دومًا من نصرة الكافرين على المسلمين ما فهمه الصحابة من فعلة اليهود. إنها محاولة متعمدة للإجهاز على هذه الأمة ودينها وتسليمها إلى من يقتل رجالها ويسترق نسائها ويبيع ذراريها في الأسواق، وإلا فماذا يستطيع الإنسان أن يفهم من هذه المعونة، قد يعمل إنسان حياته كلها بعمل أهل الجنة ثم يختمها بعمل أهل النار، في خيانة صريحة للإسلام والمسلمين.
معاشر المسلمين: المنافقون أصحاب المصالح والأهواء ليس لهم قرار واضح ولا قاعدة ثابتة، تراهم مع المؤمنين تارة ومع الكافرين تارات، رسل فساد وأصل كل بلية وهزيمة: (لَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مّنَ اللَّهِ قَالُواْ أَلَمْ نَكُنْ مَّعَكُمْ وَإِن كَانَ لِلْكَـافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُواْ أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مّنَ الْمُؤْمِنِينَ فَللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَـامَةِ وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَـافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً) [النساء: 141].
ولاء المنافقين للكافرين، ولو عاشوا بين ظهراني المسلمين، وقلوبهم مع أعداء الدين، وإن كانوا بألسنتهم وأجسامهم وعدادهم في المسلمين، يخشون الدوائر فيسارعون للولاء والمودة للكافرين، ويسيئون الظن بأمتهم فيرتمون في أحضان أعدائهم ويزعمون إبقاء أيادٍ عند الكافرين تحسبًا لظفرهم بالمسلمين: (فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِم يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ) [المائدة: 52].
المنافقون هم الأعداء الحقيقيون للمسلمين، وهم الذين خططوا لأعظم نكبات المسلمين، هم رسل الفساد وعقارب النفاق: (هُمُ الْعَدُوُّ فَحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) [المنافقون: 4].
لقد كان موقف المنافقين عندما تكالب الكافرون وتحزبوا على المسلمين متسمًا بالجبن والإرجاف وتخذيل المؤمنين، وقد وردت روايات ضعيفة تحكي أقوالهم في السخرية والإرجاف والتخذيل، ولكن القرآن الكريم تكفل بتصوير ذلك أدق التصوير، فقد وجد هؤلاء في الكرب المزلزل، والشدة الآخذة بالخناق فرصة للكشف عن خبيئة نفوسهم، وهم آمنون من أن يلومهم أحد؛ وفرصةً للتوهين والتخذيل وبث الشك والريبة في وعد الله ووعد رسوله: (وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَـافِقُونَ وَلَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً) [الأحزاب: 12].
ومثل هؤلاء المنافقين والمرجفين قائمون في كل عصر ومصر، وموقفهم في الشدة هو موقف إخوانهم المنافقين هؤلاء؛ فهم نموذج مكرر في الأجيال والجماعات على مدار الزمان.
(وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مّنْهُمْ ياأَهْلَ يَثْرِبَ لاَ مُقَامَ لَكُمْ فَرْجِعُواْ) [الأحزاب: 13]، فهم يحرضون أهل المدينة على ترك الصفوف، والعودة إلى بيوتهم: (وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مّنْهُمُ النَّبِىَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ)، يستأذنون بحجة أن بيوتهم مكشوفة للعدو، متروكة بلا حماية، وهنا يكشف القرآن عن الحقيقة، ويجردهم من العذر والحجة: (وَمَا هِىَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَاراً)، ويضبطهم متلبسين بالكذب والاحتيال والجبن والفرار: (إِن يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَاراً).
وهؤلاء المنافقون من أنشط الناس عند الفتن، وأكثرهم استعدادًا لنقض العهود؛ ما يوضح وهَنَ العقيدة، وخَوَرَ القلوب، والاستعدادَ للانسلاخ من الإسلام بمجرد مصادفة، غير مبقين على شيء، ولا متجملين لشيء:
(وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مّنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُواْ الْفِتْنَةَ لاَتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُواْ بِهَا إِلاَّ يَسِيراً) [الأحزاب: 14]، ذلك كان شأنهم، والأعداء بعدُ خارجَ المدينة؛ ولم تقتحم عليهم بعد، فأما لو وقع واقتحمت عليهم المدينة من أطرافها، ثم سئلوا الفتنة وطلبت إليهم الردة عن دينهم لآتوها سراعًا غير متلبثين، ولا مترددين إلا قليلاً من الوقت: (وَلَقَدْ كَانُواْ عَـاهَدُواْ اللَّهَ مِن قَبْلُ لاَ يُوَلُّونَ الاْدْبَـارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولاً) [الأحزاب: 15].
ثم يبيّن لهم سبحانه أن الفرار لا يدفع أمر الله ولا يطيل العمر: (قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِن فَرَرْتُمْ مّنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لاَّ تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً * قُلْ مَن ذَا الَّذِى يَعْصِمُكُمْ مّنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مّن دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً) [الأحزاب: 16، 17].
إن قدر الله هو المسيطر على الأحداث والمصائر، يدفعها في الطريق المرسوم، وينتهي بها إلى النهاية المحتومة، والموت أو القتل قدر لا مفر من لقائه في موعده، لا يستقدم لحظة ولا يستأخر.
ويرسم القرآن للمنافقين صورة تثير الاحتقار لهم، صورة للجبن والانزواء، والفزع والهلع في ساعة الشدة، والانتفاشِ وسلاطة اللسان عند الرخاء، والشحِّ على الخير والضن ببذل أي جهد فيه، والجزع والاضطراب عند توهم الخطر من بعيد.
(قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوّقِينَ مِنكُمْ وَلْقَائِلِينَ لإِخْونِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلاَ يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً * أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاء الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدورُ أَعْيُنُهُمْ كَلَّذِى يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أوْلَـئِكَ لَمْ يُؤْمِنُواْ فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَـالَهُمْ وَكَانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً * يَحْسَبُونَ الاْحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُواْ وَإِن يَأْتِ الاْحْزَابُ يَوَدُّواْ لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِى الاْعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُواْ فِيكُمْ مَّا قَاتَلُواْ إِلاَّ قَلِيلاً) [الأحزاب: 18 ـ 20].
مثيرة للسخرية تلك الصورة، المنافقون بعد أن يذهب الخوف ويجيء الأمن: (فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ) خرجوا من الجحور، وارتفعت أصواتهم بعد الارتعاش، وانتفخت أوداجهم بالعظمة، وانتفشوا بعد الانزواء، وادعوا في غير حياء، ما شاء لهم الادعاء، من البلاء في القتال والفضل في الأعمال، والشجاعة والاستبسال.
(أوْلَـئِكَ لَمْ يُؤْمِنُواْ فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَـالَهُمْ وَكَانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً). لقد نافق أقوام بسبب إرجافهم وتخذيلهم، ونعى القرآنُ عليهم ذلك فكيف لو ناصروا قريشًا وأحلافها!! إنها الردة ولو كان صاحبها متعلقًا بأستار الكعبة.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم...
الحمد حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، وصلاة الله وسلامه على أشرف المرسلين.
أما بعد:
فيا عباد الله: إن معركة الأحزاب ليست معركة خسائر، وإنما هي معركة عقيدة وإيمان، فقتلى الفريقين من المؤمنين والكفار يعدّون على الأصابع، ومع هذه الحقيقة فهي من أهم المعارك في تاريخ الإسلام، فلقد كانت ابتلاءً كاملاً وامتحانًا دقيقًا وتمييزًا بين المؤمنين والمنافقين، فلقد اشترك الجميع في الشعور بالكرب، ولم يختلف الشعور من قلب إلى قلب، وإنما الذي اختلف هو استجابة تلك القلوب وظنها بالله، وسلوكها في الشدة، ويقينها بالنصر، واطمئنانها وقت الزلزال، فلقد نافق أقوام وظنوا بالله الظنون وحاولوا في ثني المؤمنين عن الجهاد والتسليم للكافرين لكي يذلوهم ويخنقوا الإسلام معهم: (وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مّنْهُمْ ياأَهْلَ يَثْرِبَ لاَ مُقَامَ لَكُمْ فَرْجِعُواْ).
معاشر المسلمين: وفي أحلك المواقف كان النبي يربي أصحابه على الثقة بموعود الله وعلى التفاؤل وعدم اليأس والاستكانة للكافرين، فيجتمع الكفر على المؤمنين معاديًا لهم ينوي استئصالهم، ومع ذلك والصحابة يعانون في حفر الخندق تعترض لهم صخرة في الخندق، أعيتهم، فجاء النبي وأخذ المعول فقال: "بسم الله"، ثم ضرب ضربة، وقال: "الله أكبر، أعطيت مفاتيح الشام، والله إني لأنظر قصورها الحمر الساعة"، ثم ضرب الثانية فقطع آخر، فقال: "الله أكبر، أعطيت فارس، والله إني لأبصر قصر المدائن الأبيض الآن"، ثم ضرب الثالثة، فقال: "بسم الله"، فقطع بقية الحجر، فقال: "الله أكبر، أعطيت مفاتيح اليمن، والله إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني". رواه أحمد والنسائي وحسنه ابن حجر.
يقول ذلك في هذه المرحلة الحرجة ليبشر المؤمنين ويعلِّمَهُم درسًا في التفاؤل والثقة بنصر الله، ثم يأتيه الخبر بنقض بني قريظة للعهد فيقول: "الله أكبر، أبشروا يا معشر المسلمين".
وفي قلب هذه المحنة وشدة هذا الهول يقول: "إني لأرجو أن أطوف بالبيت العتيق وآخذ المفتاح، وليهلكن الله كسرى وقيصر، ولتنفقن أموالهم في سبيل الله"، وصدق المؤمنون بهذه البشارات لإيمانٍ في قلوبهم، أما المنافقون فقال قائلهم: كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط: (وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَـافِقُونَ وَلَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً).
معاشر المسلمين: وحين تبذل الطاقة البشرية كلها، جهدًا ومالاً وقوة في الدفاع والذود عن حياض الإسلام، ثم تنقص الوسائل ويتفوق الكافرون بما عندهم من السلاح والعتاد والأحلاف؛ فالله بعد ذلك هو الذي يتولى عباده المؤمنين.
ولقد ظهرت معجزاتٌ للنبي في حفر الخندق لتؤكد أن الله تعالى هو الذي يهزم العدو وينصر حزبه: "لا إله إلا الله وحده، صدق وعده، ونصر جنده، وهزم الأحزاب وحده"، وحرص الرسول أن يؤكد لصحبه ثم للمسلمين في الأرض أن الأحزاب التي تتجاوز عشرة آلاف مقاتل لم تهزم بالقتال من المسلمين رغم تضحياتهم ولم تهزم بعبقرية المواجهة، وإنما هزمت بالله وحده، وما يسره من أسباب (ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً) [الأحزاب:9].
إن النصر بيد الله، فإذا نَصَر المؤمنين فلا ضرر عليهم إذا خذلتهم الأقطار الإسلامية كلها، بل وحتى لو نصرت الكافرين، فلن يغلبوا من نصر اللهُ يقينًا: (إِن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِى يَنصُرُكُم مّنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) [آل عمران:160].
معاشر المسلمين: وحيث إن المعركة معركة عقيدة، فلا بد من اللجوء إلى الله تعالى أن يكشف الغم، ويزيل الكرب، ويدحر العدو، فعن عبد الله بن أبي أوفى -رضي الله عنه- قال: دعا رسول الله يوم الأحزاب فقال: "اللهم منزل الكتاب، سريع الحساب، اهزم الأحزاب، اللهم اهزمهم وزلزلهم". رواه البخاري.
ويُختم الحديث في القرآن عن الحدث الضخم بعاقبته التي تُصدِّق ظن المؤمنين بربهم؛ وضلال المنافقين والمرجفين وخطأ تصوراتهم؛ وتثبت القيم الإيمانية بالنهاية الواقعية: (وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُواْ خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً * وَأَنزَلَ الَّذِينَ ظَـاهَرُوهُم مّنْ أَهْلِ الْكِتَـابِ مِن صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِى قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَـارَهُمْ وَأَمولَهُمْ وَأَرْضاً لَّمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلّ شَىْء قَدِيراً).
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي