هذه فلسفة النهضة والبناء كما يصورها الإسلام، لا نهضة ولا بناء ولا رقي إلا أن يبدأ ذلك من الداخل، من دواخل النفوس، مجتمع يتراحم مع بعضه، وينشر ثقافة التوادّ بين أبنائه، ويؤسس للغة التعاطف مع ذويه، ويرفع راية التعاون خافقة في كل الجنبات، كما مثَّله نبي الإسلام بأنه: "كمثل الجسد الواحد؛ إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالحمى والسهر" ..
عندما نستقرئُ التأريخ، ونستعرض مفرداته، ونرحل في جنباته، وفي حقبة من حقباته في قلب الجزيرة العربية، يتوجه بنا المسير إلى مكة المكرمة، لوحة مكتوب عليها (وَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ)، خال من البناء والعمران، ويا له من واد! منه استمدت دنيا الحضارة خصبها، وفنها، ونماءها، منه سال الماء الذي روى فيافي الجزيرة فشفى عطاشها.
يجيء المرسوم الإلهي لإبراهيم -عليه السلام-، برفع قواعد البيت الحرام، وبناء الكعبة وتشييدها مثابة للناس وأمنا.استقبل إبراهيم التكليف ونظر إليه بتشريف فقَالَ: يَا إِسْمَاعِيلُ، إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي. قَالَ: فَاصْنَعْ مَا أَمَرَكَ. قَالَ: وَتُعِينُنِي؟ قَالَ: وَأُعِينُكَ. قَالَ: وَتُعِينُنِي؟ قَالَ: وَأُعِينُكَ. قَالَ: فَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أَبْنِيَ هَاهُنَا بَيْتاً... فَرَفَعَا قَوَاعِدَ الْبَيْتِ وَهُمَا يَقُولاَنِ: (رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) [البقرة-127].
وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل.. هذا التعاون الثنائي على رفع قواعد البيت الحرام وتشييده ينطلق مدويا في حقب التأريخ، مبدأ عالميا: ارفعوا جميعا قواعد البناء لحياتكم وشيدوا مع بعضكم حضاراتكم، فاليد الواحدة لا تنجز بناء، ولا تقيم إلا أشلاء.
وقبل اشتداد العمران لابد من اشتداد السواعد، وقبل متانة البناء لابد من متانة القلوب، وقبل قيام الأوطان لابد من اجتماع الأبدان، ذلك ما صوره خبير بناء الأمم -عليه الصلاة والسلام- حين رسم حالة المجتمع القوي بأنه: "كالبنيان؛ يشدُّ بعضه بعضا"، فالحجر وحدها ضعيفة مهما تكن متانتها، والآف الأحجار المبعثرة المتناثرة لا تصنع شيئا، ولا تكون بناء؛ إنما يتكون البناء القوي من الأحجار المتماسكة المتراصة، والمجتمع لا يبنى إلا بصفوف أبنائه المنتظمة، وأياديهم المتحدة، وسواعدهم المتماسكة.
أيها الإخوة في الله: هذه فلسفة النهضة والبناء كما يصورها الإسلام، لا نهضة ولا بناء ولا رقي إلا أن يبدأ ذلك من الداخل، من دواخل النفوس، مجتمع يتراحم مع بعضه، وينشر ثقافة التوادّ بين أبنائه، ويؤسس للغة التعاطف مع ذويه، ويرفع راية التعاون خافقة في كل الجنبات، كما مثَّله نبي الإسلام بأنه: "كمثل الجسد الواحد؛ إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالحمى والسهر".
فهو ترابط عضوي لا يستغني فيه جزء عن آخر، ولا ينفصل عنه، ولا يحيا بدونه، فلا يستغني الجهاز التنفسي عن الجهاز الهضمي، أو كلاهما عن الجهاز الدموي أو العصبي، فكُلُّ جزءٍ متمم للآخَر، وبتعاوُن الأجزاء وتلاحمها يحيا الكل، ويستمر نماؤها وعطاؤها، ويستمر نماء المجتمع وعطاؤه بمثل ذلك.
مجتمع أسسه محمد -عليه الصلاة والسلام-، وأنت تسير في شوارع المدينة النبوية يومها؛كان أبرز مواصفاته (رُحَمَاء بَيْنَهُمْ) [الفتح:29]، يعني: يشد القوي إزر الضعيف، يأخذ الغني بيد الفقير، ينير العالم الطريق للجاهل، يرحم الكبير الصغير، يوقر الصغير الكبير، يعرف الجاهل للعالم حقه، يقف الجميع صفا واحدا في الشدائد.
لا يمكن! مستحيل أن ينهض مجتمع يضمر أفراده العداوة لبعضهم! يراهم الناس جميعا أينما اجتمعوا لكن قلوبهم شتى؛ والسبب في هذا الرياء الاجتماعي ضعف عقولهم: (تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ) [الحشر:14].
لا يقوم مجتمع أو يبني نهضته إلا بالاهتمام بالبدايات، فلا نجعل الخلاف بيننا في الأقوال والمذاهب، في الحكم والسياسات والمصالح الشخصية، حائلاً يحول بيننا وبين تحقيق الأخوة الإيمانية، والتعاون على البر و التقوى؛ بل نجعل الخلافات كلها تبعاً لهذا الأصل الكبير، فمصلحة الاجتماع مصلحة كلية، والوحدة والألفة منعه لنا من التفكك.
المجتمع الذي قيل له: (وَتَعَاوَنُواْ) [المائدة:2]، فاستجاب مجتمع يشق طريقه لمستقبل أفضل.
المجتمع الذي نجد فيه إغاثةَ الملهوف، وإعانةَ المحتاج، وإيواءَ التائه، ونصرةَ المظلوم على نطاق واسع، هو مجتمع تقل فيه الويلات والمآسي والمظالم.
المجتمع الذي يجتنب أفراده الحديث الجانبي عن بعضهم البعض ولا يسمح لهذه الفيروسات أن تنتشر في أروقته، ويسعى لمكافحتها، والتقليل من ضررها، مجتمع تعلو راية الحب، والأمان، والاستقرار بين أبنائه عالية خافقة.
المجتمع الذي يجتنب أفراده على نطاق واسع "الغيبة"، وهي ذكرك أخاك بما يكره، "والنميمة"، وهي نقل القول للإفساد، وغير ذلك من أسباب البلايا والخلافات، هو مجتمع ينعم براحة أكبر، واطمئنان أوفر، وتسوده أجواء المحبة والألفة والتواد.
أيها الإخوة: تأملوا في قول الله تعالى: (لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا) [النساء:114]. يقول: لا خير. لا خير في كثير من أحاديثهم التي تفرق ولا تجمع، التي تشتت ولا توحد، التي تهدم ولا تبني، لا خير فيها، نظفوا شواركم من النجوى عن بعضكم البعض، وتوجهوا لما هو أرقى، لما هو أخير, إلّا مَن أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس. نعم؛ هي لوحات ثلاث، من يعمل بها أو يطبقها ابتغاء وجه الله فله وسام الشرف، وهامة العلا، فسوف يؤتيه الله أجرا عظيما.
أيها الإخوة: التعاون برهان الأخوة، احفظوها، أوليس الله قد قال: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) [المائدة:2].
هذا التعاون هو صفات الكائنات جميعًا في الكون، فلا يستطيع كائن أن يحيا بمفرده دون أن يكون في حاجة إلى مساعدة أخيه، فالطيور تعيش في جماعات، والحيوانات تعيش في جماعات ترعى معًا، وتخرج للصيد معًا.
وقَدْ سخَّرَ اللهُ -عزَّ وجلَّ- الناسَ بعضَهُمْ لبعضٍ فِي الغذاءِ والكساءِ والتصنيعِ والحمايةِ، فلاَ يستطيعُ أحدٌ أنْ يستقِلَّ بنفسِهِ؛ لذلكَ لاَ بدَّ مِنَ التعاونِ بينَ النَّاسِ لقيامِ المجتمعاتِ، وبناءِ الحضاراتِ, وتقدُّمِ الشعوبِ ورفعتِهَا وازدهارِهَا, ولاَ يمكِنُ أَنْ يعيشَ الفردُ بدونِ معونةِ الآخرينَ, ولاَ يحيَا حياةً آمنةً مطمئنَّةً بدونِ تعاونٍ معَ غيرِهِ.
يا سادة: التعاونُ هو لغة المجتمع المتَماسكِ، وسر قوَّتِهِ، وعلامة نَشْرِ المحبَّةِ فيهِ, وتحقيقِ التَّكافُلِ بينَ أفرادِهِ, قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَن كان معه فضل ظهر فلْيعُدْ به على من لا ظهر له، ومن كان له فضل من زاد فلْيعُدْ به على من لا زاد له" رواه مسلم وأبو داود، "وعَوْنُكَ الضعيفَ بِفَضْلِ قُوَّتِكَ صدقة" رواه أحمد.
اسمعوا لهذه اللوحات الواضحات التي علقها نبيكم في مختلف شوارع الإسلام ورفعها صحابته الكرام في بيوتهم: "أحب الناس إلى الله أنفعهم، وأحب الأعمال إلى الله عز وجل سرور تدخله على مسلم، أو تكشف عنه كربة، أو تقضي عنه دينا، أو تطرد عنه جوعا، ولأن أمشي مع أخي المسلم في حاجة أحب إليّ من أن اعتكف في المسجد شهرا، ومَن كَفَّ غضبه ستر الله عورته، ومن كظم غيظا ولو شاء أن يمضيه أمضاه ملأ الله قلبه رضاً يوم القيامة، ومن مشى مع أخيه المسلم في حاجته حتى يثبتها له أثبت الله -تعالى- قدمه يوم تزل الأقدام، وإن سوء الخلق لَيُفْسِدُ العمل كما يفسد الخل العسل".
الله! ما أروعها من لوحات لو فطن لها الآخرون لعلقوها في شوارعهم، ولوضعوها قوانين في دساتيرهم. فيا ليت قومي يعلمون!.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي