أسباب انشراح الصدر (5) الاستهزاء بعامة المسلمين

عمر القزابري
عناصر الخطبة
  1. خطورة الاستخفاف بالمسلمين والسخرية منهم .
  2. حكم الاستخفاف بالمسلمين أو الاستهزاء بهم .
  3. حرمة السب واللعن والشتم .
  4. من صور الاستهزاء بالمسلمين .
  5. كثرة السخرية بالمسلمين في وسائل الإعلام .
  6. حكم توبة المستهزئ بالمسلمين .

اقتباس

إن السخرية سلاح المهزومين الفاشلين الحاقدين الذين لا يجدون في عالم الواقع ما يتكئون عليه فيلجئون إلى السخرية يغطون بها ضعفهم، وينفثون من خلالها عن مكبوتهم.. إنه من العار ومن العيب أن يتخذ من المسلم وسيلة لإضحاك الناس، هذا العبد المسلم كرمه الله وشرفه ورفع قدره فلا يحق لك أبدًا أن تسخر منه ولا أن تستخف منه لأي سبب من الأسباب ..

الحمد لله المتفرد باسمه الأسمى، والمختص بالملك الأعز الأحمى، الذي ليس من دونه منتهى ولا ورائه مرمى، الظاهر لا تخيلاً ووهمًا، الباطن تقدسًا لا عدمًا.. وسع كل شيء رحمة وعلمًا، وأسبغ على أوليائه نعما عُما، وبعث فيهم رسولاً من أنفسهم أنفثهم عربًا وعجمًا، وأذكاهم محتدًا ومنما، وأشدهم بهم رأفة ورحمة حاشاه ربه عيبًا ووصمًا وذكاه روحًا وجسمًا وآتاه حكمة وحكمًا، فآمن به وصدقه من جعل الله له في مغنم السعادة قسمًا، وكذّب به وصدف عنه من كتب الله عليه الشقاء حتمًا، ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى.. صلى الله عليه صلاة تنمو وتنمى وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا..

معاشر الصالحين: نواصل التطواف في الروض الأنف نرجو التطهير، ونسعى إلى التنوير نعيش ما بين آية مسددة وسنة مؤيدة، نبحث عن الخلاص لنحظى بالاختصاص..

فليس شيء أشهى للنفس في دنيا الغم من حكمة نبوية تعطر الأنفاس وترفع النكد والوسواس، تضع العبد أمام نفسه ليعيد البناء ويجدد الانتماء عله يأنس تحت جنح الظلام نورًا حتى إذا جاءه وجد البشرى في رحاب الشريعة اليسرى كي ينادى من رياض القدس (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) [العنكبوت: 69].

ونصل اليوم إلى المباحث الأخيرة من مباحث السخرية والاستهزاء بالدين، وذلك في سعينا الحثيث نحو انشراح الصدر والذي جعلنا التوحيد أول وأعظم أسبابه، وذكرنا بعض نواقض التوحيد باقتضاب لنقف عند السخرية والاستهزاء بإسهاب لنواصل بعدها الرحلة إن شاء الله ذكرًا للأسباب وفتحًا للأبواب..

نقف اليوم عند حكم الاستخفاف بعامة المؤمنين..

معاشر الكرام: ينهى الإسلام عن السخرية بالآخرين حتى ذكر فقهاء المذاهب الأربعة أن الاستخفاف بالمسلم أو المسلمة ذنب يوجب العقاب والزجر على ما يراه السلطان مع مراعاة قدر القائل وسفاهته وقدر المقول فيه..

وعدى الإمام أبو حامد الغزالي والإمام ابن حجر العسقلاني: الاستخفاف من المؤمنين من جملة الكبائر..

وذهب الإمام ابن كثير إلى كونها حرامًا، وعلل ذلك بأن المحتقر قد يكون أعظم قدرًا عن الله وأحب إليه من الساخر منه، ولأن الاستهزاء كله إيذاء والإيذاء حرام..

وإلى ذلك ذهب ابن عباس رضي الله عنهما فيما روي عنه في تفسيره لقوله تعالى: (وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا..) [الكهف: 49].

قال: "الصغيرة التبسم عند الاستهزاء بالمؤمنين والكبيرة القهقهة"، وفي هذا إشارة إلى أن الضحك على الناس من جملة الذنوب والكبائر، واستدل الفقهاء أيضا بالكتاب والسنة، فمن الكتاب قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [الحجرات: 11].

وجه الاستدلال بالآية هو النهي الوارد في قوله تعالى: (لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ) (وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ) ومجيء التهديد والوعيد المترتب على الاستهزاء وعدم التوبة وهذا واضح في قوله تعالى (بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [الحجرات: 11].

يقول ابن كثير رحمه الله عند هذه الآية: "ينهى تعالى عن السخرية بالناس وهو احتقارهم والاستهزاء بهم،كما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الكبر بطر الحق وغمص الناس» أخرجه أبو داود والترمذي، وفي رواية الإمام مسلم «وغمط الناس»، والمراد من ذلك احتقارهم واستصغارهم، وهذا حرام فإنه قد يكون المحتقر أعظم قدر عن الله وأحب إليه من الساخر منه والمحتقر..

ولهذا قال (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ) [الحجرات: 11] وفي الآية فائدة لغوية أفاد إليها الزمخشري في الكشاف وغيره وهي "أن لفظة القوم مما يختص به الرجال"، ويدل لذلك قول زهير بن أبي سلمى:
وما أدرى وسوف إخال أدري *** أقوم آل حصن أم نساء

لذلكم قال الله: (لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ) ثم قال (وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ)..

وقال الإمام الشوكاني: "بل أفرد النساء بالذكر؛ لأن السخرية منهن أكثر" يعني تصدر منهن السخرية.

لقد تكلم المفسرون على المعنى المراد بقوله (لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ) فمن أقوالهم قول مجاهد "وسخرية الغني بالفقير"، وقال ابن زيد: "لا يسخر من ستر الله ذنوبه ممن كشفه الله".

قال الطبري بعد إيراد القولين: "والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: إن الله عمَّ بنهيه المؤمنين أن يسخر بعضهم من بعض جميع معاني السخرية، فلا يحل لمؤمن أن يسخر من مؤمن لفقره ولا لذنب ركبه ولا لغير ذلك".

وما أكثر مظاهر السخرية في حياتنا اليومية وأغلب السخرية تنصرف إلى فقراء المحاويج والذين هم أولى بالعناية والإكرام والرعاية والإحسان، أما الأغنياء فالكل يسعى في ودهم ومجاملتهم ولو على حساب دينهم ومبادئهم إلا من رحم الله..

ولله در أحد الشعراء إذ يقول:
يا عائب الفقر ألا تزدجر *** عيب الغني أكبر لو تعتبر
تعصي كي تنال الغنى *** وليس تعصي الله كي تفتقر

وقد عرف العلماء السخرية تعاريف شتى ومن أجمع ما وقفت عليه من التعاريف ما عرف به الإمام الغزالي رحمه الله في قوله: "السخرية هي الاستحقار والاستهانة والتنبيه على العيوب والنقائص بوجه يُضحك منه، وقد تكون بالمحاكاة بالفعل والقول وقد تكون بالإشارة أو الإيماء".

من الأدلة القرآنية كذلك على تحريم السخرية قوله تعالى (الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [التوبة: 79].

فقد أخبر الله تعالى أن السخرية بالمؤمنين من صفات المنافقين فعاقبهم بالسخرية منهم والعذاب الأليم على ذلك الجرم العظيم.

من الأدلة كذلك قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ * وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ) [المطففين: 29- 33].

اشتملت هذه الآيات على جملة من صفات الكفار قبيحة ووصفت الساخرين بالمجرمين لغمزهم ولمزهم ووصفهم للمؤمنين بالضلال، ثم بين عاقبة الفريقين فالمؤمنون في الجنة على الأرائك ينظرون والكفار يلقون ثواب عملهم من العذاب الأليم من الله عدلاً وحكمة والله عليم حكيم.

ولا تزال السخرية بأهل الالتزام إلى يومنا هذا، السخرية من لباسهم ومن لحاهم ومن الحجاب والنقاب، وتُستعمل لذلك وسائل عدة إما عن طريق بعض قنوات الإعلام أو بعض منتحلة الأقلام أو بعض الأفلام..

ومنهم من يفقد صوابه فيصرح ومنهم يجبن فيلمح، وقد سمعت مؤخرًا في إحدى إذاعاتنا قائلة تقول: "إن شبابنا ينقسمون إلى قسمين: قسم فاقد للوعي بسبب المخدرات، وقسم باللحى في المساجد تائهون ضائعون بلا هدف"!!

أقول: إذا كانت عمارة المساجد وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ضياعًا نسأل الله أن يزيدنا من هذا الضياع..

أما الضياع الحقيقي فهو أن يفقد العبد هدفه من إيجاده ويعيش متسكعًا على موائد الغرب والشرق يلتقط فتات الأفكار وحثالتها والتي -لله الحمد- لم يعد لها مكان إلا في مزابل التاريخ.

إن السخرية أيها الأحباب سلاح المهزومين الفاشلين الحاقدين الذين لا يجدون في عالم الواقع ما يتكئون عليه فيلجئون إلى السخرية يغطون بها ضعفهم، وينفثون من خلالها عن مكبوتهم..

ومن صور إهانة المسلم واحتقاره والاستخفاف به: رميه بالكفر أو الفسق.. فعن أبي ذر رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول" «ومن دعا رجل بالكفر أو قال عدو الله وليس كذلك إلا حار عليه» أي رجع عليه. رواه البخاري ومسلم.

ومن صور احتقار المسلم سبه ولعنه، عن أبي قلابة أن ثابت بن الضحاك رضي الله عنه أخبره أنه بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من حلف على يمين بملة غير الإسلام كاذبًا متعمدًا فهو كما قال، ومن قتل نفسه بشيء عُذب به يوم القيامة، وليس على رجل نذر فيما لا يملك، ولعن المؤمن كقتله، ومن رمى مؤمنًا بكفر فهو كقتله، ومن ذبح نفسه بشيء في الدنيا عُذب به يوم القيامة...».

وعن أبي جريج بن سليم رضي الله عنه قال رأيت رجل يصدر الناس عن رأيه لا يقول شيء إلا صدر الناس عنه قلت من هذا؟ قالوا: رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلت: عليك السلام يا رسول الله، قال: «لا تقل عليك السلام، فإن عليك السلام تحية الميت، قل: السلام عليك»، قال: قلت: أنت رسول الله؟ قال: «أنا رسول الله الذي إذا أصابك ضر فدعوته كشفه عنك [دعوته أي الله، الضمير يعود إلى الله] وإن أصابك عام سنة فدعوته أنبتها لك، وإذا كنت بأرض قفراء أو فلاة فضلت راحلتك فدعوته ردها عليك».

قال: قلت: اعهد إليّ، قال: «لا تسبن أحدًا»، قال: فما سببت بعده حرًّا ولا عبدًا ولا بعيرًا ولا شاة، قال: «ولا تحقرن شيئًا من المعروف، وأن تكلم أخاك وأنت منبسط إليه وجهك إن ذلك من المعروف، وارفع إزارك إلى نصف الساق، فإن أبيت فإلى الكعبين، وإياك وإسبال الإزار فإنها من المخيلة، وإن الله لا يحب المخيلة، وإن امرؤ شتمك وعيرك بما يعلم فيك فلا تعيره بما تعلم فيه فإنما وبال ذلك عليه» رواه أبو داود والترمذي.

وفي رواية لابن حبان: «وإن امرؤ عيّرك بشيء يعلمه فيك فلا تعيره بشيء تعلمه فيه، ودعه يكون وباله عليه وأجره لك ولا تسبن شيئًا» قال: فما سببت بعد ذلك دابة ولا إنسانًا..

يا لها من آداب يحق لنا أن نفخر ونقول بأعلى صوت ونسمع الدنيا: هذا ديننا، هذا منهجنا، بالله عليكم لو تشربنا هذه الآداب هل كنا نرى ما نرى ونسمع في شوارعنا من سباب ولعن وخصومات وإشارات في الطرقات ؟ هل كنا سنسمع عن هذه الجرائم المروعة والحوادث الغريبة..

جعلني الله وإياكم ممن ذكر فنفعته الذكرى وأخلص لله عمله سرًّا وجهرًا، آمين..آمين، والحمد لله رب العالمين..

الخطبة الثانية:

الحمد لله الذي لا يجد الهارب منه معاذًا ولا يرى الملتجأ إلى غيره ملاذًا، أبرم القضاء قبل خلق الخلق إنفاذا، وأنقذ العصاة بالتوبة إنقاذا، نهى عن السخرية بالعباد فلا يقال فلان وكذا، والصلاة والسلام على رسول الله صلاة لا تجد له نفاذا وعلى من سار على نهجه ودينه..

معاشر الصالحين: ترتقي تعاليم الإسلام وترق وتسمو حتى يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه» قيل: يا رسول الله وكيف يلعن الرجل والديه؟ قال: «يسب أب الرجل فيسب أباه ويسب أمه فيسب أمه» رواه البخاري ومسلم. إنك حين تسب أب الرجل أو أمه إنما تجلب السب لأبيك وأمك فهل هذا جزائهما عندك؟!
والسب واللعن ينافي الصديقية، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم: «لَا يَنْبَغِي لِصِدِّيقٍ أَنْ يَكُونَ لَعَّانًا» رواه مسلم وغيره.

ويقول سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يَكُونُ اللاعِنُونَ شُهَدَاءَ وَلا شُفَعَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» رواه مسلم وأبو داود.

وعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن اللعنة إذا وُجهت إلى من وجهت إليه، فإن أصابت عليه سبيلاً، أو وجدت فيه مسلكًا، وإلا قالت: يا رب، وجهت إلى فلان، فلم أجد فيه مسلكًا، ولم أجد عليه سبيلاً. فيقال لها ارجعي من حيث جئت..» رواه أحمد - يعني تعود على صاحبها..

وترتقي تعاليم الإسلام وتسمو حتى تجعل سب البهائم أمر منهي عنه، فعن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره وامرأة من الأنصار على ناقة فضجرت فلعنتها فسمع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «خذوا ما عليها ودعوها [أي دعوا الناقة] فإنها ملعونة» قال عمران: فكأني أراها الآن تمشي في الناس ما يعرض لها أحد. رواه مسلم وغيره.

وعن أنس رضي الله عنه قال: سار رجل مع النبي صلى الله عليه وسلم فلعن بعيره، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «يا عَبْدَ اللَّهِ، لا تَسِرْ مَعَنَا عَلَى بَعِيرٍ مَلْعُونٍ» رواه أبو يعلى وحسنه الألباني.

وعن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه قال، قال صلى الله عليه وسلم: «لا تسبوا الديك فإنه يوقظ للصلاة» رواه النسائي.

وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رجلاً لعن الريح عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «لا تلعن الريح فإنها مأمورة، من لعن شيئًا ليس له بأهل رجعت اللعنة عليه» رواه أبو داوود والترمذي.

بل إن الإسلام ينهى عن السخرية بالزمان وسبه، قال صلى الله عليه وسلم: «يقول الله استقرضت عبدي فلم يقرضني، وشمتني عبدي وهو لا يدري يقول: وادهراه وأنا الدهر» رواه الحاكم.

بل بلغ من رقي الإسلام أنه نهى عن السخرية بمسلم ولو على سبيل المزح والضحك، فعن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: حدثنا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أنهم كانوا يسيرون مع النبي صلى الله عليه وسلم فنام رجل منهم فانطلق بعضهم إلى حبل فأخذه ففزع فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يحل لمسلم أن يروِّع مسلمًا» رواه أبو داود.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: «من أشار إلى أخيه بحديدة [يعني ولو بالمزح] فإن الملائكة تلعنه حتى ينتهي، وإن كان أخيه لأبيه وأمه» رواه مسلم.

وهنا لا بد لنا من وقفة مع ما عمت به البلوى وتسابقت إليه قنوات الإعلام مما يسمى بالكاميرا الخفية والتي فيها من ترويع المسلمين والسخرية والاستخفاف بعقولهم ما لا يخفى..
إنه من العار ومن العيب أن يتخذ من المسلم وسيلة لإضحاك الناس، هذا العبد المسلم كرمه الله وشرفه ورفع قدره فلا يحق لك أبدًا أن تسخر منه ولا أن تستخف منه لأي سبب من الأسباب..

وسبحان الله بعض القنوات لا يجدون وقت لعرض هذه الترهات إلا عند الإفطار في رمضان في وقت الدعاء والاستغفار وهذا من مكر الشيطان وتلبيسه، أعاذنا الله وإياكم.

يقول سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يأخذن أحدكم متاع أخيه لاعبًا ولا جادًّا» رواه الترمذي.

إذًا يتضح من خلال ما تقدم أن الاستخفاف بالمؤمنين حرام شرع، يستحق المصر عليه الوعيد الشديد في الآخرة؛ وذلك لما فيه من الإهانة للمستهزأ به وإيذائه، ومن ثم فهو يسبب العداوات والأحقاد بين الناس التي تؤدي إلى القتل، وقد حصل ذلك كثيرًا في زماننا بسبب كلمة أراد صاحبها أن يضحك بها قومًا.. وهذه هي الجاهلية التي نهانا وحذرنا منها رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: «دعوها فإنها منتنة».

بل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وحرصًا منه على التمكين للأخوة ومحاربة كل ما يفت في عضدوها نهى عن السخرية ولو بالإشارة ولو بالإيماء.. روي عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها قالت، قلت للنبي صلى الله عليه وسلم: "حسبك من صفة كذا وكذا" تعني قصيرة، قال: «لقد قلتي كلمة لو مُزجت بماء البحر لمزجته» قالت: "وحكيت له إنسانًا " يعني قلدت له إنسانا، فقال: «ما أحب أني حكيت إنسانًا وأن لي كذا وكذا» ففي الحديث نهي عن ذكر الآخرين عن سبيل السخرية أو التنقيص..

سئل الإمام النووي رحمه الله ماذا يجب على من يقول للمسلم "يا كلب، يا خنزير..ونحوه" من الألفاظ القبيحة بقصد الاستخفاف أو السب.. فأجاب: بأنه يأثم ولابد أن يعزر وعليه التوبة..

يقول الماوردي في الأحكام السلطانية: "التعزير هو تأديب على ذنوب لم تشرع فيها الحدود ويختلف حكمه باختلاف الذنب وحال فاعله " انتهى كلامه رحمه الله.

ويدخل كذلك في الأذى مناداة المسلم بما لا يحب من الألقاب السيئة، قال تعالى (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا) [الأحزاب: 58]، حيث يستدل بالآية على تحريم إيذاء المؤمنين والمؤمنات سواء كان بالقول أو بالفعل، ومن جملة ذلك التعبير بحسب أو كنية أو حرفة مذمومة أو شيء يثقل على سامعه ويعد كبيرة من الكبائر.

روي أن ثابت بن قيس قال لرجل: أنت ابن فلانة؟ يريد أُمًّا كان يعيّر بها في الجاهلية، فنزلت الآية (وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ) [الحجرات: 11] فقال: "لا أفخر على أحد في الحسب بعدها أبدًا".

أما توبة المستهزئين فقد اختلف الفقهاء كثيرًا في هذه المسألة ما بين قائل بالاستتابة فإن رجع وإلا وجب على السلطان قتله، وما بين قائل بقبول توبته إن كان الاستهزاء بحق الله فتقبل توبته، أما إن كان الاستهزاء والاستخفاف برسوله أو مَلَك فقائل يقول: يقتل لأنه حق للعباد وهذا مما لا يزول بالتوبة، والثاني يرى أنه مرتد..

وفي الجملة: فالخلاف بين الفقهاء كما مر بنا هو في قبول توبته في الظاهر من أحكام الدنيا..

وأما قبول الله تعالى لها في الباطن وغفرانه لمن تاب وأقلع ظاهرًا وباطنًا فلا خلاف فيه لقوله تعالى (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا) [النساء: 146].

وربنا سبحانه واسع المغفرة والتوبة تجب ما قبلها ومن تاب تاب الله عليه، وقد قال الله لقوم كفروا به وحاربوه (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ) [الأنفال: 38].

أيها الأحباب: في الختام لا بد لي من وقفة مع إعلام المسلمين ومع ما يعرضه من أمور تحارب الدين وتسخر من المسلمين، وما يمر به من برامج تأتي على المبادئ من أسسها..

فمما لا شك فيه أن في عصرنا هذا أصبح للإعلام سطوته التي لا تمارى وأصبحت الشاشات التليفزيونية والسينمائية والتقنية تأثر الملايين، بل وتسوقهم إلى غاياتها فيأتون السحر وهم يبصرون..

فإذا تحرر هذا فإن جمعًا من القنوات العربية كانت ولا تزال تبث برامج ومسلسلات وأفلام تدعو جهارًا عينًا للفواحش ما ظهر منها وما بطن، حينًا باسم الترفيه، وحينًا باسم نقل حضارات الشعوب وتقاليد الأمم، وحينا باسم البحث عن المواهب ورعاية القدرات.. وغير ذلك من الدعاوي التي جماعها الحيدة بالناس عن الفطرة والتلقي عن الغرب أسوأ ما فيه فأضحى الحال فيها عورات تكشف، وامرأة تدفن، وفاحشة تزين، ورجولة تتهاوى وسخرية تقنن ليسفر عن ذلك بيوت تقوض ومؤمنات غافلات يفتن في دينهن، وشباب يساق إلى الوراء في القول والفحشاء في السبيل..

ومن ثم فإنه واجب على كل من يشتغل في هذه المنظومة أن يراقب الله فيما يعرضه لأمة الإسلام وأن يعلم أنه موقوف غدًا بين يدي الله للسؤال، فليعد الجواب وليعلم أن الذنب كلما كان متعديا كان أثره في الهلاك أعظم وعذابه لمن صدر منه أشد وآلم..

فهذا الصراخ والتهافت والتنافس الفارق الذي نراه على أشده في إعلام المسلمين إلا من رحم الله يحتاج إلى وقفة صادقة من الجميع حتى تستقيم الأمور، ولقد أجاد إيليا أبو ماضي حين قال:

ماذا يفيد الصوت مرتفعًا *** إن لم يكن للصوت ثَمّ صدى
والنور منبثقًا ومنتشرًا *** إن لم يكن للناس فيه هدى؟

اللهم أصلح أحوالنا واجعل بطاعتنا اشتغالنا...
 


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي