ذكر شيء من أخبار الصحابة رضي الله عنهم وما لقوه في ذات الله، وكيف استعذبوا العذاب وتلذذوا به في سبيل أن ينالوا الجنة، كيف أُوذوا وكيف أُخرجوا من ديارهم وأوطانهم، تارة إلى الحبشة وتارة إلى غيرها، وشُردوا وزُلزلوا وسُجنوا وقيّدوا وربطوا وخُوفوا وامتحنوا امتحانًا عظيمًا، وقد كان يبطأ النصر لحكم لا يعلمها إلا الله، ويبطأ النصر لتزيد الأمة المؤمنة ثقتها بالله، ويتأخر النصر ليميز الله الخبيث من الطيب ..
الحمد لله رب العالمين لا إله إلا الله الحق المبين..
مَا فِي الوُجُودِ سِواكَ رَبٌّ يُعْبَدُ *** كَلَّا وَلَا مَوْلَىً هُنَاكَ فَيُحْمَدُ
أنت الإله الواحدُ الفردُ الذي *** كل القلوب له تقرُّ وتسجدُ
أشهد ألا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
سبحان مَن لو سجدنا بالعيون له *** على حمى الشوك والمحمى من الإبر
لم نبلغ العشر من معشار نعمته *** ولا العشير ولا عشراً من العشر
سبحان الله ذي الملكوت والعظمة لا إله إلا الله، الذي بُذلت في سبيله النفوس المؤمنة، فكم من نفس قُتلت في سبيل الله وكم من نفس أُوذيت في سبيل الله، وكم من نفس أصابها وأصابها من العذاب ما استعذبته في ذات الله.. يستعذبون العذاب في ذات الله ويصبرون على لا إله إلا الله (وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ * لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ) [الحج: 58- 59].
أيها المسلمون يا حراس الدين ويا حماة العقيدة: لما خرج المهاجرون من بلادهم وأهليهم وأموالهم يريدون الله والدار الآخرة صابرين على مرارة الفقر والجوع والعري وما يكابدون من الغربة والقلة والعَيْلة أخبر جل وعلا أنه لا يضيع لديه أجر عامل ليدخلنهم مدخلاً يرضونه..
فيا عجبًا من سيد غني يرضي عبدَه المحتاج إليه فليس العجب من قوله (يحبونه) إنما العجب من قوله (يحبهم) نسأل الله أن نكون ممن يحبهم.
لما قدم مصعب بن عمير المدينة مهاجرًا كان النبي صلى الله عليه وسلم يبكي لحالته التي هو فيها، وقد كان أنعم غلام بمكة وأرفهه عيشًا فأصبح بعد نعيمه في بردة له مرقوعة، فلما رآه الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر ما هو فيه من النعيم قبل ذلك ورأى حاله التي هو عليها فزرفت عيناه صلى الله عليه وسلم يبكي..
أيها الأحباب: لقد رآه مقبلاً عليه مصعب، قال: "انظروا إلى هذا الذي نوّر الله قلبه، فقد رأيته بين أبوين يغزوانه بأطيب الطعام والشراب، ولقد رأيت عليه حلة اشتراها أو شريت له بمائة درهم فدعاه حب الله وحب رسوله صلى الله عليه وسلم إلى ما ترون"!!
ولما قُتل مصعب بن عمير مقبلاً غير مدبر حاملاً للراية في أُحد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن خلفه إلا نمرة كفنوه بها فكانوا إذا غطوا بها رأسه بدت رجلاه وإذا غطوا رجلاه بدت رأسه فأمروهم الحبيب صلى الله عليه وسلم أن يغطوا رأسه وأن يجعلوا على رجليه شيئًا من الإذخر.
هذا مصعب بن عمير يموت ولا يوجد له كفن يستر جسمه، يموت ولي من أولياء الله أهل طاعته فلا يوجد له كفن لماذا؟ لأن الله تعالى يزهِّد أوليائه عن زينة الدنيا ونعيمها ورخائها، فما لنا وللدنيا ويزويه عنهم وما ذاك إلا لأنهم يريدون ما عند الله يريدون أن يستكملوا الكرامة موفورة في جنة نعيم في مقعد صدق عند مليك مقتدر..
وكان يتيمًا في الصغر فكفله عمه فنازعته نفسه إلى اتباع الحبيب صلى الله عليه وسلم والنهوض غير أن الظروف لم تساعده فقعد ينتظر عمه لعله يسلم، فلما طال انتظاره إسلام عمه قال يا عم: طال انتظاري لإسلامك، أما أرى منك نشاطًا؟
فقال: والله لئن أسلمت لأنتزعن كل ما أعطيتك، فصارت من أحشائه لواعج الشوق، وقال بلسان حاله نظرة من محمد صلى الله عليه وسلم أحب إليَّ من الدنيا وما فيها..
ولو قيل للمجنون ليلى ووصلها * * * تريد أم الدنيا وما في طواياها
لقال ترابٌ من غبار نعالها * * * ألذ إلى نفسي وأشفى لبلواها
فلما تجرد للسير إلى الحبيب صلى الله عليه وسلم جرده عمه من الثياب فناولته أمه بجادًا فقطعته نصفين فسمي ذو البجادين، استتر بأحدهما وارتدى الأخر فلما نادى منادي الجهاد وهم يستعبدون الموت والعذاب في سبيل نصرة هذا الدين قنع أن يكون في ساقة الأحباب، والمحب لا يرى طول الطريق؛ لأن المقصود يعنيه ولما توفاه الله سبحانه وتعالى وقضى نحبه خرجوا به إلى المقابر فخرج الحبيب صلى الله عليه وسلم بنفسه يشيعه فنزل في قبره يمهد له لحده ولما أودعه لحده رفع يديه وقال: "اللهم إني أمسيت عنه راضيًا فارض عنه"، فصاح ابن مسعود يقول: "يا ليتني كنت صاحب القبر " راضٍ عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولما كانت غزوة مؤتة وجهّز رسول الله صلى الله عليه وسلم البعث الذي بلغ عدده ثلاثة آلاف لقتال الروم استعمل عليهم زيد بن حارثة، وقال: "إن أُصيب زيد فجعفر بن أبي طالب، وإن أصيب جعفر فعبدالله بن رواحة".
فلما حضر الخروج ودَّع الناس أمراء رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلموا عليهم فبكى عبدالله بن رواحة، فقالوا: ما يبكيك؟ فقال: "أما والله ما بي حب الدنيا ولا صبابة بكم، ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ آية من كتاب الله يذكر فيها النار (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا) [مريم: 71] ولست أدري كيف لي بالصدر بعد الورود.
فقال المسلمون: صحبكم الله ودفع عنكم وردكم إلينا صالحين.. فقال ابن رواحة -الذي يبحث ما عند الله لا ما عند الناس-:
لكنني أسأل الرحمن مغفرة وضربة *** ذات فزع تقذف الزبدا
أو طعنة بيدي حران مجهزة *** بحربة تنفذ الأحشاء والكبدا
حتى يقال إذا مروا على جدثي *** أرشده الله من غاز وقد رشدا
ثم مضوا حتى نزلوا بمعان فبلغهم أن ملك الروم ببلقاء في مئة ألف من الروم يقابلون ثلاثة آلاف وانضم إليهم من لخم وجذام وبلقين وبهراء وبلي مائة ألف يجتمعون على المسلمين فأقام ومن معه ليلتين ينظرون في أمرهم، وقالوا: نكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنخبره فإما أن يمدنا وإما أن يأمرنا بأمره فشجّعهم ابن رواحة ومضوا..
قال زيد بن أرقم: كنت يتيمًا لعبد الله بن رواحة فخرج بي في سفره ذلك مردفي على حقيبة رحله، فو الله إنه ليسير ذات ليلة إذ سمعته وهو ينشد ويقول:
إذا أدنيتني وحملت رحلي *** مسيرة أربع بعد الحساء
فشأنك فانعمي وخلاك ذم *** ولا أرجع إلى أهلي ورائي
وجاء المسلمون وغادروني *** بأرض الشام منتهى الثواء
وردك كل ذي نسب قريب *** إلى الرحمن منقطع الإخاء
هنالك لا أبالي طلع بعل *** ولا نخل أسافلها رواء
قال فبكيت فخفقني بالسوط وقال: ما عليك يا لكع أن يرزقني الله شهادة وترجع بين شعبتي الرحل..
يا الله يستعذبون العذاب والشهادة في سبيل بلوغ الجنة!!!
فلما كانوا بقربة من قرى البلقاء لقيتهم الجموع من فانحاز المسلمون إلى مؤتة ثم اقتتلوا عندها، والراية في يدي زيد فلم يزل يقاتل حتى شاط في رماح القوم، ثم أخذها جعفر فقاتل بها حتى إذا أرهقه القتال اقتحم عن فرسه وهو يرتجز:
يا حبذا الجنة واقترابها *** طيبة وبارد شرابها
فعقرها ثم قاتل حتى قطعت يمينه فأخذ الراية بيساره فقطعت يساره فاحتضن الراية حتى قُتل وله ثلاث وثلاثون سنة..
يا الله يستعذب الموت والتقطيع في سبيل الجنة ورضا لله...
ثم أخذها عبد الله بن رواحة وتقدم بها وهو على فرسه يرتجز بشعره:
أقسمت يا نفس لتنزلنّ *** لتنزلنّ أو لتكرهن
قد أجلب الناس وشدوا الرنة *** مالي أراك تكرهين الجنة !
ثم نزل فلما نزل أتاه ابن عم له بعرق من لحم فقال: شد بها صلبك، فإنك قد لقيت أيامك هذه ما لقيت، فأخذها من يده فانتهش منه نهشة ثم سمع الحطمة في ناحية الناس فألقاها من يده ثم أخذ سيفه فقاتل حتى قُتل رضي الله عنه.. يستعذبون الموت في سبيل نصرة الدين وفي سبيل الجنة..
وقد وجد ما بين صدر جعفر ومنكبه تسعون جراحة، ولما قطعت يداه في سبيل الله عوضه الله عنهما بجناحين يطير بهما في الجنة فسمّي "جعفر الطيار"..
ولما قتل ثالث الأمراء كان الجيش بلا أمير فحمل الراية خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه، وجعل الجنة منقلبه ومثواه، ثم جعل مقدمة الجيش ساقته وساقته مقدمته وميمنة الجيش ميسرته، فأنكر الروم ما كانوا يعرفون من رايات الصحابة، وظنوا أن قد جاءهم مدد، فرعبوا، فانكشفوا منهزمين، فقتلوا مقتلة عظيمة، وكان قد تكسر في يد خالد تسعة أسياف، ولم يبقَ في يده إلا صفيحة يمانية.
فلله در الأبطال ولا نامت أعين الجبناء...
ولما قتلوا كشف الله لرسوله أمرهم، فصعد المنبر قبل أن يأتيهم الخبر ونعاهم للناس، فقال: أخذ الراية زيد فقتل، ثم أخذها جعفر فقتل، ثم أخذها ابن رواحة فقتل وعيناه تزرفان بالدموع حتى أخذ الراية سيف من سيوف الله فتح الله عليهم..
أيها المؤمنون: إنهم يستعذبون الموت في سبيل الجنة وفي سبيل رضا الرحمن، ولقد لقي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أسلموا وأفردوا الله بالعبادة ولما لقوا العذاب من قومه ثبتوا على الدين وكان من المعذبين عمار بن ياسر وأمه وأهل بيته، فكان الرسول صلى الله عليه وسلم إذا مر بهم وهم يعذبون يقول: "صبرًا آل ياسر فإن موعدكم الجنة".
ومر الطاغية أبو جهل بسمية أم عمار وهي تُعذّب وزوجها وابنها فطعنها بحربة في موضع شرفها فقتلها، وكانت صابرة تستعذب الموت في سبيل الله تعالى..
فلله در من استعذب الموت في سبيل نصرة هذا الدين..
وكان سادات القوم: بلال بن أبي رباح رضي الله عنه يأخذونه ويبطحونه على الرمضاء في حر مكة ثم يلقون على بطنه الصخرة العظيمة ثم يأخذونه ويلبسونه في ذلك الحر الشديد درع الحديد ويضعون في عنقه حبلاً ويسلمونه للصبيان يطوفون به، وفي كل ذلك يا عباد الله صابرًا محتسبًا لا يبالي بما لقي في ذات الله وحاله كحال الذي يقول:
إذا صح منك الود فالكل هين *** وكل الذي فوق التراب تراب
وكان أمية بن خلف يخرجه إذا حميت الظهيرة فيطرحه على ظهره في بطحاء مكة ثم يأمر بالصخرة العظيمة على صدره، ثم يقول: لا يزال على ذلك حتى يموت أو يكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم.. فيقول وهو في ذلك "أحد أحد..أحد أحد" فمر به أبو بكر فاشتراه منه..
يا الله يستعذب بلال رضي الله عنه وأرضاه العذاب في ذات الله وكذلك كانوا يستعذبون العذاب إرضاءً لله وبلوغا للجنة.
وكان خباب بن الأرت يعذّب بالنار ليرجع عن دين الإسلام فلم يرجع، وقال له عمر بن الخطاب رضي الله عنهما: يا خباب ماذا لقيت من المشركين؟ فقال: أوقدوني نارًا فما أطفئها إلا وَدَك ظهري.. فلله درهم كيف كانوا يستعذبون العذاب في بلوغ الجنان..
فانظر يا عبد الله، انظر يا أيها الموحد الذي يبتلى في هذه الأيام بسجن وعذاب وأذى وقتل وانتهاك عرض فيستسلم أو يضعف أو يرجع عن قولة الحق..
انظروا يا عباد الله إلى من هذه حالهم لم يقصدوا إلا وجه الله تعالى وصبروا على هذا العذاب الأليم، وليكن لكم يا عباد الله أسوة وقدوة حسنة في المجاهدين الذين ذبّوا عن دين الله، ولا تهنوا ولا تحزنوا ولا تستكينوا وأنتم الأعلون في الدنيا والآخرة والله مع الصابرين.. لقد كانوا يستعذبون العذاب في ذات الرحمن فأين في زماننا من يستعذب العذاب في ذات الرحمن، من يبحث عن الجنة حتى لو ذهبت روحه، يا حبذا الجنة..
قال الله تعالى (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ) [الحج: 39- 41].
لله عاقبة الأمور كلها فما لنا وللدنيا، لماذا لا نصبر على البلاء ؟ لماذا لا نقدم الأرواح رخيصة في سبيل الله ؟ إن دين الله أعظم وأبقى خيرًا لنا بقاء الدين من ذهاب الأرواح والأنفس في ذات رب السماء..
عباد الله: لقد تقدم ذكر شيء من أخبار الصحابة رضي الله عنهم وما لقوه في ذات الله وكيف استعذبوا العذاب وتلذذوا به في سبيل أن ينالوا الجنة، كيف أوذوا وكيف أخرجوا من ديارهم وأوطانهم، تارة إلى الحبشة وتارة إلى غيرها، وشُردوا وزُلزلوا وسُجنوا وقيّدوا وربطوا وخُوفوا وامتحنوا امتحانًا عظيمًا، وقد كان يبطأ النصر لحكم لا يعلمها إلا الله، ويبطأ النصر لتزيد الأمة المؤمنة ثقتها بالله، ويتأخر النصر ليميز الله الخبيث من الطيب..
أيها الأحباب: لسنا نسرد الأخبار حتى تمر عليكم كالقصص ولكن لتعتبروا بها ولتكون قائدًا لكم بالصبر على البلاء والأذى في ذات الله واستعذاب العذاب حتى نصل إلى الجنة..
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة عيسى بن مريم وصاحب جريج وكان جريج رجلاً عابدًا فاتخذ صومعته فكان فيها فأتته أمه وهو يصلي فقالت: يا جريج فقال: يا رب أمي وصلاتي فأقبل على صلاته فانصرفت فلما كان من الغد أتته وهو يصلي، فقالت: يا جريج، فقال: أي رب أمي وصلاتي فأقبل على صلاته، فقالت: اللهم لا تمته حتى ينظر إلى وجوه المومسات [أي الزانيات] نسأل الله السلامة..
وفيه بيان من الاتقاء من دعوة الوالدين.. فتذاكر بنو إسرائيل جريجًا وعبادته وكانت امرأة بغي يتمثل بحسنها، فقالت: إن شئتم لأفتننه لكم، قال: فتعرضت له فلم يلتفت إليها فأتت راعيًا كان يأوي إلى صومعته فأمكنته من نفسها فوقع عليها فحملت فلما ولدت قالت: هو من جريج..
فأتوه فاستنزلوه من صومعته وهدموا صومعته وجعلوا يضربونه فقال: ما شأنكم قالوا: زنيت بهذه البغية فولدت منك فقال: أين الصبي ؟ فجاءوا به فقال دعوني حتى أصلي فصلى فلما انصرف أتى الصبي وطعن في بطنه وقال: يا غلام من أبوك ؟ قال: فلان الراعي قال: فأقبلوا على جريج يقبلونه ويتمسحون به، وقالوا: نبني لك صومعتك من ذهب قال: لا، أعيدوها من طين كما كانت ففعلوا...
وفي حديث الغلام كان يبرأ الأكمه والأبرص ويداوي الناس من سائر الأدواء لما جاءه جليس الملك، وكان أعمى وبذل له الهدايا يطلب منه شفاء عينيه، وقال: إني لا أشفي أحدًا، إنما يشفي الله تعالى، فإن أنت آمنت بالله دعوت الله فشفاك..
فآمن بالله تعالى فشفاه الله، فأتى الملك فجلس إليه كما كان يجلس. فقال له الملك: من رد عليك بصرك ؟ قال: ربي، قال: ولك رب غيري ؟ قال: ربي وربك الله..
فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الغلام، فجيء بالغلام، فقال له الملك: أي بني ! قد بلغ من سحرك ما تبرئ الأكمه والأبرص وتفعل وتفعل..
فقال: إني لا أشفي أحدًا إنما يشفي الله تعالى فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الراهب فجئ بالراهب، فقيل له: ارجع عن دينك فأبى، فدعا بالمنشار. فوضع المنشار على مفرق رأسه فشقه حتى وقع شقاه..
يستعذبون العذاب في ذات الله والموت في سبيله..
ثم جئ بجليس الملك فقيل له: ارجع عن دينك، فأبى، فوضع المنشار في مفرق رأسه، فشقه به حتى وقع شقاه..
ثم جئ بالغلام فقيل له: ارجع عن دينك، فأبى، فدفعه إلى نفر من أصحابه فقال: اذهبوا به إلى جبل كذا وكذا فاصعدوا به الجبل فإذا بلغتم ذروته، فإن رجع عن دينه، وإلا فاطرحوه. فذهبوا به فصعدوا به الجبل..
فقال: اللهم ! اكفنيهم بما شئت، فرجف بهم الجبل فسقطوا، وجاء يمشي إلى الملك، فقال له الملك: ما فعل أصحابك ؟ قال: كفانيهم الله..
فدفعه إلى نفر من أصحابه فقال: اذهبوا به فاحملوه في قرقور، فتوسطوا به البحر فإن رجع عن دينه وإلا فاقذفوه..
فذهبوا به. فقال: اللهم ! اكفنيهم بما شئت، فانكفأت بهم السفينة فغرقوا، وجاء يمشي إلى الملك، فقال له الملك: ما فعل أصحابك ؟ قال: كفانيهم الله..
فقال للملك: إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به، قال: وما هو ؟ قال: تجمع الناس في صعيد واحد وتصلبني على جذع ثم خذ سهمًا من كنانتي، ثم ضع السهم في كبد القوس ثم قل: باسم الله، رب الغلام ثم ارمني، فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني..
فجمع الناس في صعيد واحد وصلبه على جذع ثم أخذ سهمًا من كنانته ثم وضع السهم في كبد القوس ثم قال: باسم الله رب الغلام ثم رماه فوقع السهم في صدغه فوضع يده في صدغه في موضع السهم فمات...
فقال الناس: آمنا برب الغلام.. فأتى الملك فقيل له: أرأيت ما كنت تحذر ؟ قد، والله ! نزل بك حذرك. قد آمن الناس فأمر بالأخدود في أفواه السكك فخدت وأضرم النيران، وقال: من لم يرجع عن دينه فأحموه فيها. أو قيل له: اقتحم. ففعلوا حتى جاءت امرأة ومعها صبي لها فتقاعست أن تقع فيها، فقال لها الغلام:" يا أمه ! اصبري. فإنك على الحق" رواه مسلم.
يا الله يقذفون أنفسهم في النار يستعذبون العذاب لرضا الرحمن ودخول الجنة، فيا لهم من أبطال!!
وغلام يضرب بموته المثل ليسلم بسببه أمة، إنه يقدم روحه في سبيل الله، فأين المقتدين ؟ وأين المتشبهين ؟
فلله درهم من أئمة بذلوا نفوسهم في سبيل الله وجاهدوا في سبيله طلب النجاة فحصلوها تهابوهم الملوك والظلمة، ويدافع الله بهم عن أهل الأرض كل ملحمة، يعدون التقصير من العظائم، وبلغوا من الجهاد ما لا يروبه كل رائب، وإذا حاربوا قمعوا كل ظالم ولا يخافون في الله لومة لائم.. خطبوا الراحة والجنة بإتعاب القوائم، وجاعوا عن الطعام ينتظرون غدًا الولائم ، فيا سعادتهم في يوم التغابن، أيا فوزهم إذا برزت الخلائق وظهرت الضغائن..
تلك المكارم لا قعبان من لبن *** شيبت بماء فعادت بعدُ أبوالا
أيها المؤمنون: يا حماة الدين ويا حراس العقيدة: لما أحدث الخلوف ومن خلفوا منا ما يناقض ذلك، وعدلوا عن أحكام الشريعة إلى أوضاعهم التي وضعوها حل بهم البلاء وانتشرت الفوضاء، وأصبح العظماء يخافون على حياتهم ومناصبهم والضعفاء يخافون على أعراضهم وأموالهم بل ودمائهم (وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) [آل عمران: 117].
أحبوا الدنيا وكرهوا الموت، ونحن يجب أن نحب ما عند الله، وأن نعلم أن الحياة هي الحياة الأخرى فاستعذبوا العذاب في ذات الواحد الديان، ولا تخافوا إلا الواحد الأحد، واعلموا أنها موتِ واحدة، مت شهيدًا، مت صابرًا، مت ثابتًا على العذاب في ذات الله، ولا تمت خادعًا ولا مستسلمًا ولا ذليلاً ولا جبانًا ولا بايعًا للحق خوفًا من الطواغيت، ومن سجونهم ولا من عذاب البشر وتعذيبهم، فإن عذاب الله أكبر وما عند الله أبقى، والدنيا زائلة.. فالآخرة الآخرة، واستعذبوا العذاب في ذات الواحد الديان.. واعلموا أن الصبر هو مفتاح الفرج ولو قُتلت فالشهادة والجنة، نسأل الله الشهادة في سبيله..
اللهم أعز الإسلام والمسلمين..
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي