ونقف اليوم مع غزوة الأحزاب التي وقعت في شوال من السنة الخامسة للهجرة، وحصلت هذه الغزوة بعد أن أيقنت طوائف الكفار أنها لن تستطيع مغالبة الإسلام إذا حاربته كل طائفة لوحدها، وأنها ربما تبلغ أملها إذا رمت الإسلام عن قوس واحدة، وسعت يهود وخططت، فخرجت قريش وقائدها أبو سفيان بن حرب، وخرجت ..
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله تعالى:
ضم الإله اسم النبي إلى اسمه *** إذا قال في الخمس المؤذن أشهد
نبي أتانا بعد يأس وفترة *** من الرسل والأوثان في الأرض تعبد
هناك عظماء كثيرون يقرأ الناس قصص حياتهم ليتعلمّوا من عناصر القوة والنبوغ فيها، وليتابعوا بإعجاب مسالكها في الحياة ومواقفها إزاء ما يعرض لها من مشكلات وصعاب، فكيف إذا كانت هذه المواقف شرعًا منزلاً من الله سبحانه وتعالى؛ إنها سيرة محمد -صلى الله عليه وسلم- التي نقف عليها وإن أطلنا الوقوف حتى نستلهم منها العبر ونأخذ الدروس، ونقف اليوم مع غزوة الأحزاب التي وقعت في شوال من السنة الخامسة للهجرة، وحصلت هذه الغزوة بعد أن أيقنت طوائف الكفار أنها لن تستطيع مغالبة الإسلام إذا حاربته كل طائفة لوحدها، وأنها ربما تبلغ أملها إذا رمت الإسلام عن قوس واحدة، وسعت يهود وخططت، فخرجت قريش وقائدها أبو سفيان بن حرب، وخرجت غطفان ونجد ومُرّة وأشجع.
ولما سمع بهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- اجتمع مع المسلمين للتشاور، وكل أشار برأي، إلا أن سلمان الفارسي أشار بحفر خندق حول سهل المدينة يصدُّ عنها كل مغير عليها، وضرب الخندق على المدينة، فعمل فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ترغيبًا للمسلمين في الأجر، وعمل معه المسلمون، فشهدت المدينة منظرًا عجبًا، وجوهًا ناصعة تتألف منها فرق شتى تضرب بالفؤوس وتحمل التراب وتتعرّى من لباسها وزينتها، لتلبس حللاً من نسج الغبار المتراكم والعرق واللغوب، قال البراء بن عازب -رضي الله عنه- في الحديث الذي أخرجه الشيخان: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ينقل التراب يوم الخندق حتى اغبَّر بطنه وهو يقول:
والله لولا الله ما اهتدينا *** ولا تصدقنا ولا صلينا
فأنزلن الله سكينة علينا *** وثبت الأقدام إن لاقينا
إن الألى قد بغوا علينا *** إذا أرادوا فتنة أبينا
يقول البراء -رضي الله عنه-: ولقد وارى عنا التراب جلدة بطنه -صلى الله عليه وسلم-، وكان كثير الشعر، وكان الفصل شتاء والجو باردًا، وهناك أزمة في الأقوات تعانيها المدينة التي توشك أن تتعرض لحصار عنيف.
وعاقت المسلمين في حفرهم الخندق صخرٌة عظيمٌة كسرت معاولهم، فجاء النبي -صلى الله عليه وسلم- وأخذ من الصحابة المعول ثم ضرب الصخرة ضربة صدعتها وتطاير منها شرر أضاء خلالها هذا الجوّ الداكن، وكبّر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكبر المسلمون معه، ثم ضربها الثانية فكبر، ثم الثالثة كذلك، ونظر النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى صحبه وقد أشرق في نفسه الكبيرة شعاع من الأشعة الغامرة والأمل الحلو، فقال: "لقد أضاءت لي الأولى قصور الحيرة ومدائن كسرى، وأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها، وفي الثانية أضاءت لي القصور الحمر من أرض الروم، وأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها، وأضاءت لي الثالثة قصور صنعاء وأمتي ظاهرة عليها فأبشروا"، واستبشر المسلمون وقالوا: الحمد لله، موعودٌ صادق.
ولما فرغ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الخندق أقبلت الأحزاب في جمع كبير؛ قريش في عشرة آلاف من رجالها ومن تبعهم من كنانة وتهامة وغطفان في طليعة قبائل نجد، وبرز المسلمون بعدما جعلوا نساءهم وذراريهم فوق الآطام الحصينة، ثم انتشروا على حدود مدينتهم مسندين ظهورهم إلى جبل سلع، وبلغت عدتهم في هذه المعركة نحو ثلاثة آلاف مقاتل، ولما انسابت الأحزاب حول المدينة وضيقوا عليها الخناق لم تظهر نفوس المسلمين شعاعًا، بل جابهوا واقعهم، وهم وطدوا الأمل في غد كريم: (وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَاناً وَتَسْلِيماً)، وهنا وفي ظل مثل هذه الأزمات يبدأ الواهنون المرتابون والمخذلون ومرضى القلوب بالعمل، فلقد تندّروا بأحاديث الفتح وظنوها أماني المغرورين، وقالوا عن رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: يخبركم أنه يبصر من يثرب قصور الحيرة ومدائن كسرى وأنتم تحفرون الخندق لا تستطيعون أن تبرزوا، وفيهم قال الله تعالى: (وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً) [الأحزاب: 12]، وهؤلاء أيضًا هم الذين كانوا يتسللون لواذًا من العمل في حفر الخندق، ويذهبون بغير إذن من النبي -صلى الله عليه وسلم-.
إخوة الدين والعقيدة: إن معركة الأحزاب ليست معركة خسائر، فقتلى الفريقين من المؤمنين والكفار يعدّون على الأصابع، ومع هذه الحقيقة فهي من أهم المعارك في تاريخ الإسلام، فلقد أمسى المسلمون وأصبحوا فإذا هم كالجزيرة المنقطعة وسط طوفان يتهددها بالغرق ليلاً أو نهارًا، وكان المشركون يدورون حول المدينة غضبًا من هذه المكيدة، ويقفون عليها قائلين: والله إن هذه لمكيدة، ما كانت العرب تكيدها، وعرف المسلمون ما يتربص بهم وراء هذا الحصار، فقرروا أن يرابطوا في مكانهم ويتحملوا لأواء هذه الحراسة التي تنتظم السهل والخيل، وتتسع ثغورها يومًا بعد يوم، وهم كما وصف الله تعالى: (إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتْ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَ * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً) [الأحزاب: 10، 11].
وكره فوارس من قريش أن يقفوا حول المدينة متفرِّجين، فخرج عمرو بن ود وعكرمة بن أبي جهل وضرار بن الخطاب، وتيمموا مكانًا ضيقًا من الخندق، وضربوا خيلهم فاقتحمته، فأسرع فرسان المسلمين يسدّون هذه الثغرة، وقاتل عليٌّ عمرو بن ود فقتله بعد مبارزة شديدة بينهما، ولما واجهوا ذلك فر الباقون عائدين إلى خارج المدينة.
وفي هذه الآونة العصيبة جاءت الأخبار أن بني قريظة نقضوا معاهدتهم مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وانضموا إلى كتائب الأحزاب التي تحدق بالمدينة أن حُيي بن أخطب جاء إلى كعب بن أسد سيّد قريظة وقرع عليه بابه فرفض أن يفتح له كعب، فصرخ به حيي: ويحك افتح لي، فقال له كعب: إنك امرؤ مشؤوم، وإني قد عاهدت محمدًا فلست بناقض ما بيني وبينه، ولم أر منه إلا وفاءً وصدقًا، قال له حيي بعد أن فتح له: ويحك يا كعب، جئتك بعز الدهر وببحر طام، قال: وما ذاك؟! قال: جئتك بقريش على سادتها وقادتها وبغطفان، وقد عاقدوني وعاهدوني على أن لا يبرحوا حتى يستأصلوا محمدًا ومن معه، فقال له كعب: جئتني والله بذل الدهر وبجهام قد هرق ماؤه، فهو يرعد ويبرق وليس مني شيء، دعني وما أنا عليه فإني لم أر من محمد إلا وفاءً وصدقًا، ولكن حُييًّا لم يزل بهم يزين لهم الغدر في هذه الساعة الحرجة حتى مزقوا الوثيقة التي بينهم وبين النبي –صلى الله عليه وسلم-، ولما بعث لهم سعد بن معاذ ليستطلع الأمر قالوا له: من رسول الله؟! لا عهد بيننا وبين محمد، وحاول سعد أن يذكرهم بعقدهم فتصاموا عنه، فلما خوفهم عقبى الغدر وذكر لهم مصير بني النضير شتموه بأقبح الشتائم، ووجم المسلمون حين عادت رسلهم تحمل هذه الأنباء المقلقة.
وأحاط المشركون بالمسلمين وحاصروهم قريبًا من عشرين ليلة، ولما اشتد البلاء نافق ناس كثير وأتى العدو المسلمينَ من فوقهم ومن أسفل منهم، حتى ظن المؤمنون كل ظن، ونجم النفاق من بعض المنافقين حتى قال معتب بن قشير: كان محمد يعدنا أن ننال كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط، وحتى قال أوس بن قيظي: يا رسول الله: إن بيوتنا عورة من العدو، فائذن لنا أن نخرج فنرجع إلى دارنا، فإنها خارج المدينة، ولما رأى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما بالناس من البلاء والكرب جعل يبشرهم ويقول: "والذي نفسي بيده، ليفرجن عنكم ما ترون من الشدة، وإني لأرجو أن أطوف بالبيت العتيق آمنًا، وأن يدفع الله إليّ مفاتيح الكعبة، وليهلكن الله كسرى وقيصر، ولتنفقن كنوزهما في سبيل الله". أخرجه البخاري ومسلم.
وتشجع صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للمقاومة، وهكذا تختلف طبائع النفوس وتتفاوت تفاوتًا كبيرًا لدى الأزمات والتضييقات، منها الهش الذي سرعان ما يذوب ويحمله التيار معه كما هي، ويصاب بالفتور ويضع أمامه العوائق الوهمية تحمله المياه الغثاء والأوصال، ومنها الصلب الذي تمر به العواصف المجتاحة، فتنكر حدتها على متنه وتتحول زبدًا، أجل، من الناس من يهجم على الشدائد وعلى لسانه قول الشاعر:
تأخرت أستبقي الحياة فلم أجد *** لنفسي حياة مثل أن أتقدمَ
ومنهم من إذا مسه الفزع طاش لبُّه فولّى الأدبار بالأعذار، وأوغل في الفرار، ويزرع الشك والسب إعذارًا لموقعه الدنيء.
إخوة الإيمان: وأقام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه فيما وصف الله من الخوف والشدة، وأصيب سعد بن معاذ -رضي الله عنه- بسهم قطع منه عرق الأكحل، ونقل إلى خيمة بالمسجد ليمرَّض، قال حذيفة بن اليمان: رأيتنا ليلة الأحزاب ونحن قعود وأبو سفيان ومن معه فوقنا وقريظة أسفل منا نخافهم على ذرارينا، وما أتت علينا ليلة قط أشد ظلمة ولا أشد ريحًا منها، ما يستطيع أحدنا أن يرى إصبعه، ولم يكن معي جُنَّة من العدو ولا من البرد إلا مرط لامرأتي لا يجاوز ركبتي، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ رجل يقوم فينظر ما فعل القوم ثم يرجع؟! أسأل الله تعالى أن يكون رفيقي في الجنة". فما قام رجل من القوم من شدة الخوف والجوع والبرد، فلما لم يقم أحد دعاني رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فلم يكن لي بد من القيام حين دعاني، وقال: "يا حذيفة: اذهب فادخل في القوم فانظر ماذا يصنعون". فذهب فدخلت في القوم والريح وجنود الله تفعل بهم ما تفعل، لا تقر لهم قدرًا ولا نارًا ولا بناءً، فقام أبو سفيان فقال: يا معشر قريش: إنكم والله ما أصبحتم بدار مقام، قد هلك الكراع والخف، وأخلتنا بنو قريظة، وبلغنا عنهم الذي نكره، فارتحلوا فإني مرتحل.
وكان نعيم بن مسعود –رضي الله عنه- من غطفان قد أسلم أثناء الحصار، وجاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، فأوصاه النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يكتم إسلامه وأن يذهب إلى المشركين وبني قريظة لينخل فيما بينهم، واستطاع بذكائه أن يفعل بهم الأفاعيل، وعرف له ذلك اليوم.
وهكذا أفلح المسلمون في فَصْمِ عُرى التحالف بين الأحزاب المجتمعة، حتى دب القنوط والتخاذل في صفوف المهاجمين، وطلع النهار وظاهر المدينة خلاء، وارتحلت الأحزاب وانفك الحصار وعاد الأمن، وأهمُّ من ذلك أن الإيمان الصادق نجح في هذه المحنة، وهتف رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا إله إلا الله وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده". وقال: "كذلك الآن نغزوهم ولا يغزوننا".
ولما عادت حشود الأحزاب تحمل معها الفشل والخيبة بقي اليهود وبقيت معهم غدرتهم التي فضحت طواياهم، وكانت مشاعر الغيظ والبغض في أفئدة المسلمين نحو أولئك اليهود قد بلغت ذروتها، ولما كان الظهر أتى جبريل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: أوقد وضعت السلاح يا رسول الله؟! قال: "نعم". فقال جبريل: فما وضعت الملائكة بعد، إن الله -عز وجل- يأمرك بالمسير إلى بني قريظة، فأذن بالناس من كان سامعًا مطيعًا فلا يصلينَّ العصر إلا ببني قريظة، وأتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بني قريظة، ونزل عند حصونهم، وتلاحق به الناس وحاصرهم رسول الله خمسًا وعشرين ليلة حتى جهدهم الحصار، وقذف الله في قلوبهم الرعب، وعرض كعب بن أسد سيدهم عليهم ثلاثة حلول، فقال: يا معشر يهود: قد نزل بكم من الأمر ما ترون، وإني أعرض عليكم أن نتابع هذا الرجل ونصدقه، فوالله لقد تبين لكم أنه لنبي مرسل، وإنه الذي تجدونه في كتابكم، فتأمنون به على دمائكم وأموالكم وأبنائكم ونسائكم، قالوا: لا نفارق حكم التوراة أبدًا، قال: إذا أبيتم عليّ فهلمّ نقتل أبناءنا ونساءنا ثم نخرج إلى محمد وأصحابه فنقاتلهم لا نخشى شيئًا وراءنا، قالوا: فما خير العيش بعد أبنائنا ونسائنا؟!! قال: فإن أبيتم فإن الليلة سبت، وعسى أن يكون محمد وأصحابه قد أمنوا منها، فانزلوا لعلنا نصيب منهم غرة، قالوا: نفد سبتنا، فقال لهم: ما بات رجل منكم منذ ولدته أمه ليلة من الدهر حازمًا.
وحاول بنو قريظة أن يظفروا بالصلح، بيد أن المسلمين أبوا عليهم إلا أن يسلموا دون قيد أو شرط لجرمهم وغدرهم الشائن، ثم قرروا أن ينزلوا على حكم سعد بن معاذ.
ولم ينس سعد حينذاك كيف نقضت قريظة عهدها واستقبلته بالألفاظ البذيئة عندما ذهب يناشدهم الوفاء، وحكم سعد أن يقتل الرجال المقاتلين وتسبى الذرية وتقسم الأموال، فقال له رسول الله: "لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سماوات"، ونفذ فيهم الحكم. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً * وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمْ الرُّعْبَ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمْ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً * وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً) [الأحزاب: 25:27].
بارك الله لي ولكم في الفرقان العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه وتوبوا إليه.
الحمد لله أمرنا بطاعته واتباع رسوله، ونهانا عن اتباع أهوائنا والقول عليه بلا علم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله القائل: "إياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة". صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
أيها الإخوة المؤمنون: اتقوا الله تعالى واعلموا أن غزوة الأحزاب التي مرت على النبي -صلى الله عليه وسلم- وصحابته الكرام كانت أزمة مرت بهم لم يمر بهم أشد منها في المدينة، حتى بلغت القلوب الحناجر كما وصف الله تعالى، ولذلك فإنه في مثل هذه الأزمات يظهر النفاق وجهه الحقيقي في مجابهة الدعوة إلى الله ومقاومة أهلها وأوليائها، وأما الصحابة المخلصون فقد ثبتهم الله تعالى في هذا الموقف العصيب الذي مر بهم في المدينة.
أما اليهود فإن تاريخ الإسلام حافل بكل ما هو شر وحقد على الإسلام وأهله، فانظروا -إخوة الإيمان- ماذا فعلوا بالنبي -صلى الله عليه وسلم- في أحلك الظروف وأشدها تأزمًا، هذه خلال اليهود، يسفهون إذا وجلوا ليستفيدوا منها وحدهم لا لشيء آخر، أما العهود فهي آخر شيء في الحياة يقفون عنده، كان ألوف المسلمين هلكى تحت أقدام الأحزاب المنسابة من كل ناحية، يحرضهم ويؤازرهم أولئك اليهود، ولكن الله سلم، ولقد كان مجمع الأحزاب حول المدينة أصلاً بسعي حثيث من زعماء اليهود حيي بن أخطب وسلام بن أبي الحقيق، ذهبوا إلى مكة وشجعوهم على غزو المدينة، وقالوا: إنا سنكون معكم عليه حتى نستأصله، وقالت لهم قريش: يا معشر يهود: إنكم أهل الكتاب الأول، والعمل بما بيننا وبين محمد، أفدينُنَا خير أم دينه؟! قالوا: بل دينكم خير من دينه، وأنتم أولى بالحق منه، فلما قالوا ذلك لقريش سرَّهم ونشطوا، فاجتمعوا لذلك وقالوا مثل ذلك لغطفان فشجعوهم على حرب النبي -صلى الله عليه وسلم- وفيهم يقول الله تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنْ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ * وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيّاً وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيراً) [النساء: 51، 52].
إن اليهود لا يدعون خسَّتهم أبدًا، ولا يرعون المواثيق إلا إذا كانت متمشية مع أطماعهم ومكاسبهم، فإذا ذهب ذلك نبذوا تلك العهود وغدروا بالمسلمين وبمن وثق بهم ومدَّ لهم يده.
هذا؛ وصلوا وسلموا -يا عباد الله- على من أمركم الله بالصلاة عليه.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي