التحذير من الإسراف في الولائم

أسامة بن عبدالله خياط

عناصر الخطبة

  1. مشروعية إظهار النعم والاحتفاء بها
  2. مشروعية إقامة ولائم الزواج
  3. ظاهرة الإسراف في الولائم
  4. النهي عن الإسراف
  5. السبيل لتجنّب الإسراف
  6. الإسلام دين الوسطية والاعتدال

أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله-، وتزوَّدوا ليومِ مَعادكم بخَير زاد، وأنيبُوا إلى ربِّكم، وأسلِموا له، واعتصموا به، فإنه سبحانه مولاكم، نِعمَ المولى ونعمَ النصير.

أيُّها المسلمون: إنَّ الاحتفاءَ بالنِّعم وإظهارَ السّرورِ بها والإعلانَ عنها والتحدُّثَ بها شُكرًا لمُسديها سبحانه وحمدًا له على المنِّ بها والإمتاعِ الحسَن بنَضرتها وبهجتها وكمالِ اللّذّة بها؛ كلُّ أولئك ممّا جاءت به الشريعة المكرَّمة، وأذِن فيه الشارعُ حكمةً منه ولطفًا وسيرًا مع الفطرةِ والطبيعة البشريّة التي فطَر الناس عليها.

وإنَّ مما شُرِع لنا في مناسبة نعمةِ الله بالزواج إقامةَ وليمةِ النكاح ودعوةَ الناس إليها وإكرامَهم بما يقدَّم إليهم من قِرى، وما يبذَل لهم من مطاعمَ ومشارب، فقد جاء في الحديثِ الذي أخرجه ابن حبَّانَ في صحيحه بإسناد حسن عن عبد الله بن الزبير بن العوام -رضي الله عنه- أنَّ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "أعلِنوا هذا النكاح"، وأخرج الشيخان في صحيحيهما عن أنس بن مالكٍ -رضي الله عنه- أنّ عبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنه- تزوَّج على عهدِ رَسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال له النبيّ -صلى الله عليه وسلم-: "أولم ولو بشاة".

وإنَّ ما وقعَ فيه كثيرٌ من الناس من مخالفاتٍ في احتفالهم بهذه المناسبَة ضروبٌ وألوان مردُّها جميعًا إلى عدم القيامِ بما شرَع الله ومَا يوافِق هديَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ومِن أظهرِها ذلك الإسرافُ في الإنفاق على إقامة هذه الحفلات الذي يتجلّى في أوضح صوَرِه في تعمُّدِ اختيار أغلَى دُورِ الأفراح ثمنًا.

ويتجلّى أيضًا في المبالغَة في ألوان الطعامِ والشرابِ مقدارًا ونَوعا مما يفيض على الحاجة، وينتهي به الأمر إلى ما لا يليق بنعمةٍ يجِب إكرامُها والعنايةُ بها؛ لا سيَّما وأنَّ هناك من يطمَح إليها أو إلى بعضٍ منها ممّن مسَّتهم البأساء والضرّاء وعضَّه الجوعُ بنابه وعبَست له الأيّام.

ويتجلَّى كذلك في المبالغَةِ في ملابِسِ النساء، بتعمد اختيار الأغلَى ثمنًا والأرفعِ سِعرًا والأحدَثِ عَرضًا في الأسواق، بل تجاوَز ذلك إلى الوَلَع بالأكثر عُريًا وإظهارًا لما يجِب أو يحسُن سترُه، وإلى التنافُس في هذا بينهنّ، والتسابُقِ إلى بلوغِ أقصى الغاياتِ في ذلك؛ أملاً في الحَظوة بالتفوّق والتمتُّع بشعورِ التفرُّد والتميُّز.

وكلُّ هذا -يا عباد الله- مما تحوَّل به المناسبةُ عن صحيحِ وضعِها، وتُصرَف به عن وجهِها، ويحيد بها عن مقصودِها الذي شُرِعت له؛ فإنَّ بركة النكاح ليست بِكثرة الإنفاق، بل هي في تيسيره والقصدِ في نفقاته، كما جاء في الحديث الذي أخرجه ابن حبّان في صحيحه بإسناد صحيح عن عقبة بن عامرٍ -رضي الله عنه- أنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "خيرُ النكاح أيسرُه"؛ ولهذا عجِب النبيّ -صلى الله عليه وسلم- لرجلٍ أصدق امرأتَه أربع أواق قائلاً: "أربع أواق؟! كأنما تنحِتون الفضّةَ من عُرض هذا الجبل!". أخرجه ابن حبان في صحيحه بإسنادٍ جيد.

وهذا -يا عباد الله- فرعٌ عن النهي العامّ عن الإسراف الذي جاء في كتاب الله وسنّة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، حيث يقول سبحانه: ﴿يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾ [الأعراف: 31]. وفي سنّة رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم- من النهيِ عن الإسرافِ وإضاعةِ المالِ ما لا يصحُّ إغفالُه أو إغماضُ الأجفان عنه، فمن ذلك ما أخرجه الإمام أحمد في مسنده بإسناد حسن عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "كلوا واشرَبوا والبَسوا وتصدَّقوا في غير مخيلةٍ ولا سَرَف"، والمخيلة هي الخُيَلاء، وهو التكبّر والترفُّع على عباد الله. وجاء في الحديث الذي أخرجه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إنَّ الله تعالى يرضَى لكم ثلاثًا ويكره لكم ثلاثًا، فيرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئًا، وأن تعتصِموا بحبلِ الله جميعًا ولا تفرَّقوا، ويكرَه لكم قيلَ وقالَ وكثرةَ السّؤال وإضاعةَ المال".

عبادَ الله: إنَّ أولي الألباب -وهم يستيقِنون ضررَ هذه المخالفات وسوءَ عاقبتِها وقُبحَ مآلها- يعلَمون أيضًا أنَّ الطريق إلى دفعها والسّبيلَ إلى الخلاص منها بتذكُّر أنّ إظهارَ السرور بهذه النّعمة وإعلانَه يجِب أن يقَع وفقَ ما شرعه الله ورسولُه -صلى الله عليه وسلم- غيرَ حائدٍ عنه ولا مستبِدل غيره به، وإلا كان تنكّرًا للنعمة وجُحودًا لها واستعمالاً لها في غير ما جُعلت له.

وإنّ من أعظم ما يعين على ذلك وييَسِّره ويذلّل سبيل نجاحه كمالَ الحرص على التزام الهدي النبوي في شأن الإنفاق عامّةً وفي النكاح خاصّةً، بتأمُّل ما سنّه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من سُنَن، وما شرعه في هذا الباب ممّا هو مسطَّرٌ مبثوثٌ في مشاهير دواوين الحديث النبوي والسيرة الشريفة؛ فإنّ هديه -عليه الصلاة والسلام- هو أحسن الهدي، وإن طريقه هي أكمل الطرُق وأصوبها وأعظمها دلالةً على كلّ خير وأجمعُها لكل هدى؛ ولذا جعل الله لنا فيه الأسوةَ الحسنة كما قال سبحانه: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾ [الأحزاب: 21].

ثم في أخذِ وجهاء الناس وعلمائهم ورؤَسائهم وذوي الفضل والأثَر الحسَن فيهم زمامَ المبادرة إلى هذا المسلكِ القويم، وفي انتهاجِ هذا النّهج المبارَك، وفي العَمَل بهذا الهدي الكريم أقوَى العوامِل وأبلغُ الآثار في نقلِ هذه المعاني من مَعارفَ وأماني إلى واقعٍ حيّ يقدِّم الأنموذَجَ ويضرِب الأمثال ويسنّ السنن الحسنة التي يكون لمن سنَّها ذلك الجزاءُ الضافي والأجر الكريم الذي بيَّنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الذي أخرجه مسلم في صحيحه عن جرير بن عبد الله البجليّ -رضي الله عنه- أنّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "من سن في الإسلام سنّةً حسنةً فله أجرها وأجر من عمِل بها بعدَه من غيرِ أن ينقُص من أجورهم شيءٌ، ومن سنَّ في الإسلام سنّةً سيئةً كان عليه وزرها ووزر من عمِل بها مِن بعده من غير أن ينقُص من أجورِهم شيء".

فاللّهمّ اجعَلنا جميعًا من العاملين بكتابِك، المهتدين بهدي نبيّك -صلى الله عليه وسلم-، المبتغِين الوسيلةَ إلى مرضاتك ونزولِ جناتك، واجعَلنا اللّهمّ من عبادك (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ، أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ) [الزمر: 81].

نفعني الله وإياكم بهديِ كتابه وبسنّة نبيه -صلى الله عليه وسلم-، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيمَ الجليلَ لي ولكم ولجميع المسلمين والمسلمات، إنّه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

إنَّ الحمدَ لله نحمده ونستعينه ونستغفِره، ونعوذ بالله من شرورِ أنفسِنا وسيِّئات أعمالنا، من يَهدِه الله فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إلهَ إلاَّ الله وحدَه لا شريكَ له، وأشهَد أنَّ محمَّدًا عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلِّمْ على عبدِك ورسولِك محمّدٍ، وعلى آله وصحبه.

أمّا بعد:

فيا عباد الله: إنَّ دينَ الله لما كان دينَ القِسط والقصد، وإنَّ هذه الأمة لما كانت أمّةً وسطًا -أي: عَدلاً خِيارًا- فلا عَجب أن ينهَى الله المؤمنين عن رذيلةِ الإسراف والتبذير كما ينهاهم عن رَذيلة الشحّ والتقتير، فيقول -عزّ من قائل-: ﴿يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾ [الأعراف: 31]، ويقول -عز اسمه- في صفات عباد الرّحمن: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا﴾ [الفرقان: 67]، وقال -تقدَّست أسماؤه وصِفاته-: ﴿وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا(27)﴾ [الإسراء: 26، 27]، وقال -عزّ وجلّ-: ﴿وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا﴾ [الإسراء: 29].

إنّه -يا عبادَ الله- تشريعٌ ربانيٌّ في الإنفاقِ ما أحكَمَه! وما أعظمه! وما أجدر الخلائقَ كافةً أن يأخذوا به في كلّ شؤونهم! فتنتظمَ أمورهم وتزكو أموالهم وتطيب حياتهم ويحظَوا برضوان ربهم.

فاتقوا الله -عبادَ الله- وصلّوا وسلّموا على خاتم رسُل الله محمّد بن عبد الله؛ فقد أُمِرتم بذلك في كتاب الله حيث يقول الله سبحانه: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب: 56].

اللّهمّ صلِّ وسلِّمْ على عبدك ورسولك محمّد، وارضَ اللّهمّ عن خلفائه الأربعة: أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ، وعن سائر الآل والصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمِك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.

اللّهمّ أعزَّ الإسلام والمسلمين، واحمِ حوزة الدين، ودمّر أعداءَ الدّين وسائرَ الطغاة والمفسدين، وألّف بين قلوب المسلمين، ووحد صفوفهم، وأصلِح قادَتهم واجمَع كلِمتَهم على الحقّ يا رب العالمين…  


تم تحميل المحتوى من موقع