ولكي نُثْبِتَ أننا ناجحون في هذا الامتحان فلا بُدَّ أن نتخلَّق بالوعي، ونتدرَّعَ بالغيرة، وندرك مخططاتِ الأعداء، ونقف في صَفِّ أبطال الهيئات، ورجال القضاء؛ تأيدا لأفعالهم، وتصديقا لأقوالهم، وذَبَّاً عن أعراضهم، ومطالبةً بإنصافهم، وحينما نكون كذلك ستخبو نار النفاق، وتسقط..
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له يعلم سركم وجهركم ويعلم ما في الأرض والسماوات، وأشهدُ أنَّ محمداً عبده ورسوله نبي الهدى والمبعوث بالرحمات، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أهل التقى والمكرمات، وسلم تسليماً.
أما بعد: فاتقوا الله أيها المسلمون، وحاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، (وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [الحشر:18].
ما الحال في مثل هذه الأيام؟ ما للبيوت أعلنت استنفارها وتغير وجه الحياة فيها؟ ما للناس وقد تغير نظام حياتهم؟ تساءلتُ: ما السِّرُّ في هذا التغير الذي جاوز الحَدَّ والمدى؟ قيل إن الامتحانات ستبدأ غداً، مَشَاهِدُ مِن الهَمِّ والقلق تنبئك عن اهتمامات الناس، وأنها لا تتجاوز عَرَضَ الحياةِ الدنيا، وهم عن الآخرة هم غافلون!.
يا ليت جزءاً من هذه الجهود والهموم صرفت في بناء العقول والأرواح، وتزكية النفوس، حينها لن نجد ما نراه من الصور المؤسفة لانحراف الأبناء والبنات.
يا ليت من يجافيه النوم خوفا من تأخر ابنه عن امتحانه، يا ليته يفعل ذلك إذا تأخر عن صلاته! يا ليت من يكافئ ابنه على تميزه ونجاحه يفعل ذلك إذا حفظ سورة أو أتقن حديثا! يا ليت من يقرع أبناءه على تأخر أو إخفاق يفعل ذلك إذا فاتتهم صلاة، أو قصَّروا في طاعة!.
إننا إذ نشارك الآباء والأمهات همَّهُم، ونقاسم الأبناء والبنات شغلهم وتفكيرهم، ونسأل البارئ -جل جلاله- أن يسدد أقوالهم وأفعالهم ويخلص مقاصدهم.
وإننا إذ نقدر للآباء والأمهات حرصهم، ونقدر للأبناء والبنات همهم وجهدهم؛ فإننا نذكر الأمة بامتحاناتها الأخرى والتي هي أولى بالهَمِّ والقلق، وأجدر بالاهتمام والعناية.
الأُمَّةُ كُلُّها في امتحان وهي تواجه طوفان الحياة، امتحان في السراء والضراء، (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً) [الأنبياء:35]، امتحانات مع الدنيا بما فيها من شهوات وأهواء، امتحان المــَمَات، والنشر والحشر وأهوال الآخرة، امتحان التسلط والقتال والحرب، الغرور والإعجاب بالنفس، قلب الحقائق واختلال الموازين، كبت صوت الحق وارتفاع صوت الباطل، الامتحان بالخلاف والفرقة والهوى، امتحان الأهل والأحباء: (إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ) [التغابن:15].
امتحان اقبال الدنيا على الــمُبْطِلين، ورؤية الناس لهم ناجحين مرموقين تهتف لهم الدنيا وتصفق لهم الجماهير، وتتحطم في طريقهم العوائق، وتصاغ لهم الأمجاد، والمؤمن الصالح مُهْمَلٌ مُنْكَرٌ، أو سجين لا يحس به أحد، ولا يحامي عنه أحد.
هناك امتحان من نوع آخر قد تراه بارزا في هذه الأيام حين يجد المؤمن أمما ودولاً غارقة في الرذيلة، وهي مع ذلك راقية في مجتمعها، متحضرة في حياتها، ويجدها غنية قوية وهي مشاقّة لله.
وهناك امتحان تسلط الأعداء وتحزبهم على المسلمين، امتحانات غاياتها: (حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ) [محمد:31]، (فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) [العنكبوت:3]، (لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ) [الأنفال:37].
أمتنا تواجه امتحانا في عقيدتها، كلنا جميعا في امتحان أمام أمر الله ونهيه، والناجح فيه من كان شعاره: سمعنا وأطعنا، ورضينا بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا، ولم يجد في نفسه حرجا مما قضى الله ورسوله، وسلَّم تسليما.
أمتنا تواجه امتحانا في عقيدتها حينما ترفع دعوات لتمييع الولاء والبراء وجعل الوطن واللغة والقبيلة على سرر الحب والمودة والولاء.
لقد نطق كلام ربنا بالحق: (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ) [المائدة:55]، ورسم معالم العلاقة مع الآخرين: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ) [الممتحنة:1].
لكننا بدأنا نسمع دعوات بالتسامح مع الكافرين والمبتدعين والذين يعبر عنهم بالآخَر، ودين الله ليس من صنع البشر تتحكم فيه الأهواء والرغبات، وقد بين لنا كيف نتعامل مع مَن خالَفَنا في العقيدة والمنهج: (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) [الممتحنة:8].
(إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ) [الممتحنة:9]، دين الإسلام دين ولاء وبراء، وبغض ومحبة، كما أنه ليس دين ظلم وجور وبخس للحقوق، وتعدٍّ على الحرمات والأموال.
عقيدتنا أمام امتحان كبير حينما يجهر بسب الله، والاستهزاء برسول الله، واللمز لدين الله، ثم تتبلد الأحاسيس، ولا تتمعر الوجوه، وتمضي هذه التجاوزات الخطيرة بلا إنكار ولا استنكار، ويظل دعاة العلمنة والكفر تحت مظلة حرية الفكر! يقولون ما يشتهون، لا يعصون شيطانهم ما أمرهم ويفعلون ما يأمرون؛ لأن سيف الحق تجاوزهم وهم عن تطبيق شرع الله فيهم آمنون!.
وأخلاقنا وأعراض شبابنا وبناتنا في امتحان حينما يغفل الآباء وتنشغل الأمهات، ألم يشغل بالك -أخي المسلم- مصير ابنك وابنتك بعد خروجهم من قاعات الامتحان؟ ربما لا تدري أن نسبة كبيرة من مظاهر الانحراف والانتكاس والشذوذ والفساد الأخلاقي إنما تنشأ وتبدأ أيام الامتحانات، وثالوث الانحراف: اللواط والمخدرات والسرقات إنما تظهر بذروها أيام الامتحانات غالبا.
إن بناتنا وهن يخرجن من المدارس قبل موعد الخروج يتعرضن لذئاب البشر ممن قل حياؤهم، واستطار شرارهم، وجعلوا مهمتهم التحرش بالطالبات ومضايقتهن بكلمة أحيانا، أو برسالة مختصرة أحيانا، أو برمي رقم الهاتف أحيانا.
وكم خدع هؤلاء الذئاب بوسائلهم المختلفة عدداً من فتيات المسلمين فأصابهن من لوثة العرض ما دنس حيائهنَّ، وجاء بالفضيحة على عوائلهن، وربما كان السبب من الفتاة نفسها بتساهلها وتميعها وطريقة مشيها.
يا أيها الأولياء: ربما لا تدرون ما يفعل أبنائكم بعد نهاية الامتحان، وربما لا تدرون أن هناك ضعاف النفوس يستدرجونهم ويتحرشون بهم، وربما لا تعلمون أن هناك من الشباب من جعل شغله إيذاء عباد الله بالتفحيط والدوران.
وكم كانت هذه الأمور مفتاحا لكثير من الشرور، فكم من شاب تبدو على ظواهره مظاهر الخير والصلاح كانت الامتحانات نقطة تحوله للانحراف حينما ركب مع المفسدين، وجالس المدخنين، فكانت النتيجة انحرافا وانتكاسا، والثمن انتهاك عرض، ووأد فضيلة.
أيام الامتحانات يتساءل فيها بأدواء وأخطار، فتوصيل الطلبات من المطاعم صار ظاهرة، وفي بواطنه انحرافات سافرة، ومذاكرة البنت مع زميلاتها في غير بيتها خطوة خفية لانحرافها، والمنبهات تكثر وهي خطوة إلى المخدرات، والآباء والأمهات مشغولون بالنتيجة وكثرة الدرجات.
فهل يا ترى ننجح في هذا الامتحان الأخلاقي؟ ويقوم كلن منا بدوره توعية وتوجيها ومتابعة ومراقبة حينما نكون يدا معطاءة، ونفسا باذلة، وقلبا حيا نابضا، حينها سننجح في امتحان الأخلاق.
يا مسلمون: أمتنا هذه الأيام في امتحان أخلاقي خطيرا، مجتمعنا الذي ينعم بالأمن أمن الأعراض والأموال والعقول والأخلاق، مجتمعنا الذي تسوده الفضيلة ويميزه الترابط والتواصل، مجتمعنا هذا يدبر له ويكاد على أيدي أهل الفساد.
لقد أدرك أعداء الإسلام أن قوة المسلمين وعامل بقائهم واستعلائهم يكمن في هذا الدين ومبادئه الخالدة السامقة، ويتمثل في تماسك أفراده وانتظام الأسرة المسلمة تحت مظلة العفاف والستر والبعد عن الرذائل والموبقات، وأيقنوا أن لا سبيل إلى القضاء على الإسلام عسكريا؛ من اجل ذلك فقد سعوا إلى زعزعة البناء الأخلاقي للأمة، وهدم جدار الفضيلة والعفة، وزرع بذور الانحراف والانحلال.
ومع أنهم نجحوا في التأثير على فئة من شباب الأمة فجعلوا منهم دعاة لأفكارهم، مع نجاحهم في هذا وذاك فإن كيدهم ومكرهم يتجلى بصورة أوضح من خلال قضية تعتبر من أهم أهدافهم التي ينشدونها وغاياتهم التي يسعون إليها، تلكم هي قضية المرأة، وما لها وما عليها.
إنها ليس ثمة حكم من الأحكام صوبت نحوه السهام ولقي كثيرا من مؤامرات المستعمرين والمستغربين مثل ما لقيه تحكيم شريعة الله في الأرض، وما عاناه نظام الأسرة المسلمة من هجوم وتنقص، وعلى الأخص منه حجاب المسلمة الذي يصون النفس ويحفظ العرض.
لقد كان من أعظم الأهداف التي طالتها سهام الأعداء وأذنابهم حجاب المرأة المسلمة وعفتها وحيائها من خلال ما يمليه عليهم شياطين الإنس والجن من وسائل، تارة في المقالات الصحفية، وتارة في الرسوم الساخرة وعبر المسلسلات الضالة، وتارة عبر المجالس الرسمية يصرحون تارة ويلوحون تارة أخرى مستغلين الأحداث والأزمات.
لقد تبارت أقلامهم في أطروحاتهم الفكرية والبحوث والحوارات الصحفية، وتنوعت شبهاتهم، وحرفوا مسار الكلم والقلم حتى يصلوا إلى أهدافهم المبيتة بلين.
لما كان تمسك المسلمين بالحجاب أصلا من أصول نظامهم الاجتماعي ومنهجهم الإسلامي نهج أعداء الإسلام سياسية تكسير الموجة شيئا فشيئا، وهي سياسة استعمارية معروفة، فكانت الخطوة الأولى إبراز فكرة جديدة كنقطة انطلاق يتبعها ما وراءها، وتضفي عليها الصبغة الدينية الشرعية حتى لا تصدم شعور العامة، ويكون التذرع بالدين وفتح باب الاجتهاد سبيلا إلى قبولها.
ولابد في ذلك من استدراج بعض الشيوخ والعلماء لكي يدلوا بدلوهم في القضية باعتبار أنها خلاف فقهي فيه راجح ومرجوح، ومن هنا تبدأ القابلية للتردد وزلزلة الأفكار، أجل! لابد أن يبدأ الزحف بصحبة الشيوخ الذين تقدسهم العامة والذين يستغلون في البداية كأسلحة مؤقتة، ولا بأس أيضاً بالتنقيب في الأسفار والبحث هنا وهناك عن عبارات وفتاوى مبتورة تبرر الانحراف عن الشريعة.
ثم بعد ذلك، وبعد تمكُّن الفكرة الجديدة من القلوب، وشن الحملات على ما يخالفها من الأوضاع الاجتماعية السائدة، يبدأ الانخلاع من الدين شيئاً فشيئاً؛ لتختفي النبرة الإسلامية حيناً، ثم تأتي مرحلة الهدم والضرب العشوائي الذي يحطم كل شيء.
نجح المفسدون في بعض خطواتهم، فتوظفت المرأة بائعة في المحلات، واقتحمت عالم التجارة والعقارات، ومارست البيع بالمزاد والمساهمات، صارت ممثلة ومذيعة وخرجت على الشاشات، خرجت في البداية منتقبة ثم كاشفة، وباقي الخطوات على الطريق.
أخلاقنا في امتحان لابد أن نخرج منه ناجحين حينما نرفض هذه الأفكار العفنة، ونقف ضد هذه المطالب السخيفة، ونعلي راية الاحتساب، ونعزر أهلها، ونناصر دعاتها، وحينما نناصح من ولاهم الله أمرنا.
مؤسساتنا الشرعية في امتحان حينما توجه لها سهام جائرة ماكرة تستهدف إضعافها، والتهوين من دورها، وتحجيمه، وفي النهاية إلغاؤه؛ فالقضاء الشرعي يهان رجاله ويهاجم قضاته، والهيئات يقلص دورها، وتختلق القصص والأكاذيب لتشويه سمعة رجالها، ويزج بالمراهقات المخدوعات وقليلات الحياء في مواجهات استفزازية مع رجال الهيئات ليخرجوهم عن حكمتهم، ويجعلوا من ذلك منطلقا لهجمات إعلامية مدبرة سافرة.
ولكي نُثْبِتَ أننا ناجحون في هذا الامتحان فلا بُدَّ أن نتخلَّق بالوعي، ونتدرَّعَ بالغيرة، وندرك مخططاتِ الأعداء، ونقف في صف أبطال الهيئات ورجال القضاء؛ تأيدا لأفعالهم، وتصديقا لأقوالهم، وذَبَّاً عن أعراضهم، ومطالبةً بإنصافهم، وحينما نكون كذلك ستخبو نار النفاق، وتسقط رايته، (وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) [يوسف:21].
أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه؛ إنه كان للمستغفرين غفارا.
الخطبة الثانية :
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على خير خلقه أجمعين، نبينا محمد، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
أما بعد أيها المسلمون جميعا: إن امتحان الدنيا وإن عظمت وجلت فإنها زائلة بزوال دربها وأيامها، ويبقى الامتحان الأعظم الذي ليس فيه متخلفون ولا معتذرون، (ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ) [التغابن:9]، (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آَتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آَتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا) [مريم:93-95].
انه اليوم الهائل الرهيب... ومن ذا الذي لا يرتعش حسه وهو يسمع ذلك القضاء الرهيب مشهد الآخذ كتابه بيمينه فيقول: (هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ) [الحاقة:19]، ومشهد الهالك الآخذ كتابه بشماله والحسرة تأتي في كلماته ونبراته فهو يقول: (يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ) [الحاقة:25].
ومن ذا الذي لا يرتعش حسه وهو يسمع ذلك القضاء الرهيب يوم العرض، يوم تنكشف الأمور فلا يخفى منها شيء: (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ) [الحاقة:18].
فالكل مكشوف الجسد، مكشوف النفس، مكشوف الضمير، مكشوف العمل، مكشوف المصير، وتسقط جميع الأستار التي كانت تحجب الأسرار، وتتعرى النفوس تعري الأجساد، وتبرز العيوب بروز الشهود، ويتجرد الإنسان من مكره وحيطته، ومن تدبيره ومن شعوره، ويفتضح منه ما كان حريصا على أن يستره حتى عن نفسه.
ومن أقصى الفضيحة على الملأ وما أخذاها على عيون الجمع، إنه يوم عصيب مدته ليست بساعات، وأجواؤه ليست مهيأة ميسرة، وإنما هو يوم مقداره خمسون ألف سنة؛ لكنه على المؤمن كمقدار صلاة مكتوبة.
وهو يوم تشتد فيه الكربات والأهوال، ولا شفيع ولا نصير ولا ولي حميم، ولا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
يوم دعا إبراهيم ربه ألا يخزيه فيه، فأي خزي كان يخشاه خليل الرحمن؟ أفي حياته مداهنة؟! وهل في قاموسه خذلان مسلم؟! وهل من ملته تميع في عقيدة؟! كلا! فإنما هو أمة حياته توحيد وجهاد ودعوة.
يومٌ السؤال فيه عن الفتيل والقطمير، والحساب فيه عسير، ومن نوقش الحساب عذب، والسؤال فيه عن كل شيء: (فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) [الحجر:92]، سنسأل فيه عن عمرنا فيما أفنيناه، وعن شبابنا فيما أبليناه، فهل ياترى سينجح المفحطون وأهل الفساد في ذلك الامتحان؟!.
وبماذا سيجيب العاكفون على القنوات والمضيعون للصلوات؟ وياترى؛ كيف يكون العلمانيون والعلمانيات؟ كيف سيكون مصيرهم وجوابهم؟!.
سنسأل عن مالنا من أين اكتسبناه؟ وفيما أنفقناه؟ فهل سينجح في هذا السؤال أهل الربا والغش والخداع والرشوة والتزوير وأكَلة أموال الناس بالباطل؟.
وسيسئل كل فرد عن علمه، بما عمل به؛ فكيف يقول أرباب الشهادات ممن لا تعرف لهم الدعوة جهدا، ولم يضربوا في الاحتساب والنصح بسهم؟!.
والسؤال الأعظم في ذلك اليوم : ماذا أجبتم المرسلين؟ إنه يوم عظيم، والامتحان فيه لا يقبل المحاباة والتلاعب، المحاسِب هو الله، والشهود هم الملائكة والجوارح، وقاعة الامتحان ساحة القيامة حيث لا ظل إلا ظل عرش الرحمن.
(فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [يس:54]، (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ * الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ) [غافر:16].
ما أجمل أن نجعل الهموم هما واحدا، هم الآخرة! فمن جعل الآخرة همه جمع الله شمله، ويسر أمره وجعل غناه في قلبه، يا ليتنا -ونحن نعايش امتحانات الدنيا- نتذكر الامتحان الأكبر يوم العرض على الله،ـ ذلك الامتحان نتيجته جنة المأوى أو نارٌ تلظَّى، امتحان النجاح فيه أبديّ، والمستقر في جنات ونهر، والعطاء غير مجذوذ، والنعيم لا يوصف، والسعادة لا تحد.
أما الفشل والخسران فثمرته دخول في النار، والنهاية إلى الهاوية، حيث الزفير والشهيق والزقوم ومقامع الحديد، كلما نضجت جلودهم أبدلوا جلودا غيرها ليذوقوا العذاب، ألا ذلك هو الخسران المبين.
(إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ) [الزمر:15]، أما الفوز: (فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ) [آل عمران:185].
اللهم اجعلنا من المتذكرين المعتبرين، ونعوذ بك ان نكون من الغافلين...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي