وإن حياة ملؤها اقتداءٌ بالنبي -صلى الله عليه وسلم- لهي ألذ وأطيب حياة: (ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?سْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ). فدعونا ننتقل إلى السنة الخامسة من الهجرة النبوية، مع حادثةٍ وقع فيها المسلمون ومعهم قائدهم العظيم وإمامهم الكبير -صلى الله عليه وسلم-، إنها ..
أما بعد:
فيا عباد الله: اتقوا الله، واعلموا أنكم في هذه الدنيا تنتقلون من طور إلى طور، ومن ابتلاء إلى ابتلاء، فكان لابد من مقتدين يقتدى بهم، ولا قدوة لكم -عباد الله- إلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصحبه الكرام.
نحن اليوم -عباد الله- مع درس من دروس التاريخ. نحن اليوم مع درس من دروس المصطفى -صلى الله عليه وسلم-. نحن اليوم نرجع إلى الوراء، نرجع إلى قريب من أربعة عشر قرنًا من الزمان لنستلهم الدروس والعبر. نحن اليوم مع درس من دروس السنة النبوية المطهرة -على صاحبها أفضل صلاة وسلام وتحية-.
إنه درسٌ من دروس الجهاد، ودرس من دروس الصبر، ودرس من دروس الإيمان، ودرس من دروس السياسة، ودرس من دروس الذكاء والحنكة.
إن دروسًا تقتبس من سيرة نبينا -صلى الله عليه وسلم- لهي أعظم الدروس: (لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَلْيَوْمَ الاْخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً) [الأحزاب:21].
وإن حياة ملؤها اقتداءٌ بالنبي -صلى الله عليه وسلم- لهي ألذ وأطيب حياة: (ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ) [الأنفال:24].
إخواني: دعونا ننتقل إلى السنة الخامسة من الهجرة النبوية، مع حادثةٍ وقع فيها المسلمون ومعهم قائدهم العظيم وإمامهم الكبير -صلى الله عليه وسلم-، إنها غزوة الأحزاب.
وستكون دروسنا على فقرات ولقطاتٍ محددة:
من هم الأحزاب؟! من هم المدبرون لهذه الغزوة؟! ما هي حال الأحزاب؟! وما هي حال المسلمين مع نبيهم -صلى الله عليه وسلم-؟! ماذا فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- في مقابلة هذا الحدث العظيم؟! ما هي عاقبة الأحزاب؟! مواقف إيمانية وتاريخية.
الأحزاب هم: قريشٌ العدو اللدود المناوئ لدعوة النبي -صلى الله عليه وسلم-، ومعها كنانة وحلفاؤهم من أهل تهامة وبنو سليم، وقبائل غطفان: بنو فزارة، وبنو مرة، وبنو أشجع. والكل يبلغ عدده عشرة آلاف مقاتل، جيش ربما يزيد عدده على جميع من في المدينة من النساء والصبيان والشباب والشيوخ.
من هم المحزِبون، ومن هم أصحاب هذه المكيدة العظيمة في التاريخ؟! إنهم أصحاب الغدر والخيانة والطغيان، الذين يعملون من خلف الكواليس وفي الدهاليز، الذين يخططون في ظلام الليل فيصبح الناس غرقى وهدمى في تدابيرهم، إنهم من لا يزال المسلمون يذوقون ويتقلبون في مكائدهم (وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مّنْهُمْ) [المائدة:13]. إنهم اليهود.
لما أجلى النبي -صلى الله عليه وسلم- بني النضير إلى خيبر، رأوا أن يثأروا لما أصابهم من الذل والهوان وينتقموا من الرسول -صلى الله عليه وسلم- والمؤمنين، فخرجوا إلى مكة لتأليب قريش، تحزيب الأحزاب لقتال النبي -صلى الله عليه وسلم- والقضاء عليه، فوجدوا قريشًا مستعدة لذلك من أجل الهزائم التي لحقتها في غير ما ميدان وساحة قتال، وضللها هؤلاء اليهود؛ إذ أعلموها أنهم على الحق، وأن دينها خير من دين محمد، وأنها أهدى منه سبيلاً في حياتها الدينية والاجتماعية والسياسية.
وفي هذا نزل قول الله تعالى من سورة النساء (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مّنَ الْكِتَـابِ يُؤْمِنُونَ بِلْجِبْتِ وَلطَّـاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَـؤُلاء أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ ءامَنُواْ سَبِيلاً * أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَن يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيراً) [النساء:51، 52]. فخرجت قريش بقيادة أبي سفيان بن حرب، وواصل كلٌّ سيره، فنزلت قريش بمجمع الأسيال من دومة الجرف والغابة، وكان أفراد معسكرهم عشرة آلاف مقاتل من أحابيشهم، ومن تبعهم من كنانة وتهامة، ونزلت غطفان شرق المدينة إلى جنب أحد الشرقي، وفي هذا يقول الله تعالى من سورة الأحزاب: (ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً * إِذْ جَاءوكُمْ مّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الاْبْصَـارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِللَّهِ الظُّنُونَاْ * هُنَالِكَ ابْتُلِىَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُواْ زِلْزَالاً شَدِيداً * وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَـافِقُونَ وَلَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً * وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مّنْهُمْ ياأَهْلَ يَثْرِبَ لاَ مُقَامَ لَكُمْ فَرْجِعُواْ وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مّنْهُمُ النَّبِىَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِىَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَاراً) [الأحزاب: 9-13].
ما هو حال المسلمين مع قائدهم العظيم -صلى الله عليه وسلم-؟!
عدد قليل، ونساء وأطفال، وظروف اقتصادية سيئة، لا يجد فيها سيدهم -صلى الله عليه وسلم- ما يسد حاجته، بل يكشف أحدهم لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن بطنه، فإذا هو مربوط عليه حجر من الجوع، فيكشف النبي -صلى الله عليه وسلم- عن حجرين على بطنه، أعداء بالخارج، قبائل العرب: قريش وكنانة وغطفان ومن مالأهم ويهود بني النضير، أعداء بالداخل: المنافقون الذين ما يزال المسلمون منهم في محنة وبلية، ويهود قريظة المعاهدون للنبي -صلى الله عليه وسلم- ولا يؤمن جانبهم، فإنهم أهل غدر وخيانة.
الله أكبر!! ما أحرجه من موقف!! ولكن (إِن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ) [آل عمران:160]، (وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنينَ) [الروم:47]، (ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِن تَنصُرُواْ اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبّتْ أَقْدَامَكُمْ) [محمد:7].
بلغت الأخبار للنبي -صلى الله عليه وسلم- أن الأعداء قادمون قبل أن يصلوا، فشاور أصحابه، فاقترح سلمان الفارسي -رضي الله عنه- فكرةً لم تعرفها العرب، اقترح حفر الخندق حول جبل سلع، تكون ظهور المسلمين إلى جبل سلع ووجوههم إلى الخندق، فيمنعون كل مقتحم للخندق يريد الوصول إليهم، وأن يوضع النساء والأطفال في حصون المدينة وآطامها، فحفروا الخندق.
ولا تسل أخي عن تلك الروح الطيبة التي تجلت في اجتهاد الصحابة وهم يحفرون الخندق ومعهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يشجعهم، وينقل معهم التراب حتى علا جلده الطاهر، وكانوا يرتجزون برجل من المسلمين يقال له جُعيل، وسماه النبي -صلى الله عليه وسلم- عمْرًا فيقولون:
سماه من بعد جعيل عمرًا
فيقول -صلى الله عليه وسلم-: "عمرًا".
وإذا قالوا:
وكان للبائس يومًا ظهْرًا
يقول هو -صلى الله عليه وسلم-: "ظهرًا".
وكان يرى عليهم أثر التعب، فيقول -صلى الله عليه وسلم-: "اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة، فاغفر للأنصار والمهاجرة".
فيقولون مجيبين له:
نحن الذين بايعوا محمدًا *** على الجهاد ما بقينا أبدًا
وكان -صلى الله عليه وسلم- ينقل معهم التراب ويردد قول عبد الله بن رواحة:
والله لولا الله ما اهتدينا *** ولا تصدقنا ولا صـلينا
فأنزلن سكينـة علينـا *** وثبت الأقدام إن لاقينا
إن الألى قـد بغوا علينا *** إذا أرادوا فـتنـة أبينا
ومع هذه الأحوال المادية الصعبة للنبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه -رضي الله عنهم أجمعين- تعترض لهم صخرة في الخندق، ولنترك الحديث للبراء -رضي الله عنه- يقول: لما كان يوم الخندق عرضت لنا في بعض الخندق صخرة لا تأخذ منها المعاول، فاشتكينا ذلك لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فجاء وأخذ المعول فقال: "بسم الله"، ثم ضرب ضربة، وقال: "الله أكبر، أعطيت مفاتيح الشام، والله إني لأنظر قصورها الحمر الساعة"، ثم ضرب الثانية فقطع آخر، فقال: "الله أكبر، أعطيت فارس، والله إني لأبصر قصر المدائن الأبيض الآن"، ثم ضرب الثالثة، فقال: "بسم الله"، فقطع بقية الحجر، فقال: "الله أكبر، أعطيت مفاتح اليمن، والله إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني".
الله أكبر، مربوطٌ على بطنه الحجرين وبطون أصحابه حجر حجر، ولا يجدون ما يسد حاجتهم من الطعام، ويوعدون بهذه الوعود ويصدقه المؤمنون، إنه الإيمان الذي يتجاوز حواجب الغيب فيجعلها كأنها شهادة.
وأما المنافقون فيقولون: (مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً) [الأحزاب:12]؛ لأن إيمانهم لا يرقيهم لأن تشهد قلوبهم الحق.
ولذا كان المؤمنون مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعملون بجد ونشاط وهمة عالية، وإذا عرضت لأحدهم حاجة ضرورية استأذن من النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم سرعان ما يعود إذا ما انتهى منها.
أما المنافقون فكانوا يورِّي أحدهم بقليل من العمل ثم يذهب إلى أهله بدون إذن ولا استئذان في خفاء، فأنزل الله تعالى فيهم قوله: (قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَـالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [النور:63].
ونزل في المؤمنين: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ ءامَنُواْ بِللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُواْ مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَّمْ يَذْهَبُواْ حَتَّى يَسْتَـذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَـذِنُونَكَ أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَـذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَن لّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ وَسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) [النور:62].
ويتجهز رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه الكرام -رضي الله عنهم- في مقابلة العدو، بلغت جموع الطغيان والشرك، واصطفت أمام معسكر الطهر والتوحيد، يحجز بينهما الخندق مضروبٌ على الأرض، المشركون في كامل عدتهم وعتادهم وجموعهم الكثيرة، والمسلمون في عدد قليل وشفقة على الأهل والذرية.
وفي هذه الأثناء يصل الخبر للنبي -صلى الله عليه وسلم بأبي هو وأمي- يصله خبر نقض بني قريظة للعهد. جبهة جديدة تفتح على المجاهدين، والجبهات متعددة، مشركون متحالفون، ومنافقون من الداخل، ويهود من الجوانب.
بنقض قريظة عهدها عظمت الفتنة واشتد البلاء وعظم الكرب، وأصبحت الحال كما وصف الله تعالى في كتابه إذ قال من سورة الأحزاب: (إِذْ جَاءوكُمْ مّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ) [الأحزاب:10]. أي قريظة من فوق من الجنوب الغربي، وقريش وغطفان من أسفل، إذ هم من الشمال الغربي والشرقي، (وَإِذْ زَاغَتِ الاْبْصَـارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ) [الأحزاب:10]، أي من شدة الخوف، (وَتَظُنُّونَ بِللَّهِ الظُّنُونَاْ) [الأحزاب:10]، أي المختلفة، وهذه حال المنافقين وضعفة الإيمان.
أما المؤمنون الصادقون فهم كما قال الله تعالى فيهم: (هُنَالِكَ ابْتُلِىَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُواْ زِلْزَالاً شَدِيداً * وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَـافِقُونَ وَلَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً) [الأحزاب:11، 12].
إذ قال أحد المنافقين: كان محمد يعدنا أن نأخذ كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط!! وقال آخر: يا رسول الله: إن بيوتنا عورة من العدو، أي مكشوفة له، فائذن لنا أن نخرج من المعسكر فنرجع إلى ديارنا، وهو ومن والاه من قومه المعنيون بقول الله تعالى: (ياأَهْلَ يَثْرِبَ لاَ مُقَامَ لَكُمْ فَرْجِعُواْ وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مّنْهُمُ النَّبِىَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِىَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَاراًً) [الأحزاب:13].
في زحمة الأحداث، وعندما نقضت قريظة العهد، واشتد على النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه -رضي الله عنهم- الحال، رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يخفف عن أصحابه رحمة بهم، صلى الله عليك يا نبي الرحمة.
بعث إلى قائدي غطفان يعرض عليهما صلحًا، وهو أن يعطيهم ثلث ثمار المدينة على أن يرجعوا بمن معهم من قومهم، وتم الصلح، ثم استشار النبي -صلى الله عليه وسلم- السعدين: سعد بن معاذ، وسعد بن عبادة، فقالا له: يا رسول الله: أمرًا تحبه فتصنعه، أم شيئًا أمرك الله به لابد لنا من العمل به، أم شيئًا تصنعه لنا؟! قال: "بل شيء أصنعه لكم، والله ما أصنع ذلك إلا لأني رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة وكالبوكم من كل جانب".
فقال سعد بن معاذ: يا رسول الله: قد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك بالله وعبادة الأوثان، لا نعبد الله ولا نعرفه، وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها تمرة إلا قرىً أو بيعًا، أفحين أكرمنا الله بالإسلام وهدانا له، وأعزنا بك وبه، نعطيهم أموالنا؟! والله ما لنا بهذا حاجة، والله العظيم لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "فأنت وذاك".
وحدثت المناوشات، وحصلت المعركة وفزع النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى ربه يدعوه ويسأله النصر له والهزيمة لأعدائه فقال: "اللهم منزل الكتاب، سريع الحساب: اهزم الأحزاب، اللهم اهزمهم وزلزلهم".
وقال بعض أصحابه: يا رسول الله: هل من شيء نقوله؟! فقد بلغت القلوب الحناجر؟! فقال: "نعم، قولوا: اللهم استر عوراتنا، وآمن روعاتنا".
وفي هذه المعركة رمي سعد بن معاذ -رضي الله عنه- بسهم فقطع منه الأكحل، فدعا سعد: اللهم إنك تعلم أنه ليس أحد أحب إليَّ أن أجاهدهم فيك من قوم كذبوا رسولك وأخرجوه، اللهم فإني أظن أنك قد وضعت الحرب بيننا وبينهم، فإن كان بقي من حرب قريش شيء فأبقني لهم، حتى أجاهدهم فيك، وإن كنت وضعت الحرب فافجرها واجعل موتتي فيها. وقال في آخر دعائه: ولا تمتني حتى تقر عيني من بني قريظة. فأقر الله عينه من بني قريظة، فإنه هو الذي حكم فيهم -رضي الله عنه-، ووافق حكمه حكم الله من فوق سبع سماوات، ثم أسلم الروح إلى باريها، فرحم الله سعد بن معاذ ورضي الله عنه.
واستجاب الله دعوة رسوله وعباده المؤمنين الصادقين، وشتت قوى التحالف العظيم ومزقهم شر مُمَزَّق، وردّ كيدهم وكفى الله المؤمنين القتال كما وصف الله بقوله: (وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُواْ خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً) [الأحزاب:25].
ولنصغِ إلى حذيفة بن اليمان -رضي الله عنه- وهو يحدث عن حال الأحزاب وما صنع الله بهم، ويحكي مشاهدته لمعسكر أبي سفيان في تلك الليلة الباردة وهو يعلن الرحيل بسرعة: قال -رضي الله عنه-: وقد قال له رجل من أهل الكوفة: يا أبا عبد الله: أرأيتم رسول الله وصحبتموه؟! قال: نعم يا ابن أخي، قال: فكيف كنتم تصنعون؟! قال: والله لقد كنا نجتهد، فقال السائل لحذيفة: والله لو أدركناه ما تركناه يمشي على الأرض، ولحملناه على أعناقنا.
فقال حذيفة: "يا ابن أخي: والله لقد رأيتنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالخندق، وصلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هويًا من الليل -أي قطعة من الليل- ثم التفت إلينا فقال: "مَنْ رجلٌ يقوم فينظر لنا ما فعل القوم ثم يرجع؟!"، فشرط له رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الرجعة "أسأل الله تعالى أن يكون رفيقي في الجنة". فما قام رجل من القوم من شدة الخوف وشدة الجوع وشدة البرد، فلما لم يقم أحد دعاني رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فلم يكن بد من القيام حين دعاني فقال: "يا حذيفة: اذهب فادخل في القوم فانظر ما يصنعون، ولا تُحدثن شيئًا حتى تأتينا". قال: فذهبت فدخلت في القوم، والريح وجنود الله –الملائكة- تفعل بهم ما تفعل، لا تقر لهم نارًا، ولا قدرًا، ولا بناءً، فقام أبو سفيان فقال: يا معشر قريش: لينظر امرؤ جليسه، قال حذيفة: فأخذت بيد الرجل الذي إلى جنبي، فقلت: من أنت؟! قال: فلان ابن فلان، ثم قام أبو سفيان فقال: يا معشر قريش: إنكم والله ما أصبحتم بدار مقام، لقد هلك الكراع والخف، وأخلفتنا بنو قريظة وبلغنا عنهم ما نكره، ولقينا من شدة الريح ما ترون، ما تطمئن لنا قدر ولا تقوم لنا نار، ولا يستمسك لنا بناء، فارتحلوا إني مرتحل، ثم قام إلى جَمَلِه وهو معقول، فجلس عليه ثم ضربه، فوثب به على ثلاث، فوالله ما أطلق عقاله إلا وهو قائم، ولولا عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إليَّ: "لا تحدثن شيئًا حتى تأتيني"، ثم شئت لقتلته بسهم، فرجعت إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو قائم يصلي في مرط لبعض نسائه، فلما رآني أدخلني وطرح عليّ طرف المرط، ثم ركع وسجد وإني لفيه، فلما سلم أخبرته الخبر.
وسمعت غطفان بما فعلت قريش فانحسروا راجعين إلى بلادهم. وهنا قال الحبيب -صلى الله عليه وسلم-: "الآن نغزوهم ولا يغزونا"، وحقًّا لم تغز بعدها قريش النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى غزاهم في عقر دارهم، ودخل مكة عليهم، ولما أصبح رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تلك الليلة عاد إلى المدينة وعاد أصحابه، والحمد لله على النصر المبين لعباده المؤمنين.
الحمد لله المحمود بكل حال، ونعوذ بالله من حال أهل الضلال، نحمده حمدًا يليق بجلاله وكماله، هو العلي المتعال.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن نبينا محمدًا عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليمًا كثيرًا.
ثم أما بعد:
فيا أمة الإسلام: إن مواقف النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه لهي النبراس الذي نقتدي به.
وبعد ذكر شيء مقتضب من أحداث غزوة الأحزاب ورد الله كيد الأعداء، نذكر بعض الصور الإيمانية والدروس التاريخية التي تذكي في النفوس العزم والتصميم على حماية هذا الدين.
فمن ذلك ما حدث من صفية بنت عبد المطلب -رضي الله عنها وأرضاها- لما رأت رجلاً من اليهود يطيف بالحصن، وفيه النساء والصبية، وقد حاربت بنو قريظة ونقضوا العهد، وقطعت ما بينها وبين النبي -صلى الله عليه وسلم-، وليس بينهم أحد يدافع عنهم، فخشيت أن يدل اليهودي على عورات المسلمين، وقد شُغل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، فاحتجزت ثم أخذت عمودًا، ثم نزلت من الحصن إليه، فضربته بالعمود حتى قتلته، ثم رجعت إلى الحصن.
الله أكبر، ليت في رجالنا كثير من مثل صفية بنت عبد المطلب.
وكان لهذا الفعل من صفية، وهي عمة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الأثر العظيم في حفظ ذراري المسلمين ونسائهم، فظن اليهود أن الآطام والحصون ممنعة من الجيش، فلم يجترئوا ثانية على القيام بمثل هذا العمل.
ومن المواقف المؤثرة في الأحداث: أن الله صنع أمرًا من عنده خذل به العدو، وهزم جموعهم، وفلّ حدّهم، فكان مما هيأ الله أن رجلاً من غطفان يقال له نعيم بن مسعود جاء إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال: يا رسول الله: إني أسلمت، وإن قومي لا يعلمون بإسلامي، فمرني بما شئت. وهذا أثر الإيمان عندما تخالط بشاشته القلب، التحرق لنصرة الإسلام والمسلمين.
فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إنما أنت رجل واحد، فخذل عنا ما استطعت، فإن الحرب خدعة".
فذهب من فوره إلى بني قريظة -وكان عشيرًا لهم في الجاهلية- فدخل عليهم وقال: قد عرفتم ودي إياكم، وخاصة ما بيني وبينكم، قالوا: صدقت. قال: فإن قريشًا ليسوا مثلكم، البلد بلدكم، فيه أموالكم، وأبناؤكم، ونساؤكم، لا تقدرون أن تتحولوا منه إلى غيره. وإن قريشًا وغطفان قد جاؤوا لحرب محمد وأصحابه، وقد ظاهرتموهم عليه، وولدهم وأموالهم ونساؤهم بغيره، فإن أصابوا فرصة انتهزوها، وإلا لحقوا ببلادهم، وتركوكم ومحمدًا، فانتقم منكم. قالوا: فما العمل يا نعيم؟! قال: لا تقاتلوا معهم حتى يعطوكم رهائن. قالوا: لقد أشرت بالرأي.
ثم مضى نعيم على وجهه إلى قريش، وقال لهم: تعلمون ودي لكم ونصحي لكم. قالوا: نعم. قال: فإن يهود قد ندموا على ما كان منهم من نقض عهد محمد وأصحابه. وإنهم قد راسلوه أنهم يأخذون منكم رهائن يدفعونها إليه. ثم يوالونه عليكم. فإن سألوكم رهائن فلا تعطوهم، ثم ذهب إلى غطفان وقال لهم مثل ذلك.
عباد الله: إن الإيمان ليصنع العجائب، ويحيي النفوس الخائرة.
ودروس السيرة تغذي الإيمان وتوعي المؤمنين بمكائد الأعداء: (وَلاَ يَزَالُونَ يُقَـاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلـئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَـالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلآخِرَةِ وَأُوْلـئِكَ أَصْحَـابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَـالِدُونَ) [البقرة:217].
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي