وتذكروا دائماً فيما تعملون أو تذرون قول النبي -صلى الله عليه وسلم- كما في الحديث الصحيح عن العرباض بن سارية -رضي الله عنه-، قال: قال -صلى الله عليه وسلم-: "إنه مَن يعِشْ منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي، وسنةِ الخلفاء الراشدين من بعدي، تمسَّكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ. وإياكم ومحدثاتِ الأمور! فإن كلَّ بدعة ضلالة" ..
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وارض اللهم عن أصحابه أجمعين والتابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [المائدة:35]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) [الأنفال:19].
عباد الله: وقبل أيامٍ انسلخ شهرُ رجب، وهو من أشهر الله الحرم، واليوم ينسلخ من شهر شعبان نصفه، وبعد سلخ نصفه الباقي يدخل شهر رمضان المبارك، وبين شهرٍ حرام، وشهر مبارك يغفل الناس، وربما فتروا عن العبادة في شهر شعبان.
ولذا كان رسول الهدى -صلى الله عليه وسلم- يخصُّ شعبان بنوع من العبادة، لا يخصُّ به كثيراً من أشهر العام، فقد كان يُكثر فيه من الصيام إلى حدٍّ قالت معه أمُّ المؤمنين عائشة -رضي الله عنها-: لم يكن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصوم شهراً أكثرَ من شعبان، كان يصومُ شعبان كلَّه. متفق عليه.
وفي رواية أخرى -وسندها صحيح إلى عائشة قالت: كان أحبَّ الشهور إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يصومه شعبان، ثم يصله برمضان.
وقد فسَّر العلماءُ -رحمهم الله- قول عائشة -رضي الله عنها- بأن المعتمد عند الأئمة كابن المبارك وغيره أن قولها: يصوم شعبان كلَّه، أي: أغلبه، وجاء اللفظ من باب التكثير، بمعنى أنه -صلى الله عليه وسلم- كان يصومُ أكثر أيام شعبان.
إخوة الإسلام: وقد تحدث العلماء في سرِّ تفضيل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للصيام في شهر شعبان، وقارنوا ذلك كذلك بما ورد عنه في أفضلية الصوم في شهر الله المحرم، حيث ورد في صحيح مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه-، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "أفضل الصيام بعد رمضان شهرُ الله المحرم".
ولهم في ذلك كلام يطول شرحه، وفيما يخص شعبان، لعلَّ من أقوى الحكم المُعللة لكثرة صيامه -صلى الله عليه وسلم- في هذا الشهر، ما رواه أسامةُ بن زيد -رضي الله عنه- حين قال: يا رسول الله! لم أرك تصوم من شهر من الشهور ما تصوم من شعبان؟ قال: "ذاك شهرٌ يغفلُ الناسُ عنه بين رجب ورمضان، وهو شهرٌ تُرفعُ فيه الأعمالُ إلى ربِّ العالمين، فأحبُّ أن يرفع عملي وأنا صائم" أخرجه النسائي وإسناده حسن وثبت الحديثُ في صحيح ابن خزيمة.
وفي الحديث يعلل كثرة صيامه -صلى الله عليه وسلم- في شعبان بأمرين: أولاً: غفلة الناس في هذا الشهر عن العبادة والطاعة بين رجب ورمضان، وثانياً: ولأن الأعمال ترفع في شهر شعبان لرب العالمين، فيحب -صلى الله عليه وسلم- أن ترفع وهو صائم.
أيها المسلمون: وثمة أمرٌ ثالث وميزة لشهر شعبان، تفسر كثرة صيامه -صلى الله عليه وسلم- فيه، فقد ورد أن الله يكتب المنايا في السنة في شعبان.
قال ابن حجر: وجاء في (مسند أبي يعلى) عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصوم شعبان كلَّه، فقلت: يا رسول الله! أراك تصوم في شعبان ما لا تصوم في غيره؟ فقال: "إن الله يكتب على كل نفسٍ منيةَ تلك السنة، فأحبُّ أن يكتب أجلي وأنا صائم". وحسَّن الحديث بعضهم.
إخوة الإيمان: أما الميزة الرابعة في شهر شعبان، فهي مغفرة الله لجميع خلقه إلا لمشركٍ أو مشاحن، وذلك ليلة النصف من شعبان، فقد ورد في سنن ابن ماجه بسند حسن -كما قال الألباني- عن أبي موسى -رضي الله عنه-، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الله تعالى لَيطَّلعُ في ليلة النصف من شعبان فيغفرُ لجميع خلقه، إلا لمشركٍ أو مشاحنٍ" صححه الألباني.
وروي ذلك عن عدد من التابعين –كما في (مصنف عبد الرزاق)- وروي عن عطاء ومكحول، والفضل بن فضالة، وقال المنذري: مرسل جيد.
وعن ليلة النصف من شعبان قال شيخ الإسلام ابنُ تيمية -رحمه الله- في (الاقتضاء): وروي في فضلها من الأحاديث المرفوعة ما يقتضي أنها ليلة مفضلة، وهناك من السلف من كان يخصها، وهناك من العلماء من السلف من أنكر فضلها؛ ولكن الذي عليه كثيرٌ من أهل العلم أو أكثرهم -من أصحابنا وغيرهم- على تفضيلها.
وعلى التفضيل يدل نصُّ أحمد في (المسند) – عن عبد الله بن عمرو، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "يطَّلع الله -عز وجلّ- إلى خلقه ليلة النصف من شعبان، فيغفر لعباده إلاّ لاثنين: مشاحن وقاتل نفس". وفيه: "إن الله يغفر لأكثر من عدد شعر غنم كلب" الترمذي وابن ماجة.
إلى أن قال: فأما صومُ يوم النصف مفرداً فلا أصل له، بل إفراده مكروه، وكذا اتخاذُه موسماً تُصنع فيه الأطعمة، ويظهر فيه الزينة: هو من المواسم المحدثة المبتدعة التي لا أصل لها، وكذلك ما قد أُحدث في ليلة النصف من الاجتماع العام للصلاة الألفية في المساجد الجامعة ومساجد الأحياء والدروب والأسواق، فذلك لم يشرع؛ بل مكروه، فإن الحديث الوارد في الصلاة الألفية موضوع باتفاق أهل العلم بالحديث.
والصلاة الألفية هي التي يزعمون أنه ورد الفضلُ بقراءة (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) [الإخلاص:1]، فيها ألف مرة.
عباد الله: وإذا حرصتم على السنة فصمتم من شعبان ما قدر الله لكم اقتداءً بهدي النبي -صلى الله عليه وسلم-، وتحرّيتم مغفرة ربِّكم ليلة النصف من شعبان، فابتعدتم عن الشرك بالله، ومشاحنة خلقه، فإياكم أن تتعدوا إلى البدعة! فـ "كلّ بدعة ضلالة، وكلُّ ضلالة في النار"، والوقوف عند السنة خيرٌ من الاجتهاد في البدعة، وما صحّ من العبادات والطاعات فيه غنية للمسلم، و"مَن أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردٌّ"، كذا صحّ عن النبي -صلى الله عليه وسلم-.
اللهم بارك لنا في شعبان، وبلّغنا رمضان، وأرنا الحقّ حقاً وارزقنا اتباعه، والباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، يا سميع الدعاء.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً) [الكهف:110].
اللهم انفعنا بهدي القرآن والسنة، واكفنا شرَّ الحادثات المبتدعة في الدين، وسلِّمْنا من الفتن يا رب العالمين.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين.
الحمد لله ربِّ العالمين، أكمل الدين وأتمَّ النعمة على المسلمين، وأشهد أن لا إله إلا الله، أمرنا بالعبادة الخالصة له: (أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ) [الزمر:3].
وأشهد أن محمداً عبدُه ورسوله، حثَّ أمته على سنن الهدى، ونهاهم عن البدع المحدثات في الدين، اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين.
إخوة الإسلام: وإذا كانت الصلاة الألفية من بدع شعبان، سواء صلى المصلي مائة ركعة وقرأ فيها بكل ركعة (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) عشر مرات، أو صلاها عشر ركعات وقرأ في كل ركعة (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) مئة مرة.
فمن الأمور المنكرة البدعية أن يعتقد معتقدٌ أن ليلة النصف من شعبان أفضلُ من ليلة القدر، وربما زعم بعضهم أن قوله تعالى: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ) [الدخان:3]، المقصود بها ليلة النصف من شعبان. قال ابن العربي: مَن قال بأنها ليلة النصف من شعبان فقد أعظم الفرية على الله.
ومن البدع أيضاً الاجتماعُ بعد المغرب والعشاء من هذه الليلة لقراءة سورة ياسين ثلاث مرات بصوت جماعي، وقراءة دعاءٍ بعدها، وهذا كلُّه لا نصَّ فيه.
أيها المسلمون: عظِّموا شرع الله، وإياكم والبدعَ والمحدثاتِ! ما ظهر منها وما بطن، في كلِّ زمان أو مكان، وتأملوا الحديث في (صحيح مسلم) عن جابر قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا خطب احمرَّت عيناه، وعلا صوتُه، واشتد غضبه، حتى كأنه منذرُ جيشٍ يقول: صبّحكم ومساكم، ويقول: "بُعثتُ أنا والساعة كهاتين"، ويقرن بين أصبعيه السبابة والوسطى، ويقول: "أما بعد: فإن خير الحديث كتابُ الله، وخيرَ الهدي هديُ محمد، وشرَّ الأمور محدثاتُها، وكلَّ بدعة ضلالةٍ" مسلم. وفي رواية للنسائي: "وكلَّ ضلالة في النار".
عباد الله: وتذكروا دائماً فيما تعملون أو تذرون قول النبي -صلى الله عليه وسلم- كما في الحديث الصحيح عن العرباض بن سارية -رضي الله عنه-، قال: قال -صلى الله عليه وسلم-: "إنه مَن يعِشْ منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي، وسنةِ الخلفاء الراشدين من بعدي، تمسَّكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ. وإياكم ومحدثاتِ الأمور! فإن كلَّ بدعة ضلالة".
قال ابن تيمية رحمه الله: وهذه قاعدة قد دلت عليها السنةُ والإجماع، مع ما في كتاب الله من الدلالة عليه أيضاً، قال تعالى: (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ) [الشورى:21].
ثم قال يرحمه الله: فمن ندب إلى شيء يتقربُ به إلى الله، أو أوجبه بقوله أو بفعله من غير أن يشرعه الله، فقد شرع من الدين ما لم يأذن به الله، ومن اتبعه في ذلك فقد اتخذه شريكاً لله، شرع من الدين ما لم يأذن به الله.
وهكذا -إخوة الإيمان- تبدو خطورة البدعة على من شرعها أو عمل بها، كما قرر العلماء.
بل يقرر ابن تيمية -أيضاً- إن هذا المُشرِّع قد يكون متأولاً في هذا الشرع، فيغفر له لأجل تأويله إذا كان مجتهداً الاجتهاد الذي يُعفى معه عن المخطئ ويُثابُ أيضاً على اجتهاده، لكن لا يجوز اتباعُه في ذلك، كما لا يجوز اتباعُ سائر من قال أو عمل قولاً أو عملاً قد عُلم الصواب في خلافه.
إلى أن يقول ابن تيمية: فمن أطاع أحداً في دينٍ لم يأذن به اللهُ في تحليل أو تحريم أو استحباب أو إيجاب، فقد لحقه من هذا الذمِّ نصيبٌ، كما يلحق الآمر الناهي أيضاً نصيب.
عباد الله: وحين يُحذر العلماءُ من البدع، فلما لها من آثار في تقويض السنن، يقول ابن تيمية معلقاً على حديث: "ما أحدث قومٌ بدعةً إلا نزعَ الله عنهم من السُّنة مثلها"، يقول: إن الشرائع أغذية القلوب، فمتى اغتذت القلوب بالبدع، لم يبق فيها فضل للسُّنن، فتكون بمنزلة من اغتذى بالطعام الخبيث. ومن رام المزيد فليرجع إلى (اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم).
أيها المسلمون: ومن مسائل شعبان: روى أبو داود والترمذي بإسناد صحيح عن أبي هريرة أنه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إذا انتصفَ شعبانُ، فلا تصوموا"، وفي رواية الترمذي: "إذا بقي نصفٌ من شعبان، فلا تصوموا" صححه محقق جامع الأصول، وفي رواية عند أحمد: "إذا انتصف شعبان فلا تصوموا حتى يكون رمضان" صحيح الجامع الصغير.
قال بعض العلماء: وهذا محمول على من يُضْعِفُهُ الصوم، لأجل أن يتقوى على صيام رمضان، أما من لا يضعفه أو له عادة الصيام، ولا ينوي بذلك الاحتياط لرمضان، فلا حرج عليه في الصيام، قال -عليه الصلاة والسلام-: "لا يتقدَّمنَّ أحدُكم رمضان بصوم يوم أو يومين، إلا أن يكون رجلاً كان يصوم صوماً فليصمْهُ" أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما.
وبقي أن نذكر بأهمية وضرورة التعجيل بالقضاء لمن عليه شيء من رمضان السابق، وذلك قبل حلول شهر رمضان القادم، فلا تتهاونوا -عباد الله- فيما أوجب الله عليكم، ودَيْن الله أحقُّ بالقضاء.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي