فيتجلى لهم الرب ويضحك إليهم ويقول: يا أهل الجنة؟ فيكون أول ما يسمعون منه -تعالى-: أين عبادي الذين أطاعوني بالغيب ولم يروني؟ فهذا يوم المزيد، فاسألوني. فيجتمعون على كلمة واحدة: أرنا وجهك ننظر إليك؛ فيكشف لهم الرب -جل جلاله- الحجب ويتجلى لهم، فيغشاهم من نوره ما لولا أنّ الله -تعالى- قضى أن لا...
عباد الله: عن السائب بن مالك، قال: كنا جلوسا في المسجد، فدخل عمار بن ياسر فصلى صلاة أخفها، فمر بنا فقيل له: يا أبا اليقظان: خففت الصلاة، فقال: أوَخَفيفةً رأيتموها؟ قلنا: نعم. قال: أما إني قد دعوت فيها بدعاء قد سمعته من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
ثم مضى فاتبعه السائب فسأله عن الدعاء، ثم رجع فأخبرهم بالدعاء: "اللَّهُمَّ بِعِلْمِكَ الْغَيْبَ، وَقُدْرَتِكَ عَلَى الْخَلْقِ، أَحْينِي مَا عَلِمْتَ الْحَياةَ خَيْرًا لِي، وَتَوَفَّنِي إِذَا كَانَتْ الْوَفَاةُ خَيْرًا لِي، اللَّهُمَّ وَأَسْألُكَ خَشْيَتَكَ فِي الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، وَأَسْأَلُكَ كَلِمَةَ الْحَقِّ فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَا، وَأَسْأَلُكَ الْقَصْدَ فِي الْفَقْرِ وَالْغِنَى، وَأَسْأَلُكَ نَعِيمًا لاَ يَنْفَدُ، وَأَسْأَلُكَ قُرَّةَ عَيْنٍ لاَ تَنْقَطِعُ، وَأَسْأَلُكَ الرِّضَاءَ بَعْدَ الْقَضَاءِ، وَأَسْأَلُكَ بَرْدَ الْعَيْشِ بَعْدَ المَوْتِ، وَأَسْأَلُكَ لَذَّةَ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِكَ، وَأَسْأَلَكَ الشَّوْقَ إِلَى لِقَائِكَ فِي غيرِ ضَرَّاءٍ مُضِّرَةٍ، وَلاَ فِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ، اللَّهُمَّ زَيِّنَّا بِزِينَةِ الإيِمَانِ، وَاجْعَلنَا هُدَاةً مُهْتَدِينَ".
إنَّ هذا الدعاء قد حوى أعظم لذة في الدنيا، وهي الشوق إلى لقاء الله -تعالى-، وأعظم لذة في الآخرة، هو النظر إلى وجهه عَزَّ وجل.
إن شوق النبي -صلى الله عليه وسلم- كان ظاهراً لمن تأمل سيرته، فها هو يحسر ثيابه عن جسده الشريف ليصيبه المطر، فيُسْألُ عن هذا فيقول: "إنّهُ حَدِيثُ عَهْدٍ بِربِّه".
وازداد شوقه لربه -تعالى- في آخر حياته، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، جَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَقَالَ: "إِنَّ عَبْدًا خَيَّرَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بَيْنَ أَنْ يُؤْتِيَهُ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا مَا شَاءَ وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ، فَاخْتَارَ مَا عِنْدَهُ". فَبَكَى أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، وَقَالَ: فَدَيْنَاكَ بِآبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا! فَعَجِبْنَا لَهُ، وَقَالَ النَّاسُ: انْظُرُوا إِلَى هَذَا الشَّيْخِ يُخْبِرُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، عَنْ عَبْدٍ خَيَّرَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بَيْنَ أَنْ يُؤْتِيَهُ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ، وَهُوَ يَقُولُ: فَدَيْنَاكَ بِآبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا. فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- هُوَ الْمُخَيَّرُ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ هُوَ أَعْلَمُنَا بِهِ.
ها هو -بأبي هو وأمي- مسنداً رأسه على صدر أحب الناس إليه في الدنيا، عائشة رضي الله -تعالى- عنها فيخيِّره جبريل -عليه السلام- بين الدنيا وبين لقاء الله -تعالى-، تقول: "فرأيته رفع إصبعه ثم قال: بل الرفيق الأعلى! بل الرفيق الأعلى! بل الرفيق الأعلى! فعلمتُ أنه لا يختارنا".
ذلك الشوق إلى الله -تعالى- هو الذي حمل موسى -عليه السلام- على أن يسبق السبعين الذين اختارهم لميقات ربه، فأمرهم أن يتبعوه وأسرع هو إلى موعدِهِ مع خالقه وهو يقول: (وعجلتُ إليك ربّ لترضى) [طه:84]، (وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ)، ازداد شوقه وتعجَّل لذة الآخرة، (قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) [الأعراف:143].
أخي المؤمن: كيف هو شوقك إلى ربك؟ كيف هو شوقك إلى من خلقك ولم تك شيئاً؟ كيف هو شوقك إلى مَن رَزَقَكَ في بطن أمك في ظلمات ثلاث؟ كيف هو شوقك إلى من أنعم عليك نعماً لا تحصى؟.
قال -تعالى-: (مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لآَتٍ) [العنكبوت:5]. قال ابن القيم -رحمه الله-: قيل: هذا تعزية للمشتاقين، وتسلية لهم. أي: أنا أعلم أن من كان يرجو لقائي، فهو مشتاق إلي، فقد أجَّلت له أجلاً يكون قريباً؛ فإنه آتٍ لا محالة، وكل آتٍ قريب... وفيه تعليل للمشتاقين برجاء اللقاء.
مالذي جعل عمير بن الحمام في يوم بدر يسمع البشارة النبوية: "قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض"، فينظر إلى تمرات في يده كان يبغي أكلها، فيغلبه شوقه فيقول: لئن بقيت حتى آكلك إنها لحياة طويلة! فيرمي التمرات، ويخوض الغمرات؟! إنه الشوق إلى الله.
مالذي جعل حرام بن ملحان عندما اخترق الرمحُ ظهره حتى خرج من صدره، وأصبح يتلقى الدم بيديه، ويمسح به وجهه ورأسه، ويقول: فزت ورب الكعبة! يقول قاتِله جُبَار: كيف فاز؟ ألست قد قتلت الرجل؟ حتى سألت بعد ذلك عن قوله، فقالوا: الشهادة، فقلت: فاز لعمر الله! فكان سببًا لإسلامه.
الشوق إلى لقاء الله -تعالى- هو سلوة القابضين على الجمر في هذا الزمان عظيم الفتن، متغير الأحوال؛ الشوق إلى لقاء الله -تعالى- هو الذي جعل المؤمنين في ليلة شديدة البرد ينفضون فرشهم الدافئة ويجيبون داعي الله -عز وجل-: (الصلاة خير من النوم).
كَان يَحيى بن معاذ-رحمه الله- يقول: يَخْرُج المُحِبّ مِنَ الدُّنيا وَمَا قَضَى وَطرَهُ من شيئين: بُكَاؤه عَلى ذنوبه، وَشَوقه إلى رّبه ومَحْبوبه!
إذا كان حُبُّ الهائمين من الورى *** بليلى وسلمى يسْلُبُ اللُّبَّ والعَقْلا
فماذا عسى أنْ يصنعَ الهائمُ الذي *** سرى قلبُه شوقاً إلى الملأ الأعلى؟!
قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "مَن أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللهُ لِقَاءَهُ، وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ كَرِهَ الله لِقَاءَهُ". فقالت عَائِشَةُ: إنا لَنَكْرَهُ الْمَوْتَ! قال: "ليس ذاك، وَلَكِنَّ الْمُؤْمِنَ إذا حَضَرَهُ الْمَوْتُ بُشِّرَ بِرِضْوَانِ اللَّهِ وَكَرَامَتِهِ فَلَيْسَ شَيْءٌ أَحَبَّ إليه مِمَّا أَمَامَهُ، فَأَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ، وَأَحَبَّ الله لِقَاءَهُ، وإن الْكَافِرَ إذا حَضَرَهُ الْمَوْتُ بُشِّرَ بِعَذَابِ اللَّهِ وَعُقُوبَتِهِ، فَلَيْسَ أَكْرَهَ إليه مِمَّا أَمَامَهُ، فَكَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ، وَكَرِهَ الله لِقَاءَهُ"
بارك الله لي ولكم...
الحمد لله...
وأما أعظم لذة في الآخرة فهي النظر إلى وجه الله الكريم، قال -تعالى-: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إلى رَبّها ناظِرَةٌ) [القيامة:22-23]. قال الشيخ السعدي -رحمه الله-: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ)، أي: حسنة بهية، لها رونق ونور، مما هم فيه من نعيم القلوب، وبهجة النفوس، ولذةالأرواح، (إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ)، أي: تنظر إلى ربها على حسب مراتبهم: منهم من ينظره كل يوم بكرة وعشيا، ومنهم من ينظره كل جمعة مرة واحدة، فيتمتعون بالنظر إلى وجهه الكريم، وجماله الباهر، الذي ليس كمثله شيء، فإذا رأوه نسوا ما هم فيه من النعيم، وحصل لهم من اللذة والسرور ما لا يمكن التعبير عنه، ونضرت وجوههم فازدادوا جمالا إلى جمالهم.
قال الإمام شيخ الإسلام ابن القيم -رحمه الله-: كمال النعيم في الدار الآخرة برؤيته، وسماع كلامه، وقربه، ورضوانه، لا كما يزعم من يزعم أنه لا لذة في الآخرة إلا بالمخلوق من المأكول والمشروب والملبس والمنكوح، بل اللذة والنعيم التام في حظهم من الخالق -تعالى- أعظم مما يخطر بالبال، أو يدور في الخيال.
وفي دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة، وفتنة مضلة"؛ ولهذا قال -تعالى- في حق الكفار: (كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ، ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا الْجَحِيمِ) [المطففين 15-16] فعذاب الحجاب من أعظم أنواع العذاب الذي يعذب به أعداؤه، ولذة النظر إلى وجه الله الكريم أعظم أنواع اللذات التي ينعم بها أولياؤه.
وذلك أنه إذا دخل أهل الجنة الجنة نادى المنادي: يا أهل الجنة، إنّ ربكم -تعالى- يستزيركم فحيَّ على زيارته! فيقولون سمعا وطاعة، وينهضون إلى الزيارة مبادرين، فإذا النجائب قد أعدت لهم، فيستوون على ظهورها مسرعين.
حتى إذا انتهوا إلى الوادي الأفيح الذي جعل لهم موعداً وجمعوا هناك فلم يغادر الداعي منهم أحداً أمر الرب تبارك و-تعالى- بكرسيه فنصب هناك، ثم نصبت لهم منابر من نور، ومنابر من لؤلؤ، ومنابر من زبرجد، ومنابر من ذهب، ومنابر من فضة، ثم جلس أدناهم -وليس فيهم دنيء- على كثبان المسك ما يرون أصحاب الكراسي مثلهم في العطايا.
حتى إذا استقرت بهم مجالسهم واطمأنت بهم أماكنهم نادى المنادي: يا أهل الجنة، إن لكم عند الله موعداً يريد أن ينجزكموه. فيقولون ما هو؟ ألم يبيض وجوهنا، ويثقل موازيننا، ويدخلنا الجنة، ويزحزحنا من النار؟.
فبينما هم كذلك إذ سطع لهم نور أشرقت لهم الجنة فرفعوا رؤوسهم، فإذا الجبار جل جلاله وتقدست أسماؤه قد أشرق عليهم من فوقهم وقال: يا أهل الجنة، سلام عليكم. فلا ترد التحية بأحسن من قولهم: اللهم أنت السلام، ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام.
فيتجلى لهم الرب ويضحك إليهم ويقول: يا أهل الجنة؟ فيكون أول ما يسمعون منه -تعالى-: أين عبادي الذين أطاعوني بالغيب ولم يروني؟ فهذا يوم المزيد، فاسألوني. فيجتمعون على كلمة واحدة: أرنا وجهك ننظر إليك؛ فيكشف لهم الرب -جل جلاله- الحجب ويتجلى لهم، فيغشاهم من نوره ما لولا أنّ الله -تعالى- قضى أن لا يحترقوا لاحترقوا.
ولا يبقى في ذلك المجلس أحد إلَّا حاضره ربه -تعالى- محاضرة، حتى إنّه ليقول: يا فلان، أتذكر يوم فعلت كذا وكذا؟ يذكّره ببعض غدراته في الدنيا، فيقول: يا رب، ألم تغفر لي؟ فيقول: بلى، بمغفرتي بلغْتَ منزلتك هذه.
اللَّهُمَّ يا منْ هُوَ فـي جَلالِهِ عَظِيْم، وبعِبَادِهِ رحِيْم، و بِمَنْ عَصَاهُ حَلِيْم، ولِمَنْ رَجَاهُ كَرِيْم، يا مَنِ امْتَدَّتْ إلَيْهِ أكُفُّ السَّائِليْنَ، واخْتَلَطَتْ في دُعَائِهِ أصْوَاتُ المُلِحِّيْنَ، يا منْ تَخْشَعُ لَهُ الأَصْوَات، يا منْ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عنْ عِبَادِهِ ويَعْفُو عنِ السَّيِّئَات، نَسْأَلُكَ لَذَّةِ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِكَ، الشَّوْقَ إِلَى لِقَائِكَ فِي غيرِ ضَرَّاءٍ مُضِّرَةٍ، وَلاَ فِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي