إنَّ الإنسانَ يولدُ مرتينِ: مرةً عندما يخرجُ منْ ظلماتِ رَحِمِ أمِّهِ إلى نورِ الدنيا، ومرةً عندما يَخرجُ منْ ظلماتِ المعصيةِ إلى نورِ الطاعةِ. وإذا كانَ الميلادُ الأولُ يشتركُ فيهِ الخَلْقُ كلُّهمْ مسلمُهمْ وكافرُهمْ، بَرُّهمْ وفاجرُهمْ، فإنَّ الميلادَ الآخَرَ خاصُّ بمَنْ وفَّقهُ اللهُ للهدايةِ، ودلَّه على طريقِ الاستقامةِ، وأرادَ لهُ سعادةَ الدنيا والآخرةِ ..
إنَّ الحمدَ للهِ نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه، ونعوذُ باللهِ منْ شرورِ أنفسِنا ومنْ سيئاتِ أعمالِنا، مَنْ يهدِهِ اللهُ فلا مُضلَّ لهُ، ومنْ يضلِلْ فلا هاديَ لهُ. وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لهُ، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُهُ ورسولُهُ، اللهمَّ صلِّ وسلِّم عليهِ وعلى سائرِ الأنبياءِ والمرسلينَ، وارضَ اللهمَّ عن الصحابةِ أجمعينَ، والتابعينَ وتابعيهمْ بإحسانٍ إلى يومِ الدِّينِ وسلِّم تسليماً كثيراً.
عبادَ الله: فضلُ الله يؤتيهِ مَنْ يشاءُ، ومِنْ أعظمِ الفضائلِ وأكبرِ النِّعَمِ الهدايةُ للدِّينِ الحقِّ دينِ الإسلامِ، إنها الفطرةُ يولَدُ عليها كلُّ مولودٍ؛ ولكنَّ عواملَ التأثير بفعلِ الوالدَيْن أَو غيرِهم تَحرِفُ عنِ الفطرةِ، ولكنْ قدْ يعودُ المنحرفُ، بلْ وقد يُسلِمُ الكافرُ استجابةً لنداءِ الفطرةِ التي فطرَ اللهُ الناسَ عليها.
وسأحكي لكمْ هنا قصةً حديثةً معاصرةً وواقعيةً، قرأتُها في إحدى الصحفِ وحدثني بها شهودٌ عيانٌ.
القصةُ وقعتْ في إحدى ولاياتِ أمريكا، لشابٍّ يبلغُ منَ العمرِ قُرابةَ عشرِ سنواتٍ، وُلدَ الغلامُ (ألكساندرُ) لأبوينِ نصرانيِّينِ عام تسعينَ وتسعَ مئةٍ وألفٍ للميلادِ، وقرَّرتْ أمُّه منذُ البدايةِ أنْ تتركَه ليختارَ الدِّين الذي يرغب بعيداً عنْ أيِّ مؤثِّراتٍ عائليةٍ أو اجتماعيةٍ.
وما أنْ تعلَّمَ الغلامُ القراءةَ والكتابةَ حتى أحضرتْ له أُمُّه كُتباً عن كلِّ الأديانِ السماويةِ وغيرِ السماويةِ، وبعدَ قراءةٍ متفحِّصةٍ قرَّرَ (ألكساندرُ) أنْ يكونَ مسلماً! بل شُغفَ حُباً بهذا الدِّينِ حتى تعلَّم الصلاةَ وحفِظَ بعضَ سُوَرِ القرآنِ، وتعلَّمَ الأذانَ، وقرأَ شيئاً عنِ التاريخِ الإسلاميِّ، وتعلَّمَ بعضَ الكلماتِ العربيةِ.
كلُّ هذا -كما يقولُ الخبرُ- دونَ أن يلتقيَ بمسلمٍ واحدٍ، ثمَّ قرَّر أنْ يكونَ اسمُه الجديدُ (محمدَ بنَ عبدِ الله) تيمُّناً بالرسولِ -صلى الله عليه وسلم- الذي أحبَّه منذُ نعومةِ أظفارهِ.
إنها الفطرةُ هُديَ لها هذا الغلامُ الأمريكيُّ، وفَضلُ اللهِ أدركَهُ فتخلَّصَ منْ ظلماتِ الكفرِ، وانحرافاتِ النصرانيةِ أو اليهوديةِ وسواهما، ونسألُ اللهَ لهُ ولغيرِه منَ المسلمينَ الثباتَ على الحقِّ.
إخوةَ الإسلامِ: ولا يزالُ العجبُ يُحيطُ بقصةِ هذا الغلامِ، ولا يدري المطَّلعُ على قصتِهِ أيعجبُ منْ عصاميَّةِ هذا الشابِّ وقوةِ إرادته وقدرتهِ على اتخاذِ هذا القرارِ بالإسلامِ في وسطٍ اجتماعيٍّ لا يعترفُ بالإسلامِ وإنْ أعطتْهُ أمُّه حريّةَ الاختيارِ، أمْ يعجبُ المطّلِعُ كذلكَ منْ فهمِ هذا الغلامِ لهذا الدِّينِ الجديدِ وحبِّه لهُ واعتناقِه لهُ رغمَ الصعوباتِ التي تواجههُ... وفي إجاباتِ هذا الغلامِ ما يكشفُ الحقيقةَ أكثرَ.
فعندَ سؤالِه منْ أحدِ المسلمينَ المقابلينَ لهُ: ما هيَ الصعوباتُ التي تعاني منها لكونِكَ مُسلماً في جوٍّ غيرِ إسلاميٍّ؟ أجابَ الغلامُ بكلِّ أسفٍ وحسرةٍ: تفوتُني بعضُ الصلواتِ في بعضِ الأحيانِ بسببِ عدمِ معرفتي بالأوقات!.
يا سبحانَ الله! غلامٌ حديثُ العهدِ بالإسلامِ، وفي بيئةٍ غيرِ مسلمةٍ يتحسَّرُ على فواتِ وقتِ الصلاةِ -أحياناً- وعذرُهُ عدمُ معرفةِ الوقتِ، وليسَ تهاوناً أو كسلاً! فبماذا يا تُرى يُجيبُ مَنْ يتأخَّرونَ عنِ الصلاةِ، وربما فاتْتهمْ في عددٍ منَ الأوقاتِ! وهمْ يسمعونَ الأذانَ، ويرَوْنَ المسلمينَ وهمْ يصلُّونَ، بلْ وهمْ كبارٌ وفي بيئةٍ إسلاميةٍ تأمرُنا بالصلاةِ وتدعو إليها؟! إنَّه الكسلُ، وضعفُ الهممِ، وغلبةُ الهوى، ونزغُ الشيطانِ؛ إلاّ مَنْ كانَ معذوراً بسفرٍ أو مرضٍ.
وهمَّةٌ أخرى؛ بل صبرٌ على تكاليفِ الإسلامِ، وتحدٍّ لغيرِ المسلمينَ يبرزُ في قصةِ هذا الغلامِ وهو يُسأَلُ: هلْ صمتَ رمضانَ؟ فيبتسمُ ويقولُ: نعمْ؛ لقد صمتُ رمضانَ الماضيَ كاملاً والحمدُ للهِ، وهيَ المرةُ الأُولى التي أصومُ فيها.
ثمَّ يواصلُ حديثَهُ قائلاً: لقدْ كانَ الصيامُ صعباً عليَّ خاصةً في الأيامِ الأُولى، ولقدْ تحدَّاني والدي أنني لنْ أستطيعَ الصيامَ، ولكني صُمتُ، ولمْ يُصدقْ ذلكَ.
وحين سُئلَ الغلامُ المسلمُ عنْ أُمنيتهِ في الحياةِ أجابَ: عندي العديدُ منَ الأمنياتِ، ومنها حفظُ القرآنِ! وتعلُّمُ لغةِ القرآنِ، وقال: أتمنَّى أنْ أذهبَ إلى مكةَ وأقبِّلَ الحَجَرَ الأسودَ! هنا تدخلتْ أمُّه قائلةً: إن غُرفةَ ابنِها مملوءةٌ بصُوَر الكعبةِ، وأضافتْ: إنَّ إيمانَ ابنِها بأمورِ الإسلامِ عميقٌ إلى درجةٍ قدْ لا يُحسُّ بها أو يتصوَّرُها الآخرونَ!.
ثمَّ استطردَ الغلامُ قائلاً: إنني أحاولُ جمعَ ما تبقَّى منْ مصروفِيَ الأسبوعيِّ لكيْ أتمكَّنَ منَ الذهابِ إلى مكةَ المكرَّمةِ يوماً ما، لقدْ سمعتُ أنَّ الرحلةَ إلى هناك تكلِّفُ أربعةَ آلافِ دولارٍ تقريباً، ولديَّ الآنَ منها ثلاثُ مئةِ دولارٍ.
ثمَّ علَّقتْ أمُّهُ -والعاطفةُ تغالبُها لتحقيقِ أمنيةِ ابنها- تقولُ: ليسَ عندي أيُّ مانعٍ منْ ذهابهِ إلى مكةَ، ولكنْ ليسَ لدينا المالُ الكافي لإرسالهِ في الوقتِ الحالي.
ومرةً أخرى: فرْقٌ بينَ هذا الغلامِ حديثِ الإسلامِ في تطلُّعِه وشوقِه إلى زيارةِ البيتِ الحرامِ وأداءِ مناسكِ الحجِّ والعمرةِ، وبينَ نفرٍ منَ المسلمينَ قدْ يكبرونهُ سنًّا، وقدْ يتوفَّرُ لهمْ ما يَحجُّونَ بِهِ ويَعتمرونَ، ولكنهمْ مَعَ الأسفِ عنْ كلِّ ذلكَ غافلونَ!.
أخي المسلم: أيُّها المتهاونُ في الصلاةِ! هلْ تدري عنْ قصةِ هذا الغلامِ مَعَ الصلاةِ في وقتِ الدراسةِ وفي مجتمعٍ لا يُقيمُ للصلاةِ وزناً، بلْ يستنكرُها ويستنكرُ مَنْ يؤدِّيها؟! لقد سُئلَ هذا الشابُّ المسلمُ: هلْ تُصلي في المدرسةِ؟ فأجابَ: نعم، وقد اكتشفتُ مكاناً سرّياً في المكتبةِ أصلِّي فيهِ كلَّ يومٍ!.
وتابعَ المتحدِّثُ مَعَ هذا الشابِّ يقولُ: وحانَ وقتُ صلاةِ المغربِ وأنا أتحدَّثُ معهُ، فنظرَ إليَّ قائلاً: هلْ تسمحُ ليْ بالأذانِ؟ ثمَّ قامَ وأذَّنَ، في الوقتِ الذي اغرورقتْ فيهِ عينايَ بالدموعِ!.
إنها العزّةُ بالإسلامِ، والفرحُ بذكْرِ اللهِ يُرفَعُ، والاستعدادُ للصلاةِ والتفرغُ لهما مهما كانَ نوعُ الارتباطِ دونَ مجاملةٍ أو استحياءٍ في دينِ اللهِ!.
إخوةَ الإسلامِ: وأختمُ الحديثَ عنْ واحدةٍ من أُمنياتِ هذا الغلام الأمريكيِّ المسلمِ، تنمُّ عنْ وَعْيِه بحقوقِ المسلمينَ ومقدَّساتِهمْ، ووعيِه كذلكَ باعتداءِ اليهودِ واغتصابِهمْ، فقدْ ذَكَرَ منْ أمانيهِ أن تعودَ فلسطينُ للمسلمينَ، فهيَ أرضُهمْ وقد اغتصبَها اليهودُ منهمْ... ولمْ يَثنِه عنْ هذا الرأيِ خلافُ والدتِه لهُ... بلْ قالَ: أمِّي لمْ تقرإِ التاريخَ، ولوْ قرأتْه كما قرأتُ لعرفتْ كما عرفتُ!.
إنها عقليةٌ مسلمةٌ شابةٌ يُرجى لها مستقبلٌ زاهرٌ عسى اللهُ أنْ ينفعَ بهِ الإسلامَ والمسلمينَ، وأنْ يهديَ مَنْ ضلَّ إلى الصراطِ المستقيمِ، أعوذُ باللهِ من الشيطانِ الرجيمِ: (فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) [الأنعام:25].
الخطبةُ الثانية:
الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، يُعطي الدنيا مَنْ أحبَّ ومَنْ لمْ يحبَّ، ولا يُعطي الدِّين إلا مَنْ أحبَّ. وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحْدَهُ لا شريكَ له، يَهديْ منْ يشاءُ، ومَنْ يُضلِلِ اللهُ فما لهُ منْ هادٍ. وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه كانَ أحرصَ الناسِ على هدايةِ الأمّةِ للخيرِ في حياتهِ، وما تزالُ سنّتُه تدعو وترغِّبُ وتُبيِّنُ وتَهديْ، (وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً) [الإسراء:72].
يا عبدَ اللهِ: يقولُ العارفونَ: إنَّ الإنسانَ يولدُ مرتينِ: مرةً عندما يخرجُ منْ ظلماتِ رَحِمِ أمِّهِ إلى نورِ الدنيا، ومرةً عندما يَخرجُ منْ ظلماتِ المعصيةِ إلى نورِ الطاعةِ.
وإذا كانَ الميلادُ الأولُ يشتركُ فيهِ الخَلْقُ كلُّهمْ مسلمُهمْ وكافرُهمْ، بَرُّهمْ وفاجرُهمْ، فإنَّ الميلادَ الآخَرَ خاصُّ بمَنْ وفَّقهُ اللهُ للهدايةِ، ودلَّه على طريقِ الاستقامةِ، وأرادَ لهُ سعادةَ الدنيا والآخرةِ.
إنَّ هذا النوعَ منَ الميلادِ -أعني التحوُّلَ منَ المعصيةِ إلى الطاعةِ، ومنَ الضلالةِ إلى الهدى- لا يتقيَّدُ بزمانٍ محدَّدٍ، فقدْ تُولَدُ ميلادَكَ الجديدَ وأنتَ في العشرينَ أو الأربعينَ من عمرِك أو قبلَ ذلكَ أو بعدَ ذلكَ، وقدْ تُولَدُ ميلادَكَ الجديدَ في نفسِ الساعةِ التي تولَدُ فيها ولادتَكَ الحقيقةَ.
وهذا النوعُ منَ الميلادِ -وهُوَ التحوُّلُ منْ السيِّيءِ إلى الحسنِ- لا يتقيَّدُ بمكانٍ، فلربَّما وُلدتَ وأنتَ في المسجدِ، أو الشارعِ، أو البيتِ، أو السجنِ، أو على فراشِ المرضِ، في البَرِّ أو البحرِ أو الجوِّ، قدْ تُولَد وتهتدي وأنتَ في شاهقاتِ الجبالِ أوْ في بطونِ الأوديةِ والشِّعابِ، وكما يُولَدُ أناسٌ بجوارِ البيتِ الحَرامِ فقدْ يولَدُ آخرونَ في أرضِ المادِّيةِ الغربيةِ، أوْ في قعرِ اليهوديةِ والنصرانيةِ، أو في الأراضي الشرقية، حيثُ الإلحادُ والشيوعيةُ.
إنه ميلادٌ ليسَ لهُ سببٌ واحدٌ محدَّدٌ، فلعلَّ السببَ في مولدِ الهدايةِ والاستقامةِ موعظةٌ صادقةٌ، أو موقفٌ مؤثِّرٌ، أو قراءةٌ في كتابٍ نافعٍ، أوْ سماعٌ لشريطٍ مؤثِّرٍ، أو لعلَّ السببَ يكونُ خليلاً ناصحاً، أو دعوةً في ظَهْرِ الغيبِ، أو رؤيا في المنامِ، أو غيرَ ذلكَ منْ عواملِ الهدايةِ بإذنِ اللهِ تعالى.
يا أخا الإسلام: ما أغلى هذا الميلادَ! وما أسعدَ الفردَ بهِ! وكمْ منْ أناسٍ عاشُوا فترةً منْ حياتِهمْ في البؤسِ والشقاءِ، ولربَّما ظنُّوا أنَّ الناسَ كلَّهمْ كذلكَ؛ بلْ وأنَّ الحياةَ كلَّها تسيرُ على هذهِ الوتيرةِ، فلمّا هداهُم اللهُ واستنشقُوا عبيرَ الإيمانِ أدركوا نعمةَ اللهِ عليهمْ في الحاضرِ، وأدركوا ما كانوا فيهِ منْ جحيمٍ في الماضي.
يا أخا الإسلامِ: ومهما مرَّتْ بِكَ هذهِ الشقوةُ منْ عُمرِكَ فأنتَ سعيدٌ أنْ ولدتَ مولدَ السعادةِ قبْلَ موتِكَ، وكلَّما تقدَّمتْ هذهِ الولادةُ في عمرِكَ كلَّما ازددتَ هدىً وراحةً وسعادةً.
يا أخا الإيمان: دعني أقصَّ عليكَ واحدةً منْ قصصِ التائبينَ، منْ أهلِ الميلادِ الجديدِ كانتْ هديتُه للنجاحِ رحلةً وسفراً للخارجِ، يُحدِّثُنا عنْ مشاعرِه وأحاسيسهِ في هذهِ الرحلةِ ويقولُ: أخيراً تركتُ أرضي إلى البلادِ المفتوحةِ، وصلْنا، كلُّ شيءٍ مُعَدٌ: الاستقبالُ، والفندقُ، وجدولُ الزياراتِ، الأرضُ خضراءُ، والجوُّ جميلٌ، والمشاهدُ ساحرةٌ.
ولكنَّ العالمَ منْ حولي غريبٌ! تختلطُ فيهِ أصواتُ السكارى مَعَ آهاتِ الحيارى، لا تسألْني: ماذا فعلتُ هناكَ؟ لقدْ فعلتُ كلَّ شيءٍ إلا الصلاةَ والقرآنَ، فلمْ يكنْ في البرنامجِ المعدِّ وقتٌ لهما!.
لقد مرَّ الوقتُ سريعاً ولمْ يبقَ على انتهاءِ الرحلةِ إلا يومٌ واحدٌ، وكانَ منْ فقراتِ حفلِ التوديعِ اختيارُ الشابِّ المثالِيِّ في الرحلةِ، ووقعَ الاختيارُ عليَّ، وكانَ الوسامُ صليباً ذهبيّاً، ولا غرابةَ! فعددٌ منَ المشتركينَ معنا في هذهِ الرحلةِ نصارى. فكّرت وقدّرتُ: لماذا اختاروني وَحْدي وهناكَ الكثيرُ ممّنْ هو على دينِهمْ؟ ألأنِّي مسلمٌ اختاروني؟.
توالتِ الأسئلةُ في ذهني وترددتْ حيرتي، وزادَ عَجَبي، وهنا -في هذا الموقفِ- تذكرتُ أبي وصَلاتَه، وأمّي وتسبيحَها، وخطيبَ الجمعةِ وتحذيرَه منَ السفرِ للخارجِ؛ بلْ قفزَ إلى ذِهْني رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- وكأنَّهُ يزجرُني ينهى عنْ مّا وصلتُ إليهِ.
ولكنْ قطعَ هذا التفكيرَ كلَّه صوتُ المقدِّم للبرنامجِ يطلبُ مني التقدمَ إلى المنصَّةِ لاستلامِ الصليبِ وهُوَ يُمسِكُ بهِ، وفي هذهِ اللحظاتِ تخيَّلتُ الصليبَ يلمعُ كالحقدِ، ويسطعُ كالمَكْرِ، اقتربَ القائدُ وأمسكَ بعنقي ليُقلِّدَني الوسامَ وليلبسَني الصليبَ!.
هنا، وفي هذا الموقفِ الرهيبِ ولدتُ، وكأنني أسمعُ صارخاً يقولُ: قفْ! إنكَ مسلمٌ! وتذكرْ أنكَ مغزوٌّ، وعُدْ إلى ربِّكَ ما دامَ في الحياة مهلةٌ، فقدْ لا تعودُ منْ سفرِكَ، وماذا سيكونُ مصيرُكَ لوْ نزلَ بكَ رَيْبُ المَنُونِ وتلكَ حالُكَ، وتعالى شعورُ الإيمانِ وجذوةُ اليقينِ، وتخيّلتُ مشاهدَ الآخرةِ والبعثِ والحسابِ وكأنَّها طيفٌ يمرُّ بي.
وهنا تشجَّعتُ وأمسكتُ بالصليبِ الذهبيِّ وقذفتُهُ في وجهِ القائدِ، بلْ ودستُه تحتَ قدميَّ، وأخذتُ أَجْري وأَجري وهم يظنُّونَ بي شيئاً من الجنونِ، وما بي جنونٌ، حتى صعدتُ إلى ربوةٍ مرتفعةٍ، وحينَ وصلتُ إلى قمّتِها صرختُ في آذانِهمْ، بلْ وفي أُذنِ الكونِ كلِّهِ، وأشهدتُ الأرضَ والسماءَ على مولدي الجديدِ وأنا أقولُ: أللهُ أكبرُ! اللهُ أكبرُ! أشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وأشهدُ أنّ محمداً رسولُ اللهِ!.
حينَها علمَ القومُ السرَّ، وخيَّمَ على وجوهِهمُ السكونُ، فمنهمْ مستغربٌ، ومنهمُ المستهزئُ، ولكنني على ثقةٍ أن هذهِ الصرخةَ ستحضرُ في قلوبِهمْ ولوْ بعدَ حينٍ، وهيَ -بكلِّ حالٍ- ستكونُ -بإذنِ اللهِ- مولداً لآخرينَ يَسمعونَ قصَّتي، ويأخذونَ العبرةَ منْ موقفي.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي