لقد كان المصطفى -صلى الله عليه وسلم- يَخصُّ هذه العشرَ، ويجتهدُ فيها أكثرَ من غيرِها، وفي صحيحِ مسلم من حديثِ عائشة -رضي الله عنها- أن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- "كان يجتهدُ في العشرِ الأواخرِ ما لا يجتهدُ في غيرها"، وكان -عليه الصلاة والسلام- يوقظُ أهلَه، ويحيي ليلَه، ويَشُدُّ مِئزَره. ولكم في رسولِ الله أسوةٌ حسنةٌ ..
إن الحمدَ لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده اللهُ فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبدُه ورسوله، اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين، والتابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً.
أيُّها المسلمونَ: ما أسرعَ الأيامَ تمضى! فقد كُنّا بالأمسِ نُهنئُ أنفسنَا بدخولِ شهرِ الصيام، واليومَ يحقُّ لنا أن نهنئَ بعضاً بقربِ حلولِ العشرِ الأواخرِ من رمضان، ولئن تحدثنا -فيما مضى- عن معنى التهنئة ولوازِمِهَا؛ فحريٌّ بنا اليوم أن نستذكرَ قيمةَ البُشرى بإدراكِ العشرِ الأواخرِ من رمضانَ.
أجل، لقد صامَ معنا نفرٌ من إخوانِنا المسلمينَ أولَ الشهرِ، وهم اليومَ يرقدون تحت الثَّرى مرتهنونَ بأعمالِهم، وفي غيبِ الله، كذلك ستخِرمُ المنايا أقواماً سيشهدون العشرَ ولن يستكملوها؛ فهل يا تُرى تُحرّكُ هذه النوازلُ والفواجعُ هِمَمَنا، وتغذو سيرَنا للآخرة؟ لا سيما ونحن في موسمٍ عظيمٍ من مواسِمِها، والمغبونُ حقًا من فرّطَ فيها، وموتى الأحياء، أعظمُ مصاباً من أصحابِ القبور، أولئك الذين تدخلُ المواسمُ وتخرجُ وهم في غفلةٍ معرضون.
عبادَ الله: بُشراكم بالعشرِ الأواخرِ من رمضان، وهنيئاً لمن عقدَ العزمَ على إحياءِ لياليها بالقيامِ والذكرِ والدعاءِ والتلاوةِ والاستغفار.
لقد كان المصطفى -صلى الله عليه وسلم- يَخصُّ هذه العشرَ، ويجتهدُ فيها أكثرَ من غيرِها، وفي صحيحِ مسلم من حديثِ عائشة -رضي الله عنها- أن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- "كان يجتهدُ في العشرِ الأواخرِ ما لا يجتهدُ في غيرها" وكان -عليه الصلاة والسلام- يوقظُ أهلَه، ويحيي ليلَه، ويَشُدُّ مِئزَره. ولكم في رسولِ الله أسوةٌ حسنةٌ.
عبادَ الله: وإذا كانت أعمارُ أمتِنا محدودةً مقارنةً بالأممِ الأخرى، فقد جعلَ اللهُ لنا في مثلِ هذه الأزمانِ الفاضلةِ ما يعوِّضُ به عن قصرِ أعمارِنا، ومن وفَّقه اللهُ لقيام ليلةِ القدرِ كان كمن عملَ ما يزيدُ على ثلاثٍ وثمانينَ عاماً، إلا وإن المفرطينَ في هذه الليلة لم يستفيدوا من هذه الفُرصةِ الممنوحةِ لأمةِ محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-! ألا ويحَ الكسالى! ولا نامت أعينُ المفرِّطين!.
إخوةَ الإيمان: وطالما فرّطنا من قيام الليل، وهو دأبُ الصالحينَ قبلَنا، وفيما أوحي إلى نبيِّنا -صلى الله عليه وسلم-: (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً) [الإسراء:79].
وجاء في أوصافِ المتقين: (كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) [الذاريات:17-18]، وفي وصفِ الذين يؤمنون بآياتِ الله: (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) [السجدة:16].
عبادَ الله: أين المشمِّرونَ هذه الليالي يدعونَ ربَّهم خوفاً وطمعاً، والفرقُ كبيرٌ بين من تتجافى جنوبُهُم عن المضاجعِ وبين منَ يحيونَ الليلَ في سهرٍ صاخب، أو في سُباتِ نومٍ عميقَ، لا تحرّقُ هِمّتَهم المواسمُ، ولا يسمعون لداعي الخير.
وكم هو عظيمٌ أن تألفَ النفسُ قيامَ الليلِ في هذه العشرِ الفاضلةِ، فيكونَ ذلك دَيْدَناً للنفسِ في سائرِ العام.
وكم هو شرفٌ للنفسِ وعِزٌّ لها قيامُ الليل، وفي الحديثِ الحسَن: "جاء جبريلُ إلى رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا محمدُ، عِشْ ما شئتَ فإنك ميِّتٌ، واعملْ ما شئتَ فإنكَ مجزيٌّ بهِ، وأحبِبْ من شئتَ فإنكَ مفارقُه، واعلم أن شرفَ المؤمنِ قيامُ الليلِ، وعزّهُ استغناؤه عن الناس" صححه الألباني.
إنها وصايا جامعةٌ نزلَ بها الروحُ الأمينُ على قلبِ محمدٍ خاتمِ المرسَلين وهي للأمةِ عامّةً شموعٌ مضيئةٌ، فأين يا تُرى من يبحثونَ عن شرفِ النفسِ وعِزِّها؟ أين رُهبانُ الليلِ وسهامُهم لا تكاد تخطئ؟.
وعن بعضِ السلف: قيامُ الليل يُهوِّن طولَ القيامِ يومَ القيامةِ، ولله درُّ أقوامٍ تعالتْ هِمَمُهم، حتى كادت السَّنةُ كلُّها أن تكونَ كالعشرِ الأواخرِ عند غيرهم، تسامتْ نفوسُهم على حُطامِ الدنيا، وحطّوا رحالَهم في الآخرةِ -وهم بعدُ في الدنيا- وحادِثهم يقول، واصفاً لحالهم ومستصرخاً لغيرهم:
إذا ما الليلُ أظلـمَ كـابَدُوه *** فيُسفِـرُ عنهمُ وهُـم رُكوعُ
أطارَ الخوفُ نومَهم فقامـوا *** وأهلُ الأمنِ في الدُّنيا هجوعُ
لهم تحتَ الظلامِ وهُمْ سجودٌ *** أنيـنٌ منه تنفرجُ الضلـوعُ
أيها الصائمون: إن من عجبٍ أن يبادرَ المحسنونَ ويتراخى المفرِّطون! أَوَليس أهلُ التفريط -من أمثالنا- أولى بقيامِ الليلِ لسؤالِ المغفرةِ والتفكيرِ عن السيئة على إثرِ السيئةِ؟! فما بالُنا تأخرّنا وتقدمَ غيرُنا؟! وهؤلاء المتقدمونَ أهلُ علمٍ وصلاحٍ وجهادٍ ودعوةٍ وطاعاتٍ يثقلُ بها الميزانُ، ومع ذلك لازموا قيامَ الليل ليضيقوا الحسناتِ إلى الحسناتِ، ولتكتملَ الهممُ في جنحِ الظلامِ حيت لا يَرى إلا الذي يراكَ حين تقوم، وتقلُّبك في الساجدين، ولا يسمعُ إلا الذي يعلمُ السرَّ وأخفى.
ودونكم نماذجَ مِن هِمَمِهم عسى أن توقظَ قلباً غافلاً، أو تهدي فؤاداً شارداً، ومنِ اهتدى فإنما يهتدي لنفسِه، ومن ضلّ فإنما يضلّ عليها.
في (صحيح البخاري) و(مسندِ الإمام أحمد) عن أبي عثمانَ النهديِّ رحمَه الله قال: تضيَّفتُ أبا هريرةَ -رضي الله عنه- سبعةَ أيام [أي: نزلتُ ضيفاً عليه]، فكان هو وزوجتُه وخادِمُه يقتسمونَ الليلَ أثلاثاً، الزوجةُ ثلثاً، وخادمُه ثلثاً، وأبو هريرة ثُلثاً.
وفي (تذكرة الحفّاظ) أن سليمانَ التيميَّ كان عندَه زوجتان، كانوا يقتسمونَ الليلَ أثلاثاً.
ومع اجتهادِ القومِ كانوا يتلذذونَ بهذه العبادةِ وينافسونَ بها أهلَ الدنيا، ويقول أحدُهم: واللهِ لولا قيامُ الليل ما أحببتُ الدنيا! واللهِ إن أهلَ الليلِ في ليلِهم ألذُّ من أهلِ اللَّهوِ في لهوهِم، وإنه لتمرُّ بالقلب ساعاتٌ يرقصُ فيها طرباً بذكرِ اللهِ، فأقول: إن كان أهلُ الجنةِ في مثلِ ما أنا فيه من النعيمِ إنهم لفي نعيمٍ عظيم!.
نعم -إخوةَ الإيمان- قد يستَغربُ هذا المنطقَ المفتونونَ بالدنيا، الغافلون عن الآخرة؛ ولكن الفرصةَ أمامَهم ليجرِّبوا وسيجدون ما وجدَه غيرُهم.
إنَّ في العشرِ الأواخرِ من رمضانَ فرصةً للتعويضِ والتعويدِ، فرصةً لتعويضِ ما فاتَ، وتعويد النفسِ في مستقبلِ الأيامِ، وكيف يفرِّطُ عاقلٌ في عشرِ لياليَ يدركُ بها المحتسبون المؤمنون ليلةَ القدر، وليلةُ القدرِ خيرٌ من ألفِ شهر؟!.
يا عبدَ الله: مهما كان تفريطُك على نفسِك فيما مضى، فإياك أن تُتْبِع الغفلةَ بغفلةٍ أخرى! بل قُم مع القائمين، واركعْ مع الراكعين؛ عسى أن تدركَكَ نفحةٌ من نفحاتِ المولى فتسعدَ ولا تشقى، والرجلُ مع من أحبَّ.
كم لك من حاجةٍ تتمنى قضاءها؟ وكم عندَك من همومِ تودُّ لو فُرِجتْ عنك أثقالُها؟ كم عندك من خطايا ترغبُ الخلاصَ منها؟ وكم أمامَك من عقباتٍ وأنتَ أحوجُ إلى تذليلِها والتقوِّي على صعودها؟ ألا فبادرْ إلى فرصِ الخير، وخذ بنفسك بالعزيمةِ.
وإياك أن تَعَضَّ أصابعَ الندمِ بعد رحيلِها حُزناً على التفريطِ فيها! إني لك ناصحٌ، وعليك مشفقٌ، وما أنا وأنتَ إلا خلقٌ من خلقِ اللهِ، أحوجٌ ما نكونُ إلى رحمتِه، وأفقرُ ما نكونُ إليهِ، ولا يُعجِزه أن يستبدلَنا بخير منا (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ) [فاطر:15-18].
.
اليومُ يومُ المهلةِ، وغداً حسابُ يوم القيامةِ، ومن عَلِمَ فليعمل، وفرقٌ بين الذين يعلمون والذين لا يعلمونَ، وصدق الله: (أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ) [الزمر:9].
اللهم انفعنا بهدي القرآنِ، وسنةِ محمدٍ -عليه الصلاة والسلام-، أقولُ ما تسمعون.
الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، فاوتَ بين عبادِه في الهِمَمِ، فمنهم ظالمٌ لنفسِه، ومنهم مقتصدٌ، ومنهم سابقٌ للخيرات بإذن الله ذلك هو الفوزُ العظيم.
وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريكَ له، يجازي على الحسناتِ والسيئاتِ، ويُضاعفُ أجرَ الحسناتِ إلى عشرِ أمثالِها أو أزيدَ، وفضلُ الله يؤتيهِ من يشاءُ، والله ذو الفضلِ العظيم.
وأشهدُ أن محمداً عبدُه ورسولُه، كان أجودَ ما يكونُ في رمضانَ، وفي العشرِ الأواخرِ له اجتهادٌ يفوقُ كلَّ اجتهاد.
اللهم صلِّ وسلَّم عليه وعلى سائرِ الأنبياءِ والمرسلينَ.
أيها المسلمونَ: العملُ الصالحُ هو الرصيدُ الحقُّ لمن يرجو يومَ الحسابِ، وإذا كانتِ المسارعةُ للخيراتِ مطلوبةً على الدوامِ، فهي أحرى وأولى بالأزمانِ الفاضلةِ، والحاجةُ إليها أشدُّ في أزمانِ الفتنِ، ولذا ندبَ الرسولُ -صلى الله عليه وسلم- إليها بقوله: "بادروا بالأعمالِ فِتناً كقطعِ الليلِ المظلم، يصبحُ الرجلُ مؤمناً ويُمسي كافراً" رواه مسلم.
يا عبدَ الله: أجلُك محدودٌ، ولا تدري متى تكون النُّقلةُ فارحل حين ترحلُ بخيرِ زاد، ألا وإن ضعفَ الإيمان والتكاسلَ عن عملِ الصالحاتِ سببٌ لضعفِ المقاومةِ عن المصائبِ والفتن، قال -صلى الله عليه وسلم-: "ليأتينَّ على الناس زمانٌ لا يبالي المرءُ بما أخذَ المالَ، أمن الحلالِ أم من الحرامِ" رواه البخاري.
وقل مثلَ هذا التجاوزِ فيما عدا المال من المحرماتِ الأخرى -إذا صحَّ عن النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- قوُله: "لا يأتي زمانٌ إلا والذي بعدَه شرٌّ منه حتى تَلقوا ربَّكُم" رواه البخاري، وقد صح عند ابنِ ماجه عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "لم يبق من الدنيا إلا بلاءٌ وفتنة".
أيها المسلمون: وبإزراءِ هذه النصوصِ وأمثالِها من الكتاب والسُّنةِ يجدرُ بالمسلمِ الناصحِ لنفسِه أن يزكّي نفسَه بالصالحاتِ، وأن يسارعَ جُهدَه لاغتنامِ الأيامِ واللَيالي الفاضلاتِ.
يا مسكينُ، أسرَجَ الناسُ خيولَهُم وأنت بعدُ متباطئٌ كسلان، يا مغرورُ! إلي متى الغرورُ بالدنيا، والله يقولُ: (إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ) [فاطر:5].
يا عبدَ الله: هبّت رياحُ الجنةِ فاغتنِمْها قبلَ فواتِ الأوانِ! يا مذنبُ، كادت روائحُ الذنوبِ أن تزكمَ الأنوفَ، فهلاً استبدلتها بحسناتٍ لتفوحَ منك روائحُ المسكِ تُعطِّرُ الوجودَ ومَن في الوجود؟! يا مسرفُ على نفسهِ بالذنوبِ، لا تقنَطْ من رحمةِ اللهِ، وأنِبْ إليه وأسلِمْ نَفْسَك طائعةً له!.
ويحكَ! أما سمعتَ اللهَ يقولُ لك: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ * أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ * بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ * وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ * وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) [الزمر:53-61].
أيها المسلمونَ: وثمةَ سُنةٌ نبويةٌ كادت أن تُهجرَ عند نفرٍ من المسلمين، وعلى الرغمِ من توفرِ إمكاناتِ الناسِ لها، وعدمِ وجودِ موانعَ تحولُ بينها؛ إنها سُنةُ الاعتكافِ في المساجد، وما فيها من انقطاعٍ عن الخلقِ واتصالٍ بالخالق، في هذه العشرِ الأواخرِ أو بعضِها.
أجل؛ لقد زهد بهذه السنةِ طائفةٌ من الأخيارِ الذين يحرصون على سننٍ أخرى، وغيرُهم في الزهدِ بها من بابِ أولى، ويرحمُ اللهُ الإمامَ الزهريَّ وهو القائل: عجباً للمسلمين! تركوا الاعتكافَ، مع أن النبيَّ صلى الله ما تركَه منذُ قدِمَ المدينةَ حتى قبضَه اللهُ!.
وإنك لتعجبُ حين تسمعُ عن اعتكافِ المئين في المسجدِ الواحدِ في مناطقَ في العالم الإسلامي، قد لا يجدُ المعتكفُ منهم ما يسدُّ حاجتَه، وترى في المقابلِ زُهداً بهذه السنة في أقطارٍ أخرى يملكُ الناسُ فيها القناطيرَ من الذهبِ والفضةِ، ومع ذلك فقد يجدُ صعوبةً في تفريغِ نفسهِ والانقطاع عن تجارتِه ولو لبضعةِ أيام.
إن أحدنا لا يجدُ صعوبةً في تركِ أهلِه أسبوعاً أو عشرةَ أيام أو نحوها في سبيل الذهاب إلى رحلةٍ برية، أو سفرٍ للنزهة خارجَ المملكةِ؛ لكنه قد يجد صعوبةً في تركِهم للاعتكافِ، وبعضُنا يمكنه أن يتعللَ بخشيةِ ضياعِ أولادهِ خلال اعتكافه، ولستُ أدري! أضاعت أبناءُ المسلمين الذين كانوا يرابطونَ في الثغورِ الشهورَ الطويلةَ؟ إنها حججٌ وتعلُّلاتٌ ضعيفة.
على أن العائقَ عند بعض الناسِ عن الاعتكاف قد لا يكونُ بالضرورةِ الحرصَ على الدنيا، ولكن عدَمُ توفرِ المسجدِ الذي يمكن أن يعتكفَ به، أو ما يجده من صعوبةِ في توفيرِ المطعمِ له، وَهنا يَسهلُ الأمرُ، إذ يمكن توفيرُ غرفةٍ أو أكثرَ، لا سيما في الجوامع، ويمكن كذلك أن يتولى محسنونَ أو هيئاتٌ خيرية توفيرَ المطعم للمعتكفين، وعلى أئمةِ المساجدِ أن يعنوا بهذه الأمورِ، ويُعلنوا تسهيلها للراغبين في الاعتكاف.
ومما يُذكر للمستودَع الخيري ببُريدةَ عنايتُه في العام الماضي بالمعتكفين في مساجدِ بُرَيدةَ وتقديمُه هديةً لكل معتكف، وعلمتُ هذا العام أن لديهم مبادرةً أخرى وذلك بتوفير مطبخينِ كبيرين، وسيُطبخُ فيها اثنا عشر كيساً من الأرز، ومائةُ ذبيحةٍ أو مائةُ كرتونٍ منَ الدجاجِ، وذلك لخدمةِ المعتكفينَ في أيٍّ من مساجدِ بريدة، وعندهم استعداد للزيادة إذا اقتضى الحالُ، ويمكنهم كذلك إيصالُ الطعامِ إلى المساجدِ الراغبةِ في ذلك، هذا فضلاً عن استعدادِهم لتأمين الفرشِ اللازمة للمعتكفينَ في المساجدِ المحتاجةِ لذلك.
إنها بوادر خير تنبت في أرض الخير، وحين يُشكر المعنيون بها، فعلينا أن نستمثرهَا، وكم يُثلجُ صدورَنا حين نسمعُ عن أعدادٍ من الشباب تأوي إلى المعتكفِ، لتعكُفَ على تلاوةِ وحفظ أو مراجعة المحفوظِ من كتابِ اللهِ، وذلك مؤشرٌ على أن الأمةَ بخير ما دامَ ذلك حالُ بعضِ شبابها ورجالِ مستقبلها، وعسى أن يلتحقَ بركبِهم شبابٌ آخرون غارقونَ في لهوهِم قد لا يذهبونَ إلى المساجدِ أصلاً إلا في رمضانَ، وقلوبُ العبادِ بين إصبعين من أصابعِ الرحمن يقلِّبُها كيفَ يشاء.
وهنا -وحولَ الاعتكاف- اقتراحٌ للجهاتِ الرسميةِ المشرفةِ على المساجدِ أو الجمعياتِ الخيرية -أو بالتعاونِ بينهم- ويقضي الاقتراحُ بدراسةِ الاعتكاف على أرض الواقعِ، وتُعنى الدراسةُ -إضافةً إلى فصلِ الاعتكافِ وأحكامِه بشكلٍ مختصر- ببيانِ أعدادِ المعتكفين ونوعيَّتهم وسِنِّهم وعملهم، ودواعي الإقبال على الاعتكاف وآثارِه على المعتكِف، وكيف تُعالجُ معوِّقاتُه، إلى ذلك من أمورٍ قد ينفعُ اللهُ برصدِها للحاضرِ والمستقبل.
معاشرَ المسلمين: نحن أمةُ الخير، واللهُ نَدَبَنا جميعاً إلى التعاون على البرِّ والتقوى وعدم التعاون على الإثم والعدوان، فقال تعالى: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) [المائدة:2].
فلنسْعَ لتحقيق هذا التعاون الخيِّر في كلِّ زمان، ولنحرصْ على تحقيقه في مثل هذه الأيام، عسىَ ربُّنا أن يرحمَنا ويجعلَ العاقبةَ لنا والسعادةَ والفلاحَ في الدنيا والآخرةِ.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي