إنَّ مشاهدَ القبورِ دروسٌ صامتة، وكم في القبورِ من وَحْشةٍ وأُنْس، ونعيمٍ أو عذاب، وإن عَفَى عليها الزمنُ، وتحوَّلتِ العظامُ إلى رميمٍ، واللحمُ الطريُّ إلى مخازنَ للدُّود! أجل! إن الجنازةَ المحمولةَ موعِظةٌ للحامِلين، وذِكْرى للغافلين، وغداً أو عن قريبٍ سيكونُ الحاملون للجنازةِ محمولِين. ولكن السؤالَ المهمَّ: ماذا حَمَلَتِ الجنازةُ إلى مَثْواها الأخيرِ؟.
إن الحمدَ للهِ نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه، ونعوذُ باللهِ من شرورِ أنفسنا ومن سيئاتِ أعمالنا، من يهدِه اللهُ فلا مضلَّ له، ومن يُضلِلْ فلا هاديَ له، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، وأشهدُ أن محمداً عبدُه ورسولُه، اللهمَّ صلِّ وسلِّمْ عليه وعلى سائرِ الأنبياءِ والمرسلين، وارضَ اللهمَّ عن الصحابةِ أجمعين، والتابعين وتابعيهم بإحسانٍ إلى يومِ الدين، وسلِّمْ تسليماً كثيراً.
إخوةَ الإيمان: حَكَم اللهُ بالفناءِ على هذه الدنيا بما فيها من الحياةِ والأحياءِ، وكتبَ له البقاءَ وحدَه، فقال: (كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) [البقرة:88]، (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ) [الرحمان:26-27].
والعِبرةُ بما بعدَ الموتِ، ومن وصايا أبي عُبيدةَ عامرِ بن الجرَّاح -رضي الله عنه- حين حضرتْه الوفاةُ بالشام على إثرِ إصابتِه بالطاعون في أرضٍ يُقال لها (عَمَواس) حين جمعَ المسلمين مودِّعاً لهم فقال: إنِّي مُوصِيكم بوصيةٍ فاقبَلُوها، فإنكم لن تزالوا بخيرٍ ما بقيتُم متمسِّكين بها وبعد موتِكم: أقِيموا الصلاةَ وآتُوا الزكاةَ، وصوموا وتصدَّقوا، وحُجُّوا، وتواضَعُوا، وتباذَلُوا، وتواصَوْا، وانصَحُوا أمراءَكم، ولا تغرَّنَّكم الدنيا، فإن أحدَكم لو عُمِّر ألفَ سنةٍ ما كان به بدٌّ من أن يصيرَ إلى مثلِ مَصِيري هذا الذي تَروْنَ، لأنَّ الله قد كتبَ الموتَ على بني آدم فهمُ مُتَوفَّوْنَ، وأكْيسُهم أطوَعُهم لربِّه، وأعملُهم ليومِ معادِه. اهـ
ثم استخلفَ من بعدِه معاذَ بنَ جبلٍ -رضي الله عنه- ليُصلِّيَ بالمسلمين، وشاء الله بعد فترةٍ وجيزةٍ من الزمن أن يلحقَ معاذٌ بأخيه أبي عُبَيدة وأن يصيبَه ما أصاب صاحبَه، وعلى فراشِ الموتِ، والناسُ يَغْدُون على معاذٍ يزورونَه ويدْعُونَ له بالعافيةِ والسلامة، كان يَعِظُهم ويذكِّرهم.
ومما قاله لهم: أيها الناسُ، اعملوا وأنتم تستطيعون العملَ من قبلِ أن تتمنَّوا العملَ فلا تجدونَ إلى ذلك سبيلاً، أيها الناس: أَنفِقُوا مما عندَكم ليومِ مَعادِكم من قبلِ أن تَهلِكوا وتَذرُوا ذلك كلَّه ميراثاً.
ثم أوصاهم بالعلمِ تَعلُّماً وتعليماً وأبان لهم عن شيءٍ من فضلِ العلم، وفضائلِ العلماءِ حين قال: عليكم بطلبِ العلمِ فاطلُبوه وتعلَّموه فإنَّ طلبَه عبادةٌ، وتعلُّمَه لله خَشْيةٌ، ومذاكرتَه تسبيحٌ، والبحث عنه جهادٌ، وتعليمَه لمن لا يعلمُه صَدَقةٌ، وبذْلَه لأهلِه قُربةٌ.
إلى قوله: يرفع اللهُ -عز وجل- بالعلم أقواماً فيجعلُهم في الخيرِ قادةً يُقتَدى بهم، وأئمةً في الخير يُقتَصُّ آثارُهم، ويُهتدَى بهدايتِهم وأفعالِهم، ويُنتَهى إلى رأيهم، ترغبُ الملائكةُ في خُلَّتِهم، وبأجنحتِها تمسحُهم، يستغفرُ لهم كلُّ رطبٍ ويابسٍ، وحيتانُ البحرِ وهوامُّه، وسباعُ البرِّ وأنعامُه، لأن العلمَ حياةُ القلوبِ من العَمَى ونورُ الأبصار من الظُّلمة، وقوةُ الأبدانِ من الضعف، يبلغُ العبدُ بالعِلم منازلَ الأبرار، ومنازلَ الملوك، والدَّرجاتِ العُلى في الدنيا والآخرة...ألاَ وإن المتقينَ سادةٌ، والفقهاءَ قادةٌ. اهـ
أيها المسلمون: كم تَنزِلُ بنا نوازلُ الموتِ من قريبٍ أو بعيدٍ، أو عالِمٍ أو عاميٍّ، ومن ذكرٍ أو أنثى، صغيرٍ أو كبيرٍ! فهل تُحرِّكُ قلوبَنا للطاعةِ والتوبة؟ وهل نتذكَّرُ بها مقامَ الصِّدِّيقين والشهداءِ، ومنازلَ الفجارِ ومصيرَ الأشقياء؟ هل نعتبرُ بمن مات فيكونَ الدرسُ بليغاً، والعبرةُ مُوقِظةً؟ وهل نتذكرُ أن الجنائزَ المحمولةَ يوماً كانت حاملةً؟.
إنَّ مشاهدَ القبورِ دروسٌ صامتة، وكم في القبورِ من وَحْشةٍ وأُنْس، ونعيمٍ أو عذاب، وإن عَفَى عليها الزمنُ، وتحوَّلتِ العظامُ إلى رميمٍ، واللحمُ الطريُّ إلى مخازنَ للدُّود!أجل! إن الجنازةَ المحمولةَ موعِظةٌ للحامِلين، وذِكْرى للغافلين، وغداً أو عن قريبٍ سيكونُ الحاملون للجنازةِ محمولِين. ولكن السؤالَ المهمَّ: ماذا حَمَلَتِ الجنازةُ إلى مَثْواها الأخيرِ؟.
إنها لا تحملُ من الدنيا شيئاً ولو كان صاحبُها يملكُ القناطيرَ المقنطرةَ من الذهب والفضةِ والنقودِ والعَقَار والأنعامِ والحَرْثِ، ولا تحملُ من البأسِ شيئاً ولو كان صاحبُها –من قبلُ- من أشجعِ الناسِ وأحكمِ الناس وأصبرِ الناسِ وأكثرِهم دهاءً وحِيلةً، وما أضعفَ موقفَ صاحبِ الجنازةِ حين السؤالِ وليس له من مُجِيرٍ، ولو كان في الدنيا يُحاطُ بالبنينِ والحَشَم والخدم، ولو كان صاحبَ جاهٍ وسلطانٍ وصولجانٍ وخِلاَّن! (فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرّاً وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ) [سبأ:42]، (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ) [المدثر:38].
وما أعظمَ الهولَ حين يُنفَخُ في الصورِ! وربُّنا -تبارك وتعالى- يقول: (فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ * فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ) [المؤمنون:101-104].
عبادَ الله: إن مشاهدَ الموتى وأخبارَ الجنائزِ موقِظةٌ للقلوبِ الحيَّة، فكيف إذا كانت الجنازةُ مشهودةً، والميِّتُ عالِماً من علماءِ السُّنّة، ومن أهلِ الجهادِ بالكلمة؟.
إن موتَ عالِمٍ ثُلْمةٌ في الدِّين، والخَطْبُ أعظمُ حين تكون الأُمةُ المسلمةُ محاطةً بالخُطوب، مهدَّدةً من قِبَلِ الأعداء.
إن الأمةَ في ظروفِ محنتِها وفي أحوالِ شدائدِها أحوجُ ما تكون إلى علماءَ صادقين يقوُّون من عزائِمها، ويدافعون عن حِياضِ عقيدتِها، يُنبِّهون إلى مكرِ الأعداء، ويكشِفون للأُمة خُططَ الأدعياء؛
إن حاجةَ الأمةِ ماسَّةٌ إلى كلمةِ حقٍّ يُدافَعُ بها عن غَشومٍ، ويُنتصَرُ بها لمظلوم.
أما حين تجتمعُ المِلَلُ الكافرةُ على الإسلامِ وأهله، فتلك النازلةُ تحتاج إلى رصِّ الصفوف، وتوحيدِ السِّهام، وجمعِ الكلمةِ واستثمارِ كلِّ طاقةٍ في الأُمة.
كم هو مؤلمٌ حين تُصبِحُ البلادُ الإسلاميةُ مَرتَعاً لخُططِ العَلْمنة والتغريب، وهدفاً للعولمةِ وطمسِ الهويةِ المسلمةِ، هنا يلتفتُ الناسُ بحثاً عن منقِذِين للسفينةِ قبلَ الغرق، وحفاظاً على الأرواحِ قبل أن تُزهَقَ، وعلى القيمِ والمبادئِ الإسلاميةِ قبل أن تُلوَّث أو تُجثَثَّ.
وما أَحْرى العلماءَ والدعاةَ وطلبةَ العلمِ بالقيام بهذا الدَّورِ! فهم مصابيحُ الهدى، وعليهم أُخِذَ الميثاقُ بالبيانِ وعدمِ الكِتْمان؛ ولكن ذلك لا يُعفِي غيرَهم من المسؤوليةِ والبيانِ، "فمَن رأَى منكم مُنكَراً فليغيِّرْه بيدِه، فإن لم يستطعْ فبلسانِه، فإن لم يستطعْ فبقلبِه وذلك أضعفُ الإيمان".
إن الناظرَ في واقعِنا اليومَ لَيُدرِكُ أن الأمةَ مستهدَفةٌ في عقيدتِها وقيمِها، بل وفي أصلِ وجودِها، والنائمون إذا لم يستيقِظوا على هذه الضَّرباتِ الموجِعةِ هنا وهناك فمتى يستيقظون؟ لا سيَّما وأعداءُ المِلَّةِ قد أعلَنُوها وقد رسموا فصولَها وحدَّدوا مراحلَ وأولوياتٍ لضرب العالمِ الإسلاميِّ والدعواتِ الإسلامية؟.
وإذا كانت الحركاتُ الجهاديةُ هدفَهم الأولَ، فستكون الحركاتُ والمنظَّماتُ والهيئاتُ الإسلامية هدفَهم الآخِر، ويمكرون ويمكرُ اللهُ واللهُ خيرُ الماكرين، وصدق اللهُ: (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) [التوبة:32-33].
الخطبةُ الثانية:
الحمدُ لله العليِّ الأعلى، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له، له الأسماءُ الحُسْنى والصِّفاتُ العُلَى، وأشهدُ أن محمداً عبدُه ورسولُه طاب حياً وميتاً، اللهم صلِّ وسلِّمْ عليه وعلى سائرِ الأنبياءِ والمرسلين.
إخوةَ الإسلام: ما رُزئَ المسلمون بفَقْدِ أحدٍ كما رُزِئوا بفقدِ محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، ومِن فِقْه أبي بكرٍ وحصافةِ رأيِه أنه جاء إلى المسلمين والمصابُ فيهم بلغَ مبلغَه فتقدَّمهم خطيباً وقال: أيها المسلمون، من كان يعبدُ محمداً فإن محمداً قد ماتَ، ومن كان يعبدُ اللهَ فإن الله حيٌّ لا يموتُ، ثم تلا قولَه تعالى: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ) [آل عمران:144].
وأبو بكرٍ أقربُ الناسِ إلى محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، وأكثرُهم خُلَّةً له وأعظمُهم إيماناً به وبما جاء به؛ لكنه الفِقهُ والثباتُ ومواصلةُ الطريقِ الذي ابتدأَه، وفعلاً قام أبو بكرٍ بالمهمَّةِ والدعوةِ إلى الإسلام، وحَفَلَتْ خلافتُه القصيرةُ الأمدِ بجلائلِ الأعمالِ، ومن أعظمِها حربُ المرتدِّين وتثبيتُ الدِّين في قلوب المرتابين بعد موتِ محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، وجمعُ القرآن، وابتدأَ حركةَ الفتحِ الإسلاميِّ في الشامِّ والعراق.
والأمةُ على مرِّ العصور كانت تفقِدُ خِيرةَ رجالاتِها، فلا تهِنُ عزائمُهم ولا يتوقَّفُ مدُّهم؛ بل هي أُمةُ أبدالٍ، أمةٌ وَلُودٌ، كلَّما مات سيدٌ منها قامَ آخرُ وهكذا.
وإذا كان من حقِّ الأمواتِ على الأحياءِ المسلمين أن يذكروهم بالخيرِ وأن يترحَّموا عليهم، فلا ينبغي لأحدٍ أن يظنَّ أن الدِّينَ سيَضعُفُ بموت فلانٍ، أو أن الدعوةِ ستتوقَّفُ لرحيلِ فلان؛ ذلكم لأنَّ في المسلمين خيراً والحمدُ لله.
وقد يَنشَطُ جمعٌ من الناسِ لموتِ واحد، بل حصلَ أكثرُ من هذا في تاريخِ وَفَياتِ الأعيانِ من المسلمين حين أسلمَ جمعٌ من اليهودِ والنصارى على إثرِ هذه الوفياتِ، فضلاً عن توبةِ مَن تابَ من المسلمين، وانبعاثِ نفرٍ من المسلمين للعِلْم والدعوة.
وفي المقابلِ لا ينبغي للأحياءِ أن يتجنَّوْا على الأمواتِ بعدَ مماتِهم فينسُبوا إليهم ما ليس فيهم، أو يُحمِّلوهم ما لم يتحمَّلوا، وإذا كانت غِيبةُ المسلم لا تجوزُ بنصِّ القرآن والسُّنّة، فالبُهْتان أعظمُ جُرْماً وأغلظُ تحريماً.
ومَن دافعَ عن عِرضِ أخيه المسلم كان أجرُه على الله، وفي الحديث: "مَن ذبَّ عن عِرضِ أخيه بالغِيبة كان حقاً على اللهِ أن يُعتِقَه من النار" رواه أحمدُ وغيره.
إنَّ العصمةَ قد انقطعتْ بعدَ الأنبياء، وكلُّ أحدٍ بعدَهم يُؤخَذُ من كلامِه ويُردُّ، وما فتِئَ العلماءُ قديماً وحديثاً يردُّ بعضُهم على بعضٍ لكن بهدفِ بيان الحقِّ، ومع الأدبِ والتقدير، وإنَّ المحذورَ تقصُّدُ الردِّ للتشفِّي والتجاوزُ في التُّهَم، وتناسي ما للمردودِ عليه من فضائلَ، فذلك الذي يُثيرُ الأحقادَ ويبعثُ على الضغائن ويُشِيعُ التُّهَمَ بالباطل، واللهُ تعالى حرَّمَ الظلمَ على نفسِه وجعلَه بينَ عبادِه محرَّماً. وقد أَمر سبحانه بالعدلِ مع الأعداء.
عبادَ اللهِ: ثمةَ تنبيهاتٌ وملاحظاتٌ على حضورِ الجنائزِ وتشييعِها، ومنها:
أولاً: أن يكونَ الدافعُ لشهودِ الجنازةِ احتسابَ الأجرِ عندَ الله، والناسُ يختلفون في الباعثِ على اتِّباعِ الجنائز؛ لكنّ الأجرَ المذكورَ فيها خاصٌّ بمن اتَّبَعَها إيماناً بوعدِ الله واحتساباً للأجرِ، وفي (صحيحِ البخاريِّ) عن أبي هريرةَ -رضي الله عنه- أن رسولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَن اتبع جَنَازةَ مسلمٍ إيماناً واحتساباً وكان معه حتى يُصلَّى عليه ويُفرَغَ من دفنِها، فإنه يرجعُ من الأجرِ بقِيراطَينِ كلُّ قيراطٍ مثلَ أُحدٍ، ومَن صلَّى عليها ثم رجعَ قبل أن تُدفنَ، فإنه يراجعُ بقيراطٍ" رواه البخاري. فهل تَستحضرُ هذه النيةَ –أخي المسلمَ- حين تشهدُ جنازةَ مسلمٍ، ليحصلَ لك هذا الأجرُ العظيم؟
ثانياً: التزاحمُ على النَّعشِ وكثرةُ الحاملينَ للجنازةِ، عن قَتَادةَ قال: شهدتُ جنازةً فازدَحَمُوا على الجنازةِ، وقال أبو السَّوَّار العَدَوي: نرى هؤلاءِ أفضلَ أو أصحابَ محمدٍ -صلى الله عليه وسلم- كان أحدُهم إذا رأى مَحمَلاً حَمَل، وإلا اعتزلَ ولم يُؤْذِ أحداً. رواه ابن أبي شيبة وإسناده صحيح.
وقال مباركُ بنُ فَضَالة: حضر الحسنُ البصريُّ جنازةَ بكرِ بنِ عبدِ اللهِ -أحدِ الأئمةِ الثِّقاتِ من سادةِ التابعين- وكان على حمارٍ، فرأى الناسَ يزدحمون، فقال الحسنُ: ما يُوزَرون أكثرُ مما يُؤجَرون، كانوا -لعلَّه يقصدُ الصحابةَ- ينظرونَ فإنْ قَدَرُوا على حَمْلِ الجنازةِ أعقَبُوا إخوانَهم.
وقد عدَّ ابنُ حَزْمٍ -رحمَه اللهُ- التزاحمَ على الجنازةِ من البِدَع، وفي (حاشيةِ الروض المُربِع) لابن قاسم قال: ولو كان ازدحامُ الحاملين مسنوناً لتوفَّرتِ الهِممُ والدواعي على نقلِه، نقلاً لا يَقبَلُ الاختلافَ، ولكان السلفُ الأوّل أَوْلى بالمسارعةِ إليه، فعُلِم أنه لم يكن الأمرُ كذلك وأن الازدحامَ الموجبَ للدَّبيبِ بها بدعةٌ، لمخالفةِ الإسراع المأمورِ به.
ثالثاً: اللغطُ وارتفاعُ الأصواتِ في المقابرِ ليس من هَدْيِ محمدٍ -صلى الله عليه وسلم- ولا هديِ أصحابِه، بل كان شأنُهم السكونَ والخشوعَ، وفي حديثِ البراءِ ابنِ عازبٍ -رضي الله عنه- قال: خرجْنا مع النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- في جَنازةِ رجلٍ من الأنصار، فانتهَيْنا إلى القبرِ ولم يُلحَدْ، فجلسَ رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- وجلسْنا حولَه، وكأنَّ على رؤوسِنا الطيرَ. رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه والحاكمُ وصححه ووافقه الذهبي.
وقولُه: (وكأنَّ على رؤوسِهم الطيرَ) وَصَفَهم بالسكونِ والوَقارِ، لأن الطيرَ لا تكاد تقعُ إلا على شيءٍ ساكن، وكان عثمانُ -رضي الله عنه- إذا وقفَ على القبرِ يبكي حتى يبلَّ لحيتَه. رواه الترمذي وابنُ ماجه وحسَّنه الحافظ ابن حجر والألباني.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي