موسى عليه السلام والإحسان إلى الناس

محمد بن عبدالرحمن العريفي

عناصر الخطبة

  1. كثرة ورود قصة النبي موسى في القرآن الكريم
  2. النبي الكريم يضرب المثل بالنبي موسى في مواطن كثيرة
  3. إحسان النبي موسى على سائر المسلمين
  4. مواقف قرآنية تبين إحسان النبي موسى للخلق
  5. الإحسان مبدأ من مبادئ الشريعة
  6. ثمرات الإحسان

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شُرورِ أنفسِنا، وسيِّئاتِ أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، جَلَّ عن الشبيه والمثيل والنظير، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه وخليله، وخيرته من خلقه، وأمينه على وحيه، أرسله ربه رحمة للعالمين، وحُجة على العباد أجمعين، فهدى الله تعالى به من الضلالة، وبصَّر به من الجهالة، وكَثَّر به بعد القلة، وأغنى به بعد العَيلة، ولمّ به بعد الشتات، وآمن به بعد الخوف؛ فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله الطيبين، وأصحابه الغر الميامين، ما اتصلت عين بنظر، ووعت أذن بخبر، وسلم تسليما كثيرا.

أما بعد: روى الإمام أحمد في مسنده أن أبا ذر -رضي الله تعالى عنه- سأل النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قال: يا رسول الله! كم عدد الرسل؟ فقال -صلى الله عليه وسلم-: "هم مائة وعشرون ألفا، كما كبيرا".

هؤلاء المائة والعشرون ألفاً -أيها المسلمون- لم يذكر الله تعالى لنا في القرآن منهم إلا أسماء خمسة وعشرين نبينا فقط، وهؤلاء الخمسة والعشرون نبيا لم يفصِّل الله تعالى لنا في القرآن إلا قصص ثلاثة عشر نبيا فقط، أما البقية فإننا نعرف أسماءهم فحسب، فنعرف ذي الكفل واليسع وال ياسين… لكننا لا نعرف قصصهم.

وبعض هؤلاء الأنبياء قد فصَّل ربنا -جل وعلا- وأعاد وكرر في القرآن قصصهم؛ لما فيها من العبرة والعظة، وأول هؤلاء نبي الله تعالى موسى -عليه السلام- فقد تكرر اسم موسى في القرآن مائة وثلاثا وثمانين مرة، وذكر الله تعالى تفاصيل حياته حتى عرفنا بقصة حمل أمه به، وبقصة ولادته، وبقصة تربيته، حتى تستطيع أن تقول إن قصة موسى في القرآن قد تكررت وفُصِّلت بأكثر مما فصلت قصص غيره من الأنبياء.

ولقد أمر الله تعالى نبيه -عليه الصلاة والسلام- أن يتدبر في قصص الأنبياء السابقين، وأن يقصها للناس، كما قال الله -جل وعلا-: ﴿فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [الأعراف:176]، وقال -سبحانه وتعالى-: ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى﴾ [يوسف:111]، وقال الله -جل في علاه- ﴿كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آَتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا﴾ [طه:99]، وقال الله تعالى: ﴿وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ﴾ [هود:120].

نقُصُّ عليك قصة نوح -عليه السلام- ليثبُتَ فؤادُك على طول الزمن في دعوة الناس، فإن نوحاً قد دعا قومه ألف سنة إلا خمسين عاما، نقص عليك قصة شعيب -عليه السلام- ليثبت فؤادك عندما تتعامل مع قوم يتعلقون بالدرهم والدينار، ويحتالون، ويغشون في التجارة؛ فإن شعيباً -عليه السلام- قد عانى من قومه في ذلك ما عانى؛ نقص عليك قصة عيسى -عليه السلام-، ونقص عليك قصة لوط -عليه السلام-، ونقص قصص غيره من الأنبياء لنثبت فؤادك كما قال -سبحانه وتعالى-: (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ- يعني الأنبياء السابقين- فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ) [الأنعام:90].

وأمرنا الله تعالى أن لا نفرق في إيماننا بين جميع الأنبياء فقال -سبحانه وتعالى-: ﴿كُلٌّ آَمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ﴾ [البقرة:285]، نؤمن بنبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-، بإيماننا يوازَن الإيمان والتطبيق، وإيماننا بنبوة موسى، وإيماننا بنبوة من سبقهم من الأنبياء كلهم إلى آدم -عليه السلام-: ﴿كُلٌّ آَمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ﴾.

أيها المسلمون: موسى -عليه السلام- كليم الرحمن، خصه الله تعالى بعدد كبير من الخصائص، ولقد كان نبينا -صلى الله عليه وآله وسلم- يضرب المثل بموسى -عليه السلام- في مواطن كثيرة. ألم تر أنه -صلى الله عليه وسلم- لما جلس مع أصحابه يوما فقسم بينهم ذهبية من مال فأقبل إليه رجل مشمر الثياب، كثيب اللحية، قال: يا محمد، اعدل! فإنك لم تعدل. فقال -عليه الصلاة والسلام-: "ويحك! ومن يعدل إذا لم أعدل؟! ألا تأمنوني وأنا أمين مَن في السماء؟" ثم قال -عليه الصلاة والسلام- "يرحم الله أخي موسى".

فانظر كيف ورد اسم موسى إلى ذهنه -عليه الصلاة والسلام- في مجرد أن رأى من قومه من يتجرأ عليه، تذكر قصة موسى مع قومه لما قال لهم: إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة؛ فجعلوا يتبجحون عليه ويتفلسفون بكثرة أسئلتهم! تذكَّر قصة موسى -عليه السلام- مع قومه لما آتاهم الله تعالى من الطعام الحسن ما آتاهم فطلبوا أن يهبهم وأن يأتيهم بالبصل والثوم والكرات والعدس وما شابه ذلك! حتى قال لهم موسى ﴿أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ﴾ [البقرة:61]. تذكَّر النبي -صلى الله عليه وسلم- موسى وقال -عليه الصلاة والسلام-: "يرحم الله أخي موسى، قد أُوذي بأعظم من ذلك فصبر".

وفي موطن آخَر يخرج نبينا -صلى الله عليه وسلم- مع أصحابه فيمرون بشجرة للمشركين قد علقوا عليها سيوفهم طلباً لبركة الشجرة أن تبارِك السيوف! اعتقاد خاطئ وفساد في المعتقد، فقال بعض الصحابة -وكانوا حديثي عهد بالإسلام لم يدخلوا الإسلام إلا من فترة قصيرة- قالوا للنبي -عليه الصلاة والسلام- يا رسول الله! اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط. أي: كما لهم شجرة لها غصون يعلقون فيها سيوفهم طلباً للبركة من تلك الشجرة واعتقادا ببركتها ووقوعا في نوع من الشرك؛ فقال -عليه الصلاة والسلام- "الله أكبر! إنها السنن -يعني إنها ما يتكرر في الأمم- قلتم -والذي نفسي بيده!- كما قال بنو إسرائيل لموسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة!".

وذلك لما جاوز موسى -عليه السلام- وقومه البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم، التفت قوم موسى إليه وقالوا: ﴿اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آَلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(139)﴾ [الأعراف:138-139]. فكان نبينا -عليه الصلاة والسلام- يكرر ذلك على أصحابه كلما رأى موطنا شابهت فيه أمته -عليه الصلاة والسلام- الأمم السابقة، ذكَر موسى -عليهما أفضل الصلاة والسلام-.

وإذا تأملت في كتاب الله تعالى وجدت لموسى -عليه السلام- قصصا وعبرا لم يكْفِ أن نتكلم عنها في خطبة واحدة، لكن من أبهر ما عند موسى -عليه السلام- من الأخلاق أن الله تعالى وصفه بالقوة بالحق، والشجاعة فيه، والغيرة على الدين، وأنه كان يحب الإحسان إلى الناس.

بل إن موسى -عليه السلام- له إحسان إلى أمتنا، إلى صغيرها وكبيرها، وذكرها وأنثاها، إلى عربيها وأعجميها، وحُرها وعبدها ، له إحسان إلى أمتنا لا ننساه إلى قيام الساعة، وذلك -كما في الصحيح- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما عرج به إلى السماء وجعل -عليه الصلاة والسلام- يمر بالأنبياء واحدا بعد الآخر فيقول له جبريل: هذان ابن الخالة يحي بن زكريا وعيسى بن مريم فسلِّم عليهما، فسلَّم النبي -صلى الله عليه وسلم- عليهما، فقالا له: مرحبا بالنبي الصالح، والأخ الصالح؛ ثم مضى ومَرَّ بهارون -عليه السلام- ومر بعدد من الأنبياء.

حتى إذا وصل إلى السماء السادسة فإذا بموسى كليم الرحمن، النبي الصالح التقي، الذي هو من أولي العزم، وقد صبر على قومه أشد الصبر، وجاهدهم أعظم المجاهدة، فلما مر النبي -صلى الله عليه وآله- بموسى قال له جبريل: هذا موسى فسلم عليه، فقال -عليه الصلاة والسلام-: السلام عليكم يا موسى، فقال موسى -عليه السلام-: من هذا؟ قالوا: هذا محمد. قال: أو قد أرسل إليه؟ قالوا: نعم. وذلك أن موسى قد بشَّرَ قومه بمجيء محمد -عليه الصلاة والسلام-، وأمرهم بأن يؤمنوا به إذا بعث. قال موسى بعدها: مرحبا بالنبي الصالح، والأخ الصالح!.

فلما جاوزه النبي -عليه الصلاة والسلام- بكى موسى، فسأله جبريل ما يبكيك؟ قال أبكي لأن غلاما بعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر مما يدخلها من أمتي؛ ووصف النبي -صلى الله عليه وسلم- في ذلك قياساً لعمر النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى أعمار الأمم السابقة، فإن عمر ثلاثٍ وستِّين سنة لا يعتبر رقما كبيرا بمقدار حياة الأمم السابقة الذين كانوا يعيشون ألف سنة وثلاثة آلاف سنة، فموسى -عليه السلام- يعتبر سن النبي -عليه الصلاة والسلام- صغيرا جداً بالقياس إلى أعمارهم.

فيصعد النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى السماء السابعة، فيفرض الله تعالى عليه خمسين صلاة في اليوم والليلة، بمعنى أنه خلال اليوم في كل خمس وعشرين دقيقة يجب علينا أن نصلي صلاة، فلا نكاد أن ننهي الخطبة حتى تجب علينا صلاة، ثم بعدها بـخمس وعشرين دقيقة تجب صلاة أخرى ، فلا يستطيع المرء ربما أن يستمر في طعامه، ولا أن يستلذ في منامه؛ بسبب تتابع الصلوات عليه.

فلما سمع النبي -صلى الله عليه وسلم- وأطاع – وهكذا كان -عليه الصلاة والسلام- مر بموسى فسأله موسى -عليه الصلاة والسلام-، قال: ما فرض عليك ربك ؟ قال: فرض عليه خمسين صلاة في اليوم والليلة، فإذا بموسى -عليه السلام- يتحرك الخلُق الثابت في قلبه، وهو حب الإحسان إلى الناس أيا كانوا، سواء كانوا من أمته أو من غيرها؛ لم يقل موسى -عليه السلام- في نفسه ما دام أنها أمته فلا دخل لي فيهم، أنا يهمني أمر أمتي ألا يدخلوا النار، ألا يقصروا، أما أمم غيري فلا تهمني…كلا، لم يكن موسى -عليه السلام- يعيش في هذا الشعور.

إنما قال للنبي -عليه الصلاة والسلام- ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف، فإن أمتك لا تطيق ذلك، فإني قد بلوت الناس قبلك، وجاهدت بني إسرائيل أشد المجاهدة؛ ولا زال موسى يكاد أن يتعلق بالنبي -عليه الصلاة والسلام- وكأنه رجل يناشد ولده على أن يصيبه ضرر، ويحاول أن يرجع النبي -عليه الصلاة والسلام- ليسأل الله تعالى التيسير.

فيصعد النبي -عليه الصلاة والسلام- إلى ربه ويطلب منه أن ييسر وأن يخفف عليه، فيضع الله تعالى عنه عشر صلوات، فتكون أربعين صلاة، فيمر بموسى -عليه السلام-، فيسأله موسى: كم فرض عليك ربك؟ فيقول -عليه الصلاة والسلام-إنه فرض عليه أربعين صلاة، فإذا بموسى -عليه السلام- لا يزال محسناً إلى أمتنا، فيقول له: ارجع إلى ربك واسأله التخفيف، فإن أمتك لا تطيق ذلك.

ولا يزال نبينا -عليه الصلاة والسلام- يتردد بين ربنا -جلا في علاه- وبين عبد الله تعالى موسى -عليه السلام- حتى صارت خمس صلوات، وقال الله تعالى بعدها: "هي خمس وهي خمسون"، يعني هي خمس بالفعل وهي خمسون بالأجر، قد أمضيتُ فريضتي وخفَّفْتُ عن عبادي.

ويمضي النبي -صلى الله عليه وسلم- ويمر بموسى فيقول موسى: ارجع إلى ربك ليخفف هذه الخمس أيضا، فيقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: قد سألت ربي حتى استحييت، ولكن أرضى وأسلم. ثم تستمر الأمة تصلي هذه الخمس صلوات من بعد فرضيتها على نبينا -عليه الصلاة والسلام- ولا نزال نقر بالإحسان لنبي الله تعالى موسى علينا جميعاً.

ولك أن تنظر إلى موطن أخر من مواطن الإحسان تنظر إلى موسى -عليه السلام- وقد ركب مع الخضر في السفينة، وقد آتاه الله تعالى علماً لم يؤته موسى، كما آتى الله موسى علماً لم يؤته الخضر، يعمد الخضر إلى لوح من ألواح السفينة فيحركه وينتزعه من مكانه، فيقبل الماء يتدفق على الناس تكاد أن تغرق السفينة.

ويأتي المساكين الضعفاء الذين يملكون السفينة فيقبلون إلى هذا الموضع يصلحونه، فيقول موسى -عليه السلام- للخضر: أخَرَقْتَها لتغرق أهلها؟ لم يقل لتغرقنا، فلم يهتم بنفسه، إنما اهتم بهؤلاء الضعفاء الذين يبدو عليهم الضعف والحاجة، وحاجة أهلهم وفقرائهم، ﴿قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا﴾ [الكهف:71]، وهذا من محبته -عليه الصلاة والسلام- للضعفاء والمساكين.

بل انظر إلى موطن ثالثٍ، لما وقع لموسى -عليه السلام- ما وقع في مصر بعدما وكز الرجل المصري فمات ذلك الرجل من وكزته فكان قتْلَ خطأٍ، فأرسل فرعون من يقبض على موسى من لأجل أن يقتله، فهرب موسى من مصر لأنه يعلم أن فرعون لن يطبق فيه الحكم الشرعي، ولن يعامله بالعدل، بل سيعامله بالظلم، فهرب موسى -عليه السلام- خوفاً من إيقاع الظلم عليه.

جعل يمشي حافي القدمين وهو الذي لم يتعود على هذا التعب، ﴿وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ﴾ وجد مجموعة من الرعاة يسقون أغنامهم ويملؤون قربهم بالماء ليعودوا بها إلى أهلهم ﴿وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ﴾ يعني تذودان في غنمهما عن أن تختلط ببقية الغنم، والمرأتان لا تريدان أن تختلطا بالرجال؛ لأن الاختلاط حرام، سواء في أمتنا أو في الأمم السابقة، فإن الله تعالى خلق الرجل ينجذب إلى المرأة وخلق المرأة تنجذب إلى الرجل، فحرم الله تعالى على المرأة أن تخالط إلا مَن يجوز لها مخالطته من ذوي أرحامها من زوج وذوي أرحام، وحرم على الرجل أن يخالط أيضا إلا من يجوز له مخالطته.

وذلك لأن هذا الاختلاط ربما يؤدي بعد ذلك إلى مفاسد محرَّمة في جميع الأديان، قال الله تعالى ﴿وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ﴾ تزودان غنمهما، فقام موسى -عليه السلام- إليهما لأنه منظر يدعو إلى الاستغراب، فالأصل أن الغنم عطاش، وأن القِرب فارغة، وأن المغرب الآن سوف يحل عليكم، والشمس تغيب، فالأصل أن تتبادرا الماء قبل أن تغيب عليكم الشمس ويحل الظلام، ﴿قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي﴾ الآن نحن ممنوعون من السقاه لا نسقي ولا نقترب من الماء ﴿حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ﴾ حتى الرجال يبتعدون عن الماء عندها نقبل نحن أنا وأختي إلى هذا الماء ﴿حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ﴾ وحتى لا يسألهما موسى -عليه السلام-: فأين أخوكما؟ أين أبوكما؟ أين من يعمل لكما؟ قالتا ﴿وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ﴾ فقال الله تعالى: ﴿فَسَقَى لَهُمَا﴾ [القصص:23-24].

عنده في قلبه إحساس كبير بحب الإحسان إلى الناس، يعرف حاجة الناس قبل أن يطلبوها منه، ويفهمها قبل أن يشرحوها له، لا يحتاج أن تقول المرأتان: هل يمكن أن تساعدنا؟ هل يمكن أن تسقي لنا؟ أنت ترى حاجتنا، ترى جفاف قِرَبنا، وترى عطش دوابنا؛ لم ينتظر موسى -عليه السلام- من المرأتين أن تطلبا منه حاجة؛ وهذا حال المحسنين، حال الكرماء، أن يتبينوا الحاجات من عيون الناس، كما قال:

أَأَذْكُرُ حَاجَتِي أَمْ قَدْ كَفَانِي *** حِبَاؤُكَ إِنَّ شِيمَتَكَ الحِبَاءُ

الكريم لا يحتاج أن تبين له حاجتك، ولا أن تشرح له حالك، يعرف ذلك من فلتات لسانك، ومن تعبيرات وجهك، ومن التفاف عينيك، يعرف حاجتك لأنه كريم محسن؛ موسى -عليه السلام- منذ أن نظر إلى المرأتين ورأى حاجتهما عرف ما يريدان، دون أن يُفصلا له ذلك أو يبينانه له، قال الله تعالى:﴿فَسَقَى لَهُمَا﴾، أقبل إلى الماء ونزع الحجر الذي يسد فوهة الماء ثم أخذ بالدلو من الماء وسقى للغنم.

ثم لم يرجع إليهم يطلب مكافأة على إحسانه وهو العطشان، لم يطلب أن يسقينه شيئاً من هذا اللبن وهو الجوعان، لم يطلب أن يهباه شيئاً من الطعام الذي معهما، لم يطلب منهما أن يُؤْوِياه وهو الخائف، لم يطلب أن يُسكناه، لم يلتفت إلى شيء من ذلك أبداً، إنما المحسن يحسن إلى الناس طلباً لما عند الله تعالى والدار الآخرة، فرزق الله خير وأبقى، وهو خير مما يجمعون، وفضل الله تعالى أعظم وأوسع وأكبر.

قال الله تعالى ﴿فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ﴾ لم يتولَّ إلى المرأتين، تولى إلى الظل، ثم التفت ببصره إلى السماء، وهز أبواب السماء بأجمل الدعاء، وسأل الكريم المنان -جل وعلا- الذي يملكه ويملك المرأتين وأهلهما، الذي يملك أن يطعم الجائع وأن يداوي المريض وأن يؤمن الخائف، لجأ إلى ربنا -جل وعلا-: ﴿رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ﴾ أنا فقير إليك إلى رزقك وإلى تأمينك وإلى إحسانك، لست فقيراً إليهم.

ثم لا تمر لحظات حتى تكون المرأتان قد عادتا إلى والدهما فحدثتاه بالخبر، فأرسل إحداهما لأجل أن تحضر موسى، وجعل الأخرى تعتني بشؤون البيت وشؤون هذه الدواب التي عندهم، قال الله تعالى ﴿فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ﴾ يقول ابن عباس -رضي الله عنهما- لما قرأ قوله تعالى: ﴿تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ﴾ قال: لم تكن امرأة خلاجة ولاجة تخالط الرجال، وتنزع عنها الحياء والخجل، كلا، إنما قال الله تعالى ﴿تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ﴾ وكأنك بالمرأة وهي تمشي قد وضعت بصرها على الأرض، وجمعت على نفسها ثيابها، وجعلت تتمتم بكلمات بصوت منخفض لا يكاد موسى أن يسمع منها إلا اليسير ليفهم منها أنها تدعوه إلى بيت أبيها.

وهذا حال المرأة العفيفة التي لا تصرخ بصوتها بغير حياء ولا خجل، إنما هذه المرأة تمشي على استحياء، ﴿قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ﴾ حكى له قصة مولده، وكيف كان ظلم فرعون للناس، وكيف كان يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم، وكيف فعل ببني إسرائيل، وما هو سبب خروجه -عليه السلام- من مصر، ﴿وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ﴾، فإذا بذلك الرجل الصالح العالم يلتفت إلى موسى وهو يعلم أن ملك فرعون لا يصل إليهم في مدين، وأن أذى فرعون وجنوده لا تفكر أن تبحث عن موسى في مدين، ﴿قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ [القصص:24-25].

ثم جزاء هذا الإحسان الذي أحسنه موسى -عليه السلام- إلى المرأتين لا يزال يتتابع عليه، فيجد مأوى، ويجد وظيفة بأن يرعى الغنم عند هذا الرجل الصالح، ويجد زوجة، ويجد بعد ذلك أهلًا من ذريةٍ؛ كل هذا من جراء إحسانه إلى الناس!.

أيها المسلمون: إن الإحسان إلى الناس هو مبدأ من مبادئ الشريعة التي أمر الله تعالى بها أمتنا وأمر بها أيضاً الأمم السابقة، ويكفينا قول الله تعالى في محكم التنزيل: ﴿وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ [البقرة:195]، وأحسنوا بأموالكم، أحسنوا بألفاظكم، أحسنوا بجاهكم، أحسنوا بتعاملكم، أحسنوا ببركم، أحسنوا بكف أذاكم عن الناس.

أحسنوا وابتغوا بهذا الإحسان وجه الله تعالى فهو يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ، فإذا أحبك الله تعالى استجاب دعاءك إذا دعوت، وكشف عنك ضرك وبأسك، وصار الله تعالى معك، ورحمك الله تعالى إذا رحمت عباده، "وكان الله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه".

نسأل الله تعالى أن يجعلنا جميعاً من المحسنين، وأن يكافئنا الله تعالى بذلك أعظم المكافأة في الدنيا والآخرة، أقول ما تسمعون وأستغفر الله العلي العظيم لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشانه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وإخوانه وخلانه، ومَن صار على نهجه واقتفى أثره واستنَّ بسُنته إلى يوم الدين.

أما بعد: أيها الأخوة الكرام: إن العبد إذا عمل العمل الصالح كافأه الله به في الدنيا والآخرة، يقول ابن عباس رضي الله عنهما: "إن للحسنة نورا في الوجه، وسعة في الرزق، وصلاحا في الولد، وراحة في البدن، وسلامة في القلب؛ وإن للسيئة ظلمة في الوجه، وسقما في البدن، وعقوقا في الولد، وبغضا في قلوب الخلق".

ويكافئ الله تعالى المحسن على إحسانه في الدنيا قبل الآخرة، خاصة لمن أخلص النية لله -جل وعلا- في ذلك.

نسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يجعلنا جميعا ً من المحسنين، اللهم وفِّقْنا جميعاً لفعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين.


تم تحميل المحتوى من موقع