وأوصي نفسي والسامعين -ونحن نستمع لهذه الآفات- أن نحاكم واقعنا إليها، وأن نحاسب أنفسنا على ضوئها، فتلك ثمرة المواعظ والخطب، وتلك صفات المؤمنين الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، الذين قالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير، أولئك الذين هدى الله، وأولئك هم أولو الألباب ..
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره...
أيها الإخوة المسلمون: عن حصائد الألسن، وآفاتها الخطيرة، وغوائلها المهلكة حديث من الأهمية بمكان، وهي -لكثرتها- ربما لا يحس الناس بها أو يقدرون خطر بعضها دون البعض الآخر.
أما العارفون فقد عدوا للّسان عشرين آفة، يتعامل الخلق بها كلها، لكن ما بين مقل ومستكثر، وما بين محتاط مقتصد فيما يقول، وبين متعد مفرط يرى أنه ما دام بإمكان لسانه أن يتحرك فلا عليه أن يطلقه، حتى ولو كان ذلك الإطلاق على حساب دينه وكرمه ومروءته.
وليت هؤلاء -بل ليتنا جميعاً- نفقه قول المصطفى -صلى الله عليه وسلم-: "مَن صمت نجا" رواه الطبراني بسند جيد، إذ لا نجاة لمن لا يحسن استخدام اللسان بالمعروف إلا بالصمت، ولا شك أن الصمت يحتاج إلى مجاهدة نفس، وطول مران.
لكن الكف عن الشرور والآثام طريق موصل إلى الله وجنته، فهذا أعرابي -كما في حديث البراء بن عازب رضي الله عنهما- جاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: دلني على عمل يدخلني الجنة، قال: "أطعم الجائع، واسق الظمآن، وأمر بالمعروف، وانه عن المنكر، فإن لم تطق فكف لسانك إلا من خير" رواه ابن أبي الدنيا بإسناد جيد.
إخوة الإسلام: فهذه الآفات العشرون للسان تختلف في حريتها، وتتفاوت في عقوباتها، لكن بعضها يجر إلى بعض، وإذا تجاوز اللسان آفة سهل عليه مقارفة الآفة الأخرى، وهكذا يكون للسان نصيب من هذه الآفات كلها فيهلكه لسانه.
تعالوا بنا -معاشر المسلمين- نتذكر هذه الآفات مبتدئين بأخفها ومترقين إلى الأغلظ قليلا، ونؤخر الكلام في الغيبة والنميمة والكذب، فإن النظر فيها أطول، والعقاب فيها أشد.
وأوصي نفسي والسامعين -ونحن نستمع لهذه الآفات- أن نحاكم واقعنا إليها، وأن نحاسب أنفسنا على ضوئها، فتلك ثمرة المواعظ والخطب، وتلك صفات المؤمنين الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، الذين قالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير، أولئك الذين هدى الله، وأولئك هم أولو الألباب.
وأول هذه الآفات اللسان: الكلام فيما لا يعني المتكلم، إذ هو ضياع للعمر والوقت فيما لا فائدة فيه، وهل هناك أغلى على الإنسان من وقته وعمره؟ وفرق بين من يزرع بكل كلمة يقولها شجرة له في الجنة، وبين من يجني الأشواك على نفسه بسبب كثرة كلام لا فائدة فيه، وربما جره إلى مكروه أو حرام.
قال العلماء: وحد الكلام فيما لا يعنيك: أن تتكلم بكلام لو سكتّ عنه لم تأثم، ولم تستضر به في حال ولا مال. فإذا علمت هذا فاعلم أن "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه".
وتأمل هذه النصيحة من حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما-، فقد روى عنه مجاهد –رحمه الله- قال: سمعت ابن عباس يقول: خمسٌ، لَهُنَّ أحب إليّ من الدهم الموقوفة -وهي العدد الكثير من الإبل أو الخيل-: لا تتكلم فيما لا يعنيك، فإنه فضل، ولا آمن عليك الوزر، ولا تتكلم فيما يعنيك حتى تجد له موضعا، فإنه رب متكلم في أمر يعنيه قد وضعه في غير موضعه فعنت، ولا تمار حليماً ولا سفيهاً؛ فإن الحليم يقليك، والسفيه يؤذيك، واذكر أخاك إذا غاب عنك بما تحب أن يذكرك به، واعفه مما تحب أن يعفيك منه، وعامل أخاك بما تحب أن يعاملك به، واعمل عمل رجل يعلم أنه مجازى بالإحسان، مأخوذ بالإجرام.
الآفة الثانية من آفات اللسان: فضول الكلام، ويتناول الخوض فيما لا يعني، والزيادة فيما يعني على قدر الحاجة، فمن أنهى مقصوده بكلمة، فالكلمة الثانية فضول، فكيف بمن يتحدث الساعات الطوال بكلام فضول؟ والحق تبارك وتعالى يقول: (لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ) [النساء:114].
ولا شك أن فضول الكلام يجر إلى مزالق ومخاطر، وكان عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- يقول: إنه ليمنعني من كثير فضول الكلام، وفضول المال.
أيها المؤمنون: إذا كان هذا في شأن فضول الكلام وما لا يعني، فلا تعجبوا إن رأيتم ثلة من الصالحين يندر حديثهم ويقل خلطتهم للناس إلا بخير، وما بهم من علة؛ لكنه الفقه في الدين، والاستحضار الدائم للعرض على رب العالمين، والبكاء على الخطايا ورجاء التكفير، ولهؤلاء وأمثالهم تزف البشرى، فالنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "طوبى لمن ملك لسانه، ووسعه بيته، وبكى على خطيئته" رواه الطبراني وصححه الألباني.
الآفة الثالثة: الخوض في الباطل، وهو الكلام في المعاصي، كحكاية أحوال النساء، ومجالس الخمر، ومقامات الفساق، وتكبر الجبابرة ومراسمهم المذمومة، إلى غير ذلك من الخوض في الباطل.
والخليق بالمسلم أن يرفع نفسه عن الدنايا، وما يكون سببا لاقتراف المحرمات، أما أهل النار فيعترفون أن خوضهم في الباطل من أسباب دخولهم النار: (مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ) [المدثر:42-45].
الآفة الرابعة: المراء والجدل، وهو كل اعتراض على كلام الغير بإظهار خلل فيه، إما في اللفظ، وإما في المعنى، وإما في قصد المتكلم.
وترك المراء بترك الإنكار والاعتراض، فكل كلام سمعته فإن كان حقاً فصدق به، وإن كان باطلاً أو كذباً ولم يكن متعلقاً بأمور الدين فاسكت عنه.
فإياك -أخي المسلم- المراء والجدل! فهما مظنة للضغائن والأحقاد، وقساوة القلوب وتنافرها، وحضور الشياطين، وانفلات زمام الألسن، وربما تكلم الإنسان في تلك الحال بكلام ندم عليه، لكنه كان يرغب الانتصار به على من يماري ليس إلا.
إخوة الإسلام: ليس الإحجام عن المراء، أو الصمت حين تتطاول ألسنة الآخرين نوعاً من الضعف والهزيمة، كلا! وإن بدا ذلك لضعاف العقول، بل هو نوع من التعقل والحكمة وضبط للنفس حين تتأزم والأمور، وقلةٌ هُم الرجال الذين يملكون أنفسهم عند الغضب، وليس الشديد بالصرعة، ولكن الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب، كما أخبر الصادق المصدوق -عليه الصلاة والسلام-.
ويكفي أن يتصور المسلم ما أعده الله لمن ترك المراء وإن كان محقاً من الأجر والمغنم، والرسول -صلى الله عليه وسلم- يقول: "أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقاً، وبيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحاً، وبيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه" رواه أبو داود وصححه الألباني.
الآفة الخامسة: الخصومة بالباطل، وهي وراء الجدل والمراء، لأنها مدعاة لأكل أموال الناس بالباطل، أو على الأقل فيها اعتداء على الأعراض وإثارة لمشاعرهم، مما يستوجب الحقد والبغضاء بين المسلمين، قال الله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ) [البقرة:204].
وهل علمت -أخي المسلم- "إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم"، كما أخبر بذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري. والألد هو الأعوج، قال تعالى: (وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا) [مريم:97]، أي: عوجاً، فاحذروا المراء! ودعوا الخصومات بالباطل، فإن ذلك أسلم لدينكم وأصلح لدنياكم.
الآفة السادسة: التقعر في الكلام، وهو التشدق وتكلف السجع والفصاحة والتصنع فيه، فإنه من التكلف الممقوت، إذ ينبغي أن يقتصر في كل شيء على مقصوده، ومقصود الكلام التفهيم، وما زاد عنه يقصد إظهار الفصاحة لا ينبغي إلا ما دخل في تحسين ألفاظ التذكير والخطابة لغرض التأثير واختيار الألفاظ الحسنة لدواعي القبول، فذلك يختلف عن النهي عنه.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا) [الإسراء:53].
الحمد لله رب العالمين، أمر عباده بالحسنى، فقال: (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا) [البقرة:83]، ونهى عن الفحشاء في الأقوال والأفعال ما ظهر منها وما بطن، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، يحب التوابين ويحب المتطهرين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أزكى البشر خلقاً، وأعفهم لسانا.
اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى إخوانه المرسلين، وعلى آله وصحابته والتابعين ومن تبعهم وسار على هداهم إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: إخوة الإسلام، فإن الآفة السابعة من آفات اللسان: الفحش والسب وبذاءة اللسان، وحَدُّ الفحش هو التعبير عن الأمور المستقبحة بالعبارات الصريحة.
ومن أدب الإسلام ومن كمال مروءة المسلم أن يكني عنها، ويذكرها بعبارات أو رموز تفهم المقصود دون ذكر للفظ المستكره الفاحش، والرسول -صلى الله عليه وسلم-، وهو قدوة الخلق، جاء في صفته أنه لم يكن فاحشاً ولا متفحشاً، ولا صخاباً في الأسواق. مختصر شمائل الترمذي/ الألباني.
أما السب فلا ينبغي أن يصدر من المسلم لأي بشر كان، فإن كان مسلماً فقد جاء في الحديث أن "سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر"، وإن كان غير ذلك فلا يزيده السب إلا عتوا وإعراضاً، والله تعالى يقول: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [النحل:125].
والمسلم طاهر اللسان، عفيف القول، بعيد عن البذاءة وإيذاء الخلق باللسان، فهذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يرسم المنهج في تعامل المسلم مع غيره، ويقول للرجل الذي جاءه يقول: أوصني يا رسول الله: فقال: "عليك بتقوى الله، وإن امرؤ عيرك بشيء يعلمه فيك فلا تعيره بشيء تعلمه فيه، يكن وباله عليه وأجره لك، ولا تسبن شيئاً"، قال الرجل: فما سببت شيئاً بعده.
أخي المسلم أختي المسلمة: والآفة الثامنة: آفة اللعن، وما أسهلها عند بعض الناس! وما أكثرها على ألسنة بعض العوام! سواء كان اللعن لإنسان أو حيوان أو حمار.
والمؤمن –كما جاء في الحديث- ليس بالطعان، ولا اللعان، ولا الفاحش، ولا البذيء. رواه أحمد والترمذي وصححه الألباني. وهل يرضى أحد لنفسه أن يبعد يوم القيامة عن الشفاعة والشهادة؟ والرسول -صلى الله عليه وسلم- يقول: "لا يكون اللعانون شفعاءَ ولا شهداءَ يوم القيامة" رواه مسلم.
وحتى تعلموا أثر اللعن للحيوان، فضلا عن الإنسان، أسوق لكم هذه الحادثة التي وقعت في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم-، فعن أبي برزة الأسلمي -رضي الله عنه- قال: بينما جارية على ناقة عليها بعض متاع القوم إذ بصرت بالنبي -صلى الله عليه وسلم-، وتضايق بهم الجبل، فقالت حَل اللهم العنها، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا تصاحبنا ناقة عليها لعنة" رواه مسلم، فتأملوا -معاشر المسلمين- في هذه النصوص، وكفوا ألسنتكم عن السب والشتم واللعن، وقوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة، وأدبوا أولادكم وأهليكم بأدب الإسلام.
الآفة التاسعة: الغناء والشعر المذموم، وهذا وربي يحتاج إلى كلام طويل، نظراً لافتتان الناس به، وكثرة رواجه، سواء بقوله أو الاستماع إليه، ولا سيما ردئ الكلام، وسواقط العبارات، والتشبب بالنساء، ومغازلة الحبيب، والبكاء على الحبيبة، وما شابه ذلك من عبارات الحب والغرام التي لا يكاد يخرج عنها غناء اليوم.
وهل يستحمل واقع المسلمين اليوم مثل هذه العبارات والمئات منهم يموتون جوعاً، وأفواج أخرى تموت تحت مطارق المجرمين، وفي مكان ثالث تغتصب النساء وتشرد الأطفال، وتهدم البيوت والمساجد، وتخد الأخاديد، وتحفر القبور الجماعية للمسلمين؟ أفيسوغ لنا أن نلهو ونعبث ونبكي على الحبيبة والحبيب، وتلك حال إخواننا المسلمين؟.
وحتى لو كان النصر حليفنا والعزة والتمكين شعارنا فما ينبغي أن نقترف ما حرم الله، وهناك رسائل عدة ألفها العلماء في تحريم الغناء ليس هذا موضع بسطها، ويكفي هنا أن أشير إلى قوله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) [لقمان:6]، وكان بعض الصحابة يقسم ثلاثاً: والله! إن لهو الحديث لهو الغناء.
ويكفي لذلك أن نذكر بالحديث الصحيح الذي رواه البخاري في حرمة الغناء والنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "يستحل قوم من أمتي الحِر والحرير والمعازف"، والنص واضح في حرمتها؛ لكن هناك من يستحلونها، فتنبهوا لذلك -معاشر المسلمين-، وتوبوا إلى ربكم توبة نصوحاً، وترفعوا عن الدنايا ترشدوا.
أيها المسلمون: هذه طائفة من حصائد الألسن وآفاتها، وهناك آفات غيرها، وسيتبع الحديث عنها بإذن الله، والسعيد من استفاد من يومه لغده، والعاقل من استبرأ لدينه وعرضه، والمؤمن من آمن بما جاء من عند الله، وصدق وامتثل ما قاله رسول الله.
جعلني الله وإياكم من المؤمنين المصدقين، وسلك بنا طريقه المستقيم، وعصمنا من مضلات الفتن.
هذا وصلوا...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي