العشر الأخير - وفضل التهجد والدعاء

سليمان بن حمد العودة
عناصر الخطبة
  1. فضل العشر الأواخر من رمضان .
  2. الهدي النبوي في العشر الأواخر .
  3. هدي الصالحين في إحياء الليل .
  4. ليلة القدر وفضائلها ومزاياها .
  5. دعوة للمسابقة للخيرات والدعاء .
  6. بعض أحكام الدعاء وآدابه .
  7. الاعتكاف وبعض أحكامه وآدابه .

اقتباس

بشراكم اليوم حيث تدركوا ليالي العَشر الأخير من رمضان! وهي شامة العام، وغرّةٌ في جبين الزمان، يقدرها حقَّ قدرها العالمون العابدون، ويتهاون بشأنها ويفرط في مغانمها الجاهلون العاجزون، إنها الموسمُ يتنافس فيها المتنافسون، وإنها التجارةُ المنجية من عذاب الله لِمَن وفَّقه الله، إنها فرصٌ تبتلى فيها الهمم، ويتبين فيها مريدو الآخرة، والمتعلقون بالدنيا ..

  

الحمد لله ربِّ العالمين، خلق فسوى، وقدّر فهدى، وله الحمدُ في الآخرة والأولى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، بيده مقاليد السماوات والأرض، وما من دابة في الأرض إلا هو آخذ بناصيتها، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

اتقوا الله معاشر المسلمين، وتزودوا فإن خير الزاد التقوى، ولباسُ التقوى خيرٌ وأبقى، واصدقوا مع ربكم في العلانية وما يخفى، فإن ذلك من علائم التقوى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) [التوبة:119].

عباد الله: بشراكم اليوم حيث تدركوا ليالي العَشر الأخير من رمضان! وهي شامة العام، وغرّةٌ في جبين الزمان، يقدرها حقَّ قدرها العالمون العابدون، ويتهاون بشأنها ويفرط في مغانمها الجاهلون العاجزون، إنها الموسمُ يتنافس فيها المتنافسون، وإنها التجارةُ المنجية من عذاب الله لِمَن وفَّقَه الله، إنها فرصٌ تبتلى فيها الهمم، ويتبين فيها مريدو الآخرة، والمتعلقون بالدنيا.

إنها الفرصة الأخيرة في الشهر تحلُّ لتكون العزاء لمن فرّط في أول الشهر، أو التاج الخاتم لمن أصلح ووفَّى فيما مضى.

أجل؛ لقد كان خيرُ البرية محمد -صلى الله عليه وسلم- يجتهد في هذه العشر فوق ما يجتهدُ في غيرها، وقد روى الإمام مسلم -رحمه الله- عن أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- قالت: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيره.

كان يحي الليل، ويوقظ أهله، ويشد مئزره، وهو الذي غُفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخر، فما بال أقوام تثقلهم الذنوبُ، ويحتاجون إلى رحمة علام الغيوب، ثم هم يفرّطون، وعن مواسم الخيرات يتأخرون؟! إنها النفوس الأمارة بالسوء تقعد بأصحابها حين تكون المغانم، وإنها الهمم الضعيفة تستثقل القيام في أيام وليالٍ معدودة.

أين نحن من قومٍ ديدنهم القيام طوال العام، وسيماهم التضرع والتجافي عن المضاجع في رمضان وغير رمضان، بل كانوا يتلذذون بالقيام ويسعدون وهم يناجون الملك العلام، يقول أحدهم: لولا قيام الليل ما أحب البقاء في الدنيا. وقال عاصم بن أبي النجود ي-رحمه الله-: أدركت أقواماً كانوا يتخذون هذا الليل جملاً.

أولئك الذين أثنى الله عليهم ووعدهم، وربُّك لا يخلف الميعاد (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) [السجدة:16]، ذلك واقعهم، أما جزاؤهم؛ (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [السجدة:17].

أهل التجافي في جنح الظلام هم أهل التقوى والمتقون في جناتٍ وعيون، أحسنوا في الدنيا فأحسن الله إليهم في الآخرة (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ * كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) [الذاريات:15-18].

قيام الليل هديُ محمد -صلى الله عليه وسلم- (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً) [المزمل:1-4].

وهو هدي خيار الأمة معه: (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ) [المزمل:20].

وقيام الليل مفخرةٌ لأهله، وامتدح الشعراءُ به أهله، وهذا عبدُ الله ابن رواحة -رضي الله عنه- يمدح رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويقول:
وفينا رسـولُ الله يتلـو كتابـه *** إذ انشقَّ معروفٌ من الصبحِ ساطعُ
يبيت يُجافـي جنبَه عـن فِراشِهِ *** إذا استثْقَلَتْ بالمشركين المضاجِـعُ

وذكروا المتقاعس أو المتباطئ فيه فقالوا:
أمامك يا نومـانُ دارُ سعـادةٍ *** يطولُ الثوى فيها ودارُ شقـاءِ
خُلقتَ لإحدى الغايتين فلا تنم ***وكن بين خوفٍ منهما ورجاء

"نِعم الرجلُ عبد الله! لو كان يصلي من الليل". هكذا كان النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- يدعو أصحابه لقيام الليل ويرغبهم فيه، ولقد وضع -صلى الله عليه وسلم- الزرع في منبته، فاستجاب الرجال للنداء، وأجابوا الدعوة والداعي، وكانوا رهباناً بالليل فرساناً بالنهار، تتجافى جنوبهم عن المضاجع فلا تجف لهم دمعة، ولا تقعد بهم الدنايا عن طلب المنازل العليّة.

قيام الليل -أيها المسلمون- من أبواب الخير، عن معاذ -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال له: "ألا أدلُّك على أبواب الخير؟ الصومُ جُنة، والصدقةُ تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماءُ النارَ، وصلاةُ الرجل من جوف الليل"، قال: ثم تلا: (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ) حتى بلغ (يَعْلَمُونَ).

عباد الله: وفي فضل التجافي ذكر ابن المبارك -يرحمه الله- عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: إذا كان يومُ القيامة نادى منادٍ: ستعلمون اليوم من أصحاب الكرم، ليقم الحامدون لله على كل حال، فيقومون فيسرحون إلى الجنة، ثم ينادي ثانية: ستعلمون من أصحاب الكرم، ليقُم الذين كانت جنوبهم تتجافى عن المضاجع (يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) قال: فيقومون فيسرحون إلى الجنة... الحديث.

أيها المسلمون: حريٌّ بنا أن نجاهد أنفسنا على قيام الليل وهذا بعض فضله، وأن نتخذ من رمضان فرصة للقيام في سائر العام، وإن قصرت بكم الهمم في بعض الشهور والأيام عن قيام الليل والناس نيام، فدونكم هذه الليالي الفاضلة فلا تغلبنكم أنفسكم، ولا يصدنكم الشيطان عنها، فهي والله العزّ في الدنيا، والمغنم في الآخرة.

وإليكم واحداً من بشاراتها وثوابها، قال -عليه الصلاة والسلام-: "إن في الجنة غرفاً يُرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها، أعدها الله لمن أطعم الطعام، وأفشى السلام، وصلّى بالليل والناس نيام".

تأملوا -عباد الله- الليل إذا سجى، وادعوا ربكم خوفاً وطمعاً وسبحوه بكرة وأصيلا، واستمتعوا بالقرآن إذا يتلى، ولا يكن همكم نهاية الصلاة إذ تقضى، ولا يكن حديثكم ومحلُّ اهتمامكم أقصّر الإمام في الصلاة أم وفّى؟ فإنّ من قام لله قانتاً واحتسب الأجر على الله قائماً وراكعاً وساجداً، تشاغل بذكر مولاه، وبكى على خطيئته، وخاف ربَّه ورجاه، واستشعر اللذة في حال قيامه أو ركوعه أو دعاه.

أيها المسلمون: ليالي العشر مغنم يستحق التهنئة والبشرى، وفيها ليلةٌ خير من ألف شهر، كما أنزل العليُّ الأعلى: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ) [القدر:1-5].

وتأمل -يا أخا الإسلام- كم في هذه الليلة من فضائل ومزايا، ففيها أنزل القرآن جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة من السماء الدنيا، والعمل فيها لمن وفقه الله وقبله خيرٌ من العمل في ألف شهر، وتلك رحمةٌ من رحمات الله بهذه الأمة التي تقلّ أعمارها عن أعمار الأمم قبلها، فأعطيت هذه الليلة لتعويض قصر أعمارها.

وفيها يكثر تنزل الملائكة، وهم يتنزلون مع تنزل البركة والرحمة، والله أخبر عن بركة هذه الليلة فقال: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ) [الدخان:3].

ووصفت بأنها سلامٌ، أي: سالمةٌ، لا يستطيع الشيطان أن يعمل فيها سوءاً أو أذى، كما قال مجاهد -رحمه الله-.

أو يكثر فيها السلامة من العقاب والعذاب بما يقوم بعد العبدُ من طاعة الله -عز وجل-، وفي ليلة القدر يُفْرَق كلُّ أمرٍ حكيم، وهو ما يفصل من اللوح المحفوظ إلى الكتبة من أمر السنة، وما يكون فيها من الآجال والأرزاق.

وفوق ذلك كلِّه، فمن قامها إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه، كما في الحديث المتفق على صحته.

فهل ترضى -أيها اللبيبُ- أن تُفوّت على نفسك هذه الفرصة، وأنت تضمنها في ليالٍ عشر، ألا ما أحوجني وإياك والمسلمين إلى فضل ربِّنا! فهذه نفحات جوده تغشانا.

وما أحوجنا إلى مغفرة الذنوب التي أثقلت كواهلنا! وفي هذه الليالي فرصةٌ للتخفف والتوبة والاستغفار فما أحرانا! ولا يفوتنك الاستغفار بالأسحار فهو سيما المتقين، وزاد إلى جنة النعيم (وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ).

ولي ولك حوائج في الآخرة والأولى، وفي جنح الظلام يسمع الدعاء، ولنا جميعاً -معاشر المسلمين- هموم ومآسٍ، وليس إلا الله يرفع عنا الضراء، فلنبتهل إليه، ولنصدق المسألة لنا ولإخواننا، والجنة جميعاً مبتغانا، ونسأل الله ليلاً ونهاراً أن يرزقنا إياها؛ وقيام الليل عامة، وإحياء ليالي العشر خاصة طريق إلى الجنة، إذا صحت النوايا، وخلصت الأعمال لله -جلّ وعلا-، وأذن الربُّ بالقبول، وربنا رؤوف رحيم، يعطي الجزيل، ويتجاوز عن التقصير، فهل نلج الباب، ونفعل الأسباب؟.

إنها دعوةٌ للمسابقة للخيرات، وتذكيرٌ ببعض الفضائل والمكرمات، ومن تذكر فإنما يتذكر لنفسه، ومن عمل صالحاً فلنفسه، ومن أساء فعليها.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً * إِنَّ هَؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً) [المزمل:26-27].

اللهم انفعنا بالقرآن، ووفقنا لصالح الأعمال، وأعِنَّا على الصيام والقيام، وتقبل منا يا كريم يا منان. أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم...
 

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، أوحى إلى عبده فيما أوحى: (وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ) [ق:40]، قال ابن جرير -رحمه الله-: هي الصلاة بالليل من أي وقت صلى.

وأنزل على نبيه فيما أنزل: (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً) [الإسراء:79].

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وفيما أنزل عليه: (فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ) [الشرح:7-8]. قال القرطبي: قال ابن مسعود -رضي الله عنه-: " إذا فرغت من الفرائض فانصب في قيام الليل".

اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد وعلى آله وصحبه.

إخوة الإيمان: في الهزيع الأخير من الليل يُستجاب الدعاء، وقد ثبت عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قوله: "إن الله يُمهل، حتى إذا ذهب ثُلث الليل الأول نزل إلى السماء الدنيا، فيقول: هل من مستغفر؟ هل من تائب؟ هل من سائل؟ هل من داع؟ حتى ينفجر الفجر".

وفي الدعاء يُجاب المضطر، ويكشف السوء، وتستمر الحياة على وجه الأرض: (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ) [النمل:62]، قال المفسرون: ينبه تعالى أنه المدعو عند الشدائد، والمرجو عند النوازل.

أمة الإسلام: كم في المسلمين من شدة! وكم تحيط بهم من نازلة! وليس لهم إلا الله يرفع عنهم الضرَّ، ويكشف ما بهم من كرب، فهل يا تُرى يستفيد المسلمون من هذه الليالي الفاضلة، فيرفعون أكف الضراعة لجلاء الغمة، وإزالة أسباب التشرذم والفرقة.

لقد عادت غربة الدين في أنحاء واسعة من بلاد المسلمين، وأصبح الغيورون على دين الله غرباء، وأصبحت نُخب العلمانيين تصدِّر للناس من المفاهيم الملوثة ما تشاء، وحلت في ديار المسلمين الفتنُ والشحناء، وغاب صوتُ الحقِّ أو كاد، لمخالفته الهوى، فإلى الله المشتكى!.

وفي قصص القرآن سلوة وعزاء: (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ) [القصص:5-6].

احرصوا على الدعاء -معاشر المسلمين- وادعوا دعاء المضطر إلى الله الموقن بالإجابة، مستحضرين آداب الدعاء، ومتفطنين لأسباب القبول وموانع الإجابة، ومتحرين لأوقات سماع الدعاء، وقد سُئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أيُّ الدعاء أسمع؟ قال: "جوف الليل، ودبُر الصلوات المكتوبة".

إخوة الإيمان: وهاهنا يحسن التنبيه على خطأ يقع فيه بعض الداعين أئمة كانوا أو مأمومين، ألا وهو الاعتداء في الدعاء، وذلك برفع الأصوات، أو بالدعاء بغير المأثور من الدعوات، أو بأن يسأل ما لا يجوز له سؤاله من المعونة على المحرمات، أو المستحيلات كالتخليد في الدنيا، أو الاطلاع على الغيب، أو غير ذلك من صور الاعتداء التي تذهب بالخشوع، وتفقد الاقتداء بهدي المرسلين.

والله يقول مادحاً لأوليائه وأصفيائه: (إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ) [الأنبياء:90]، وينهى عن الاعتداء في الدعاء ويقول: (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) [الأعراف:55].

ولشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- كلامٌ جزلٌ طيب في إخفاء الدعاء وعدم الاعتداء فيه، وقد ذكر له فوائد عديدة وأحصى منها عشراً هي باختصار:

أولها: أنه أعظم إيماناً، لأن صاحبه يعلم أن الله يسمع الدعاء الخفي.

ثانيها: أنه أعظم في الأدب والتعظيم، فإذا كانت الملوك لا ترفع الأصوات عندها، فملك الملوك أحرى.

وثالثها: أنه أبلغُ في التضرع والخشوع الذي هو روح الدعاء ولبُّه ومقصوده.

ورابعها: أنه أبلغ في الإخلاص.

وخامسها: أنه أبلغ في جمعية القلب على الذلة في الدعاء، فإن رفع الصوت يفرقه.

وسادسها: -وهو من النكت البديعة جدًّا- أنه دال على قرب صاحبه للقريب، لا مسألة نداء البعيد للبعيد، ولهذا أثنى الله على زكريا بقوله -عز وجل-: (إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيّاً) [مريم:3]، فلما استحضر القلب قرب الله -عزّ وجل-، وأنه أقرب إليه من كل قريب أخفى دعاءه ما أمكنه.

وقد أشار النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى ذلك بقوله للصحابة: "أربعوا على أنفسكم! فإنكم لا تدعون أصمَّ ولا غائباً، إنكم تدعون سميعاً قريباً، أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته".

وسابعها: أنه أدعى لدوام الطلب واللسان، فإن اللسان لا يمل، والجوارح لا تتعب، بخلاف ما إذا رفع صوته.

وثامنها: أن إخفاء الدعاء أبعد له من القواطع والمشوشات، لأنه إذا أخفى لم يدر به أحد، بخلاف إذا جهر فطرت له الأرواح البشرية، ولابد، فأفسدت عليه دعاءه بخلاف إذا أسر.

وتاسعها: أن أعظم النعمة الإقبال والتعبد، ولكل نعمة حاسد على قدرها، ولا نعمة أعظم من هذه، وبالإسرار يسلم من حسد الحاسدين بإخفاء هذه النعمة التي منحه الله إياها.

وعاشرها: أن الدعاء هو ذكرٌ للمدعو -سبحانه وتعالى-، متضمن للطلب والثناء عليه بأوصافه وأسمائه، فهو ذكرٌ وزيادة، وإذا كان ذلك كذلك فالله قال في شأن الذكر: (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً) [الأعراف:205]، والتمسكن والانكسار هو روح الذكر والدعاء.

ومن رام المزيد والتفصيل فليرجع للفتاوى في جزئها الخامس عشر.

أيها الصائمون: ثمة سُنَّة نبوية يحسن التذكير بها هذه الأيام، إنها الاعتكاف، وحقيقتها لزوم مسجد لطاعة الله، والانقطاع عن الدنيا وعلائقها، والإقبال على الله، وقصر القلب عليه وحده دون سواه، والتبتل إليه، وسؤاله، ورجاؤه.

قال الإمام الزهري -رحمه الله-: "عجباً للمسلمين! تركوا الاعتكاف مع أن النبي -صلى الله عليه وسلم- ما تركه منذ قدم المدينة حتى قبضه الله -عز وجل-".

أجل، لقد اعتكف النبي -صلى الله عليه وسلم- في العشر الأول من رمضان، ثم العشر الأواسط يلتمس ليلة القدر، ثم تبين له أنها في العشر الأواخر فداوم على اعتكافها، عجباً لمن يبحثون عن سنة المصطفى -صلى الله عليه وسلم- ثم هم لا يكترثون بسنة الاعتكاف ولو حيناً من الدهر.

وعجباً لمن يبحثون عن الخير مظانه ثم هم يقصرون عن سنة الاعتكاف ويعللون أنفسهم بالمشاغل وارتباطات الحياة، وهل يبلغون معشار ما لدى النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- من مهام ومسئوليات؟! ومع ذلك داوم على الاعتكاف حتى لقي الله.

بل لقد اعتكف أزواجه من بعده اقتداء بسنته، كما ثبت في الحديث المتفق على صحته، وفي صحيح البخاري عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: اعتكفت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- امرأة مستحاضة مع أزواجه، فكانت ترى الحمرة والصفرة، فربما وضعنا الطست تحتها وهي تصلي.

قال الشيخ الألباني: وفي هذه الأحاديث دليل على جواز اعتكاف النساء، و... أن ذلك مقيد بإذن أوليائهن لذلك، وأمن الفتنة والخلوة مع الرجال، للأدلة الكثيرة في ذلك، والقاعدة الفقهية: درءُ المفاسد مقدمٌ على جلب المصالح.

فإذا كان الأمر وارداً بالنسبة للنساء -مع توفر الشروط وانتفاء الموانع- فما بال الرجال يزهدون في هذه السنة الثابتة؟.

إن في الانقطاع عن الدنيا لذة وراحة، وفي الخلوة برب العالمين أنس وطمأنينة يحس بهما من انقطع في معتكفه مخلصاً لربه، وما أحوج النفوس لترويضها على الخير، وتربيتها على البرِّ والتقوى! وما أحوج الأمة إلى دعوات مخلصة يعلمُ الله صدق الداعين بها، فيبلغ بها عنان السماء، ويستجيبُ لأصحابها!.

كم فينا من أدواء! وكم في أمتنا من جرح يثعب دماً! وسل أرض البوسنة والشيشان، وطوّف بكشمير وبورما وبلاد الأفغان، وفي القرن الأفريقي أحداث ومآسٍ تترا، وطغيان الصهاينة المعتدين في أرض الإسراء ليس يخفى.

أيها المسلمون: ليس يُجدي التلاوم شيئاً، ولن يغير الله ما بنا حتى نغير ما بأنفسنا، ومصيبة عظمى أن يستسلم المسلمون لواقعهم ويستشعروا إلى الأبد هزيمة الأعداء، أو يصابوا بالإحباط، فيظنوا فوات الفرص كلها، وقد وعد الله باليسر بعد العسرى، ومن يتق الله يجعل الله مخرجاً.

فهل يستثمر المسلمون هذه الأيام والليالي الفاضلة باستصلاح أحوالهم والتضرع لخالقهم؟ أم ترانا ننوح على أمتنا ونحن جزءٌ من هذا الواقع المتردي؟.

اللهم أصلح أحوالنا، واجمع شمل أمتنا، واكفنا شرَّ أعدائنا.

هذا وصلوا وسلموا على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي