ونحن نعيش هذا الواقع الأليم، وما فيه من انفتاح وتنوع في وسائل الإعلام، ثم ما يقوم به هذا الإعلام من دورٍ في توجيه الأمة وحشد عواطفها تجاه حدث معين، أو تهوين حدث آخر، فأصبحنا وأمسينا نسمع الأخبار، ثم التحاليل الإخبارية، وننقلها دون تمحيص، وننسى أثناء النقل أن الله هو المدبر، وبيده الخير، ويصرف الأمور بعلمه وحكمته، وأنه ..
الحمد لله ذي العزة والجبروت، خلَق الخلق ولم يتركهم هملا، فأرسل إليهم الرسل، وأنزل عليهم الكتُب، منهم من اهتدى فحاز الدرجات العلا، ومن هم كفر وجحد وتجبر فإلى شَرِّ المنتهى.
والصلاة والسلام على النبي المجتبي، وآله وأصحابه النجباء، وسلم تسليما كثيراً.
أما بعد: فقد قال المولى -جل وعلا-: (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) [البقرة:281].
أيها الإخوة: وتكثر الخطوب في الأمة، وتتداعى عليها الأمم، وتتصدر أخبارها نشرات الأخبار، وصفحات الجرائد العالمية، وتعقد من أجلها المؤتمرات، وتحاك ضدها المؤامرات.
يموج عالمنا العربي والإسلامي بأحداثٍ عظام، قامت دول وسقطت أخرى، وعز أقوام وذل آخرون، قتلٌ وتشريد، وتفجير وتخريب، قصف وخطف، تعذيب وتنكيل، وانتهاك للحرمات في بعض البلدان، ولهو وضلال.
وفي ظل تلك الأحوال نجد هداية واستقامة من فئام من الناس، وكفراً وضلالاً وغواية من آخَرين، وهكذا يقلّب الله الأحوال، وإليه المرجع والمآل، (مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى...) [الإسراء:15].
والمصائب تتكاثر، والجراح تُثخِن جسد هذه الأمة العليل؛ ولكن! (وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) [يوسف:21] أي: إن أمره تعالى نافذ، لا يُبطله مُبطِل، ولا يغلبه مغالب.
وَلا بُدَّ للَّيْلِ أنْ ينْجَلِي *** ولا بدَّ للقيدِ أنْ ينكسرْ
أيها الأحبة: ونحن في هذه الحال العصيبة، والخطوب المدلهمة الرهيبة، لا بد للمسلم من علم ببعض الحقائق، وهذه بعض التوجيهات والوصايا ليستنير ويستعين بها على هذه الأزمات التي يراها تحل بأمته ولا يجد لظاهرها حلاً، ولا لعسيرها جواباً.
حقّ علينا أن نرجع للنبع الصافي، والكتاب الكافي، والقول النبوي الشافي، يقول -تعالى-: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا) [النساء:59]، ويقول -صلى الله عليه وسلم-: "عليكم بسُنَّتي، وسُنَّة الخُلَفاءِ الراشدين من بعدي".
وأول من يجب أن نعتقد ونوصي به أن نعلم علم اليقين أن الله -سبحانه وتعالى- هو المدبر والمصرف لهذا الكون، وما يقع شيء فيه إلا بتقديره وعلمه، فهو الرب الخالق المدبِّر، المالك المتصرف، يقول الشيخ السعدي: وهو اللطيف الخبير، الذي أحاط علمه بالأسرار والبواطن، والخبايا والخفايا، ومكنونات الصدور، ومغيبات الأمور، وما لطف ودقّ من كل شيء.
ويقول: ومِن لُطف الله تعالى بعبده ووليه الذي يريد أن يُتمَّ عليه إحسانه، ويشملَه بكرمه، ويرقيه إلى المنازل العالية، أن يُيَسِّره لليسرى، ويجنبه العسرى، ويجري عليه من أصناف المحن التي يكرهها وتشق عليه، وهي عين صلاحه، والطريق إلى سعادته، كما امتحن الأنبياء بأذى قومهم، وبالجهاد في سبيله، فهو يمتحن أولياءه بما يكرهون؛ ليُنِيلَهم ما يحبون.
فسبحانك ربي! ما أعلمك! وما ألطفك! أفِض علينا اللهم من لطفك وجودك وكرمك، فنحن عبيدك الضعفاء، لا حول ولا قوة لنا إلا بك.
ومن الحقائق المهمة أن نعلم أن في اعتِلاءِ حُكَّامٍ فِيمَا مَضَى، ثم انخفاضهم بقتلٍ أو هروبٍ أو سجنٍ أكبر عبرة وأعظم دليل على أن مُلْكَ هذه الدنيا قصيرٌ وإن طال، حقيرٌ وإن تعاظم، قليلٌ وإن كثر، وما دونه من وزارات وولايات وإدارات وغيرها من باب أولى.
واعلم -يا عبد الله- أن المالك المتصرف يقول: (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ المُلكِ تُؤتي المُلكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ المُلكَ مِمَّن تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ بِيَدِكَ الخَيرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ * تُولِجُ اللَّيلَ في النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ في اللَّيلِ وَتُخرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ وَتُخرِجُ المَيِّتَ مِنَ الحَيِّ وَتَرزُقُ مَن تَشَاءُ بِغَيرِ حِسَابٍ) [آل عمران:26- 27].
وأنه يقول: (إِنَّ الأَرضَ للهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِن عِبَادِهِ وَالعَاقِبَةُ لِلمُتَّقِينَ) [الأعراف:128] وأنه يقول: (وَلَقَد كَتَبنَا في الزَّبُورِ مِن بَعدِ الذِّكرِ أَنَّ الأَرضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ * إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ) [الأنبياء:105-106].
هَذَا شَأنُ اللهِ في خَلقِهِ، وَذَلِكُم تَدبِيرُهُ في مُلكِهِ، لا رَادَّ لما قَضَى، وَلا مَانِعَ لما أَعطَى، وَلا مُعطِيَ لما مَنَعَ، وَلا رَافِعَ لما خَفَضَ، وَلا خَافِضَ لما رَفَعَ، فَهَنِيئًا لِمَن أَطَالَ الفِكرَةَ فَأَخَذَ العِبرَةَ، وَأَدَامَ النَّظَرَ فَاعتَبَرَ! وَيَا لَخَسَارَةِ مَنِ اغتَرَّ وَافتُتِنَ، فَبَاعَ بَاقِيًا بِفَانٍ!.
أيها الإخوة: أما الحقيقة والوصية الثالثة فهي معلومة لدينا جميعاً، ولست بحاجة لأبرهن عليها بدليل؛ لعلمنا جميعاً بها، لكننا نغفل عنها كثيراً.
ولعل في هذا الموقف الذي يرويه الشيخ علي الطنطاوي -رحمه الله- حافزاً لما أردتّ، يقول الشيخ: كنت قاضيا في الشام، وحدث أنْ كُنا مجموعةً، أي: من الأصحاب، نمضي المساء عند أحد الأصدقاء؛ فشعرت بضيق نفَس واختناق شديد، فاستأذنت أصدقائي للرحيل، فأصروا أن أُتم السهرة معهم، ولكني لم أستطع، وقلت لهم: أريد أن أتمشى لأستنشق هواءً نقيا.
قال: خرجتُ منهم ماشيا وحدي في الظلام، وبينما أنا كذلك إذ سمعت نحيباً وابتهالاً آتٍ من خلفِ التلة! نظرت فوجدت امرأةً يبدو عليها مظاهر البؤس، كانت تبكي بحرقة وتدعو الله! اقتربت منها وقلت لها: ما الذي يبكيك يا أختي؟ قالت: إن زوجي رجل قاس وظالم طردني من البيت، وأخذ أبنائي، وأقسم أن لا أراهم يوماً، وأنا ليس لي أحد ولا مكان أذهب له. فقلت لها: ولماذا لا ترفعين أمرك للقاضي؟ بكت كثيراً وقالت: كيف لامرأة مثلي أن تصل للقاضي؟!.
يكمل الشيخ وهو يبكي، يقول: المرأة تقول هذا وهي لا تعلم أن الله قد جَرَّ القاضي (يقصد نفسه) من رقبته ليحضره إليها! سبحان مَن أمره بالخروج في ظلمة الليل ليقف أمامها بقدميه، ويسألها هو بنفسه عن حاجتها! أي دعاء دعته تلك المرأة المسكينة ليستجاب لها بهذه السرعة، وبهذه الطريقة؟!.
أيها الأحبة: ونحن نعيش هذه الأيام العصيبة من تاريخ أمتنا حق علينا أن نداوم على الدعاء، ونواصل التضرع، ولا نستعجل الإجابة، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-، عَنْ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: "لَا يَزَالُ يُسْتَجَابُ لِلْعَبْدِ مَا لَمْ يَدْعُ بِإِثْمٍ أَوْ قَطِيعَةِ رَحِمٍ مَا لَمْ يَسْتَعْجِلْ". قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا الِاسْتِعْجَالُ؟ قَالَ: "يَقُولُ: قَدْ دَعَوْتُ وَقَدْ دَعَوْتُ فَلَمْ أَرَ يَسْتَجِيبُ لِي، فَيَسْتَحْسِرُ عِنْدَ ذَلِكَ، وَيَدَعُ الدُّعَاءَ" رواه مسلم.
قال النووي -رحمه الله-: قال أهل اللغة: يقال حَسَر واستحسر إذا أعيا وانقطع عن الشيء، والمراد هنا أنه ينقطع عن الدعاء، ومنه قوله -تعالى-: (لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ) [الأنبياء:19]، أي: لا ينقطعون عنها، ففيه أنه ينبغي إدامة الدعاء، ولا يستبطئ الإجابة فيستحسر، أي: ينقطع عن الدعاء. اه.
إننا بحاجة ماسة إلى الدعاء، دعاء الله -تعالى- بأسمائه الحسنى، وصفاته العُلَى، بأن يصلح أحوال المسلمين، ويهلك الظالمين.
وليس الدعاء ممن يظن فيهم الصلاح فقط؛ بل طلب الدعاء عام للجميع، يقول الشيخ السعدي -رحمه الله- وهو يبين معنى اسم الله الجواد: الجواد: يعني أنه تعالى الجواد المطلق الذي عم بجوده جميع الكائنات، وملأها من فضله، وكرمه، ونعمه المتنوعة، وخص بجوده السائلين بلسان المقال أو لسال الحال، مِن بَرٍّ وفاجِر، ومسلم وكافر، فمن سأل الله أعطاه سؤاله، وأناله ما طلب، فإنه البر الرحيم: (وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ) [النحل:53].
ويقول -رحمه الله-: والجواد الذي عم بجوده أهل السماء والأرض، فما بالعباد من نعمة فمنه، وهو الذي إذا مسّهم الضر فإليه يرجعون، وبه يتضرعون، فلا يخلو مخلوق من إحسانه طرفة عين، ولكن يتفاوت العباد في إفاضة الجود عليهم بحسب ما منَّ الله به عليهم من الأسباب المقتضية لجوده، وكرمه.
أسأل الله بجوده وكرمه أن يمن علينا بشكره، وحسن عبادته، وأن يرزقنا حسن التضرع له، إنه جواد كريم.
الوصية الرابعة: ونحن نعيش هذا الواقع الأليم، وما فيه من انفتاح وتنوع في وسائل الإعلام، ثم ما يقوم به هذا الإعلام من دورٍ في توجيه الأمة وحشد عواطفها تجاه حدث معين، أو تهوين حدث آخر، فأصبحنا وأمسينا نسمع الأخبار، ثم التحاليل الإخبارية، وننقلها دون تمحيص، وننسى أثناء النقل أن الله هو المدبر، وبيده الخير، ويصرف الأمور بعلمه وحكمته، وأنه لا معطيَ لما منع، ولا مانعَ لما أعطى.
ونخرج كثيراً من مجالسنا بهَمٍّ وغَمٍّ، فأين نحن من الله؟ الله! الرب المالك الملك، المتصرف، الوهّاب، القابض، الباسط!.
وصيتي لنا جميعاً: أنا لا أقلل من رأي أحد، ولا من فكره، لكن يجب أن نحسّن الظن بربنا، ونأمل الخير منه، وندعوه، ونلح عليه بالدعاء، قال الله -تعالى-: (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) [القصص:68].
قال الشيخ السعدي -رحمه الله-: فيها عموم خَلقه لسائر المخلوقات، ونفوذ مشيئته بجميع البريات، وانفراده باختيار من يختاره ويختصه، من الأشخاص، والأوامر، والأزمان، والأماكن، وأن أحدا ليس له من الأمر والاختيار شيء. اه.
فطيبوا نفساً! وألِحُّوا بالدعاء وعمل الأسباب الشرعية للنصر والتمكين، ومن أهمها إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، يقول الله -تعالى-: (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ) [الحج:41].
ثم صلُّوا وسلموا على خير البرية، ومعلم البشرية، فقد قال: "فَإِنَّهُ مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا" رواه مسلم.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي