إن الله تعالى يمنح الإنسان في هذه الحياة فرص عديدة لمراجعة النفس والتوبة والخضوع للحق، فإذا طال الأمد ولم يراجع ولم يخضع ولم يتب، فإن من سنته سبحانه وتعالى التي خلقها وقدرها في طبيعة القلب أن القلب إذا تُرك دون تزكية مع طول الأمد يقسو على الباطل، يعني كأنما يتكيف على الباطل، وإذا قسا القلب على الباطل صعب عليه التوبة، وصعب على التوبة واستصعب ..
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وسلم.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
إكمالاً لموضوع الأسبوع الماضي حول أسباب انحراف المسلم الذي نشأ في بلاد يغلب عليها المنهج المحافظ والعادات المحافظة.. ولا أقصد بالانحراف مجرد ارتكاب المعاصي هنا وهناك، فكل ابن آدم خطاء، والإنسان ما دام خائفا من معصيته مبغضًا لتلك المعصية نادمًا عليها وفي قلبه خوف من ربه بالرغم من معصيته ويسعى جادًّا للتوبة وطاعاته أكثر من معاصيه فيُرجى له الخير.. يغلب عليه الطاعة عن المعصية وعنده تلك المشاعر يرجى له الخير..
فليس كل عاصٍ منحرفًا، وإنما أقصد بالمنحرف هو ذاك الذي ربما صلى وصام ولكنه يتمادى في الباطل وينافح عن الرذيلة ويتبجح ويستكبر، وقد يتجرأ على السخرية بأهل الخير والدعاة والعلماء ويعلن انتقاده لأخلاق العفة يعلنها، ويقف للدعاة في المرصاد.
ولذلك كان الذي دفعني إلى طرح هذا النوع من الانحراف مقالات متتالية لصحيفة محلية لكاتب محلي أحسب أنه عاش ونشأ في بيئة طيبة محافظة، ومع ذلك كان يسخر في مقالاته من بعض الأحكام الشرعية والمظاهر المحافظة، وهذا بلا شك ضرب من الانحراف.
معاشر الإخوة: إن القلب هو موطن الخير والشر، وبالتالي هو الذي يحرك الإنسان إما إلى الخير أو إلى الشر، وكل إنسان مسئول عن قلبه وعن طهارته عن نقائه، والفرق بين إنسان وآخر تجاه تحمله إصلاح قلبه هو العلم وقيام الحجة.
الذي يعلم أن إهمال قلبه يؤدي إلى الزيغ والضلال والانحراف يعلم ذلك ثم يهمل قلبه فإنه يتحمل مسئولية إهمال قلبه، وقد حكم بالهلاك على نفسه في نفسه وهذه العلاقة العجيبة بين الإنسان ونفسه واضحة في القرآن، يقول سبحانه: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) [الشمس: 7- 10]، هو بنفسه زكى نفسه وطهرها بأن أقبل بها على الطاعات وجنّبها المعاصي فأفلح، أو هو بنفسه دساها وأهملها بأن تمادى بتعريضها للفتن حتى جعلها تستمرئ المعاصي وتستثقل الطاعات فخسر وخاب.. علاقة غريبة بين الإنسان ونفسه. إذاً فتزكية النفس بالطاعة أو منعها من الطاعة تحدد مصير الإنسان إما إلى الفلاح (قَدْ أَفْلَحَ) وإما إلى الخيبة (وَقَدْ خَابَ).
ومعنى تزكية النفس أي تهذيبها وزيادة الإيمان فيها بالعمل الصالح وبذلك يشرق القلب ويستقيم على الهدى -نسأل الله من فضله - والاستقامة وإن كانت هينة يسيرة في نهايتها إلا إنها عسيرة في بدايتها، ولا يمكن أن تتحقق إلا بقسر النفس على الطاعة قسرًا، وهذا هو الفرق بين الإنسان الحر المكلف وسائر المخلوقات المسيرة التي جُبلت على تسبيح الله وحمده جبلة (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا) [الإسراء: 44].
الإنسان كرمه الله على سائر المخلوقات الأرضية بالعقل والإرادة إن شاء سبّح الله وحمده وإن شاء أعرض عنه واستكبر، والنفس ميالة إلى الكسل وميالة إلى التحرر من كل قيد يمنعها من شهوتها ولو كان قيد الشريعة، ولو كان أمر الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، وهنا يقع الابتلاء، فلابد من ردع النفس ونهيها عن الهوى وترويضها على التزام طاعة الله عمليًّا حتى تنجو من الانحراف وتوقى من العناد والكبر.. لابد ثم لابد إنها مسئولية العبد.
ولذلك أتبع القرآن التزكية بالعمل مباشرة؛ لأن التزكية لا تتحقق إلا بالعمل فقال سبحانه (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى) [الأعلى: 14- 15] مباشرة.. تريد أن تزكي نفسك؟ لا تتمنى فتقعد على ما أنت عليه وتقول يا رب اهدني !! بل قم واذكر الله، اذكر ربك وصلي (وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى) فإنه لا يمكن أن تتحقق التزكية إلا بالعمل.
يا أحبتي: تزكية النفس ضرورة للنجاة من الانحراف، فالنفس ما لم تتطهر وتتزكى فلن تذعن للحق، بل قد تمرض ثم تموت ثم لا تتعرف على الحق أصلاً، ولذلك كانت تزكية النفوس مهمة الأنبياء عليهم السلام.. (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ) [الجمعة: 2] يزكيهم بتلك الآيات، ودعا أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام ربه من قبل (رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [البقرة: 129].
بل إن خبث النفس وسوادها كان علة فرعون وإلا لما علا في الأرض ولما استكبر ولهذا كانت وصية الله تعالى لنبيه موسى عليه السلام أن يدعوه أول ما يلقاه إلى تزكية نفسه (اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى) [النازعات: 17- 18] لن تتعرف على الحق إلا إذا زكيت نفسك.
أيها الإخوة: يظل القلم مرفوعا عن الإنسان حتى يصل إلى سن التكليف أي سن البلوغ عندها تُكتب حسنات الإنسان وسيئاته، وما لم يتابع ذلك الإنسان في صغره دينيا وأخلاقيا من قبل بيئته التربوية من أبوين ومدرسة وأصدقاء ووسائل إعلام وغيرها من المؤثرات العامة قبل وصوله إلى تلك السن سن التكليف فهو معرض للانحراف.
فهذا الذي يطلع علينا بمقالاته المتهكمة الساخرة من كل متدين أو من بعض الفتاوى أو من بعض المظاهر المحافظة، هو وكثير من أمثاله عندما يفعلون ذلك وهم أصلاً من أبناء بيئة متدينة محافظة فلابد أن تدرس حالتهم وينظر في صيغتهم، تحلل نفسياتهم فإنك لو دققت النظر فإنك حتما ستجد هنالك من خلال تلك الدراسة في صغر أحدهم أو شبابه سببًا أدى إلى زيغه..
إهمال الأبوين مثلا، سفر طويل إلى بلاد بعيدة تفرد فيها به الشيطان وأعوانه، أصحاب سوء، سفر متكرر هنا وهناك، إدمان على الأفلام السيئة.. وأضف إلى ذلك في زماننا المعاصر مطالعاته ومرسلاته في الإنترنت وتعرفه على مواقع ضارة غير نافعة..
لكن مهما وجدنا من أسباب ما دام قد جرى عليه القلم وقامت عليه الحجة وهي قائمة عليه قطعا في مثل بيئتنا فهو مسئول عن تصرفاته ومسئول عن إصلاح قلبه، ولذلك جاء في الآية عن الظالمين قوله تعالى (وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ) فجاء الرد (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ) [فاطر: 37].
فالإنسان في بيئتنا لابد أن يعلم من منذ صغره بأن لا يأمن على نفسه من الفتن وأنه معرض للابتلاء، وأنه لن يعذر إذا انحرف؛ لأنه كان قادرا على جهاد نفسه حتى تستقيم على الهدى.
ولذلك قال حذيفة رضي الله عنه: "كان الناس يسألون النبي صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنت أسأله عن الشر؛ مخافة أن يدركني" تألموا في قوله: "وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني" فحذيفة رضي الله عنه على جلالة قدره يخاف على نفسه من الشر أن يدركه، ولذلك كان يسأل عن الشر حتى يحذر منه ويمتنع عنه؛ لأنه يعرف أنه مسئول عن صلاح نفسه واستقامتها، ولا عذر له إن زاغت..
كيف لا وهو يقرأ قوله تعالى: (بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ) [القيامة: 14- 15] بل كان يوسف الصديق عليه السلام وهو نبي الله لا يأمن على نفسه الافتتان ويدعو ربه في شأن من راودنه قائلاً: (وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ) [يوسف: 33].
معاشر الإخوة: إن الله تعالى يمنح الإنسان في هذه الحياة فرص عديدة لمراجعة النفس والتوبة والخضوع للحق، فإذا طال الأمد ولم يراجع ولم يخضع ولم يتب، فإن من سنته سبحانه وتعالى التي خلقها وقدرها في طبيعة القلب أن القلب إذا تُرك دون تزكية مع طول الأمد يقسو على الباطل، يعني كأنما يتكيف على الباطل، وإذا قسا القلب على الباطل صعب عليه التوبة وصعب على التوبة واستصعب.
ولذلك قال تعالى (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ) [الحديد: 16]، تشبيه مخيف لطباع اليهود، اليهود أهملوا قلوبهم حتى طال عليهم الأمد وهم في معاصيهم وغفلتهم وظلمهم فقست قلوبهم على تلك الفتن والشهوات وشربت الكبر، فأنى لها بعد قسوتها أن تستجيب!! ولذلك ذم الله قلوبهم لما أهملوها بقوله تعالى: (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) [البقرة: 74].
إن الله تعالى من خلال هذه الآيات يحذر عباده المؤمنين ويعلنهم بأنه لا أمان لهم من مرض قسوة القلب إذا أهملوا قلوبهم ولم يلينوه بالذكر وسماع القرآن والانقياد له (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ) [الحديد: 16].
أما آن الأوان للنفس أن تلين للحق، أن تلين لقول الله ولرسوله، أما آن لها أن تطرح الغرور وتطرح اعتدادها بعلمها البليد الذي لا ينفع، فإنها إن لم تفعل ذلك طال عليها الأمد، قسا القلب على كبر، وإذا قسا القلب على الكبر أصبح من العسير انصياعه للحق مهما كان الحق واضحًا أمامه، يعني يرى الحق ولكن لا يستجيب سبحان الله !! لماذا ؟
لأن للكبر يا إخوة سلطانا قويا طاغيا على القلب يمنعه من الاستجابة، الكبر له سلطان على القلب، ولأن الكبر يصور للإنسان أن في الاستجابة للحق ضعفا ودنية وخورا، ولذلك فإن الكبر يعمي البصيرة، فلا يرى الإنسان السداد والحق إلا في هواه كما في صحيح مسلم من حديث حذيفة رضي الله عنه "تُعرض الفتن على القلوب كالحصير عودا عودا، فأي قلب أنكرها نُكت فيه نكتة بيضاء حتى تصير على قلبين أبيض مثل الصفا " مثل الحجر الأملس الذي لا يعلق فيه شيء "لا تضره فته ما دامت السماوات والأرض" نسأل الله من فضله.
والآخر أسود " مرباداً كالكوز مجخياً لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً إلا ما أُشرب هواه" يصبح القلب كالكأس المقلوب هل يدخل فيه شيء ؟ أبدًا، فهذا كالقلب المفتون لا تستطيع أبدًا أن تُدخل الإيمان في قلبه لأنه مقفول عن الحق تمامًا كما قال تعالى (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) [محمد: 24].
وكما قال جل وعلا (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ) [البقرة: 18] وكما قال تعالى: (خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ) [البقرة: 7] هذه هي طبيعة القلب خلقه الله هكذا إذا أُشرب القلب الفتن تباعًا فتنة وراء فتنة دون أن يراجع صاحبه أو يتراجع استصعب على صاحبه الرجوع إلى الحق؛ لأنه مع طول الأمل لا يرى السداد والحق أصلاً إلا في هواه كما قال تعالى (وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ) [الأعراف: 30] وكما قال تعالى أيضًا: (الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا) [الكهف: 104] وهو مرض خطير جدا، نسأل الله العافية.
لكن الإنسان هو الذي يجني على نفسه فبعد إمهاله وإيصال البيان إليه مرارا وتكرارا فلم يستجب تكيف قلبه على الصدود وعُوقب على صدوده وكبره بأن زين له سوء عمله كما قال تعالى (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآَهُ حَسَنًا) [فاطر: 8].
هكذا أورث الغفلة فلا يرى ما هو فيه من خطر، أسأل الله تعالى أن يحفظنا من قسوة القلب، وأن يعيننا على مراجعة الإيمان في قلوبنا وأن يرزقنا الخشوع والخضوع لأمره، وأستغفر الله لي ولكم؛ إنه غفور رحيم.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن والاه.
أما بعد: فإن من أسباب الانحراف الفرح بالعلم أي الافتخار والغرور لما يظن أنه مغنيه عن التلقي عن الغير، يغتر بالشهادة الأكاديمية، أو المكانة الثقافية، أو العقل والفكر عامة.. فيتضخم في نفسه اعتداده برأيه بحيث يخوض حتى فيما لا علم له..
إذ إنه يفقه في كل شيء فيستصغر بعض الفتاوى الشرعية فلا يقبل منها إلا ما وافق ذوقه وينتقد هذا وذاك بكلام بصلف يحيطه الجهل ويغتر بعقله، يقول سبحانه (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآَثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ) اغتروا بعلمهم (وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ) [غافر: 82- 83].
قال المفسرون: "أي جادلوا الرسول وكابروا الأدلة " وقال مجاهد "قالوا لرسلهم نحن أعلم منكم لم نبعث ولن نعذب ".
هذا الذي يرفض حكم وجوب مصاحبة المحرم للمرأة في السفر، بل يصرح بالمطالبة بإلغاء المحرم بالكلية، وذاك الذي يقول برفضنا الأرعن لأي فكر طارئ نعيش خارج منظومة العصر، والآخر الذي يسخر بمقاله والسابق ذكره "سالفة ملتقى الحشمة بحائل" يسخر من الفكرة والمسمى، والآخر الذي يعترض على قاعدة سد الذرائع، ولا يرى بأسًا باختلاط النساء بالرجال في بيئة العمل ويستصغر آراء العلماء !!
هؤلاء وأمثاله فيهم نوع من الانحراف المنهجي عن طبيعة مجتمعنا، ولو ناقشت أحدهم وجئت له بحشد من الأدلة الشرعية لما أذعن ولا قبل ولا واجهك بالمنطق والفلسفة.. فهذا من الغرور والفرح بالعلم وهو في حقيقته كبر وغرور بالجهل.
قال الإمام ابن الجوزي وتأملوا هذا الكلام: "من اقتصر على ما يعلم فظنه كافيا استبد برأيه، وصار تعظيمه لنفسه مانعًا له من الاستفادة، ولو أنه أصغى إلى العلماء وترك تعظيم نفسه لبان له الصواب، غير أن اقتصار الرجل على علمه إذا ما مازجه نوع رؤية للنفس حبس عن إدراك الصواب" نعوذ بالله من ذلك.
أسأل الله تعالى أن يلهمنا الصواب وأن يشرح صدورنا للحق وأن يقينا شر الزيغ بعد الهدى..
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي