أثر رمضان في تغيير الإنسان

عمر القزابري
عناصر الخطبة
  1. اغتنام رمضان في الأعمال الصالحة .
  2. فضائل شهر رمضان .
  3. أحوال السعداء وأحوال الأشقياء في رمضان .
  4. أهمية الاعتبار بأحداث الزمان .
  5. رمضان شهر التغيير والإصلاح الحقيقي .
  6. الاتعاظ بأيام الله في الكون والحياة .
  7. جو رمضان مع أحداث الربيع العربي .
  8. كيفية الاستفادة المثلى من شهر الصيام .
  9. مقام المجاهدة حقوق وواجبات .
  10. صور التقاء الصوم بالجهاد .

اقتباس

إنكم في أيام عظيمة وفي أزمنة كريمة تُضاعف فيها الأعمال وتُستجاب فيها الدعوات، وتُبارك فيها الحسنات، تُفتح فيها أبواب الجنان وتُغلق أبواب النيران وتضعُف دواعي الشر ويُنادى فيها يا باغي الخير أقبل ويا باغي الشر أقصر.. فالموفق السعيد من عرف لهذه الأيام قدرها فاستغل اللحظات وأكثر من الحسنات وشغل جوارحه فيما يرضي رب البريات، فغير عارف بربه ذاك الذي ..

الحمد لله المتفرد باسمه الأسمى، والمختص بالملك الأعز الأحمى، الذي ليس من دونه منتهى ولا ورائه مرمى، الظاهر لا تخيلاً ووهمًا، الباطن تقدسًا لا عدمًا.. وسع كل شيء رحمة وعلمًا، وأسبغ على أوليائه نعما عُما، وبعث فيهم رسولاً من أن أنفسهم عربًا وعجمًا، وأذكاهم محتدًا ومنما، وأشدهم بهم رأفة ورحمة حاشاه ربه عيبًا ووصمًا وذكاه روحًا وجسمًا وآتاه حكمة وحكمًا، فآمن به وصدقه من جعل الله له في مغنم السعادة قسمًا، وكذّب به وصدف عنه من كتب الله عليه الشقاء حتمًا، ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى.. صلى الله عليه صلاة تنمو وتنمى وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا..

معاشر الصالحين: لقد فتح لكم ربكم أبواب رحمته، وجاد عليكم بأن مكنكم من إدراك شهر الصيام والقيام هيّأ لكم الأسباب وفتح الباب لمن أراد الاقتراب .. فاللهم لك الحمد على فضلك وإحسانك وكرمك ونوالك ..

عباد الله: إنكم في أيام عظيمة وفي أزمنة كريمة تُضاعف فيها الأعمال وتُستجاب فيها الدعوات، وتُبارك فيها الحسنات، تُفتح فيها أبواب الجنان وتُغلق أبواب النيران وتضعُف دواعي الشر ويُنادى فيها يا باغي الخير أقبل ويا باغي الشر أقصر.

فالموفق السعيد من عرف لهذه الأيام قدرها فاستغل اللحظات وأكثر من الحسنات وشغل جوارحه فيما يرضي رب البريات، فغير عارف بربه ذاك الذي يأتي عليه رمضان فلا تتغير أحواله ولا تستقيم أموره، غير عارف بربه ذاك الذي لا يرى من رمضان إلا انقطاعًا عن الأكل والشرب ولا ينقطع عن فساده وعناده وغيبته وعدوانه.

أيها الأحباب: يأتي رمضان هذا العام مختلفا عما سبق، يأتي بعد أن شهدت الأمة ولا تزال أحداثا عظيما وتقلبات عجيبة وأمورا كانت إلى الأمس القريب أشبه بالخيال وكل هذه الأحداث التي حصلت والتي لا تزال تحصل لها عنوان واحد بارز (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) [الأنعام: 57].

هذا المعنى هو الذي ينبغي أن يترسخ في قلوب المنتسبين ويتمكن من فكرهم ووجدانهم فالمؤمن الحق هو الذي يستفيد من الأحداث وتنعكس عليه إيجابا، فيرتقي بعد ذلة، ويعرف بعد جهل..

أما الذي لا يتفاعل مع الأحداث ولا يعتبر منها، ولا يفهم مضمون رسائلها، فهذا معطل الفهم رفيق الوهم قد انقطعت به الأسباب فلا هو من أصحاب البصائر ولا هو من أولي الألباب، يقول ربنا منكر على أمثال هؤلاء (أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ) [التوبة: 126]، تتغير الأحوال والأحداث من حولهم وهم لا يتغيرون ولا يحدثون توبة ولا تعرف لهم أوبة ..

إذاً يأتي رمضان هذا العام مختلفا عما سبق مثقلا بهذه الحمولة من المتغيرات والمتحولات فما هو موقف المسلم إزائها؟ وكيف يستثمر الصائم فرصة رمضان ليحدث ثورة في نفسه، ثورة على شهوته ونزوته، ثروة على مكامن الضعف فيه، ثروة على كل ما يجره إلى التراب ويدفعه إلى التباب .. وهذه هي الثروة الحقيقة التي تبني ولا تهدم وترقي ولا تشقي.

إن رمضان في حقيقته -أيها الأحباب- ثورة عظيمة، ثورة ضد الشهوات، ثورة ضد العادات، فهو فرصة سانحة لكل من أراد أن يذكر أو يحدث تغييرا ..

وهذا التغيير المطلوب بمقتضي ثورية رمضان هو التوبة إلى الله والرجوع إلى الله وتلكم والله أعظم ثورة يحدثها العبد في حياته يوم أن يثور ضد نوازع الشر فيه، يوم أن يثور ضد وساوس الشيطان ونزغاته، يوم أن يتخلص من القيود المعوقة التي تعوق سيره إلى الله ..

لكل من أراد ذلك ها هي الفرصة قد أتت وقد لا تعود فالتزم أمر ربك وإلى المعاصي فلا تعود، وبادر قبل أن تُبَادر، وافعل ما تؤمر قبل أن تموت وتقبر، واستغل قبل أن تنتقل .

ورمضاننا هذا كما أسلفت يأتي هذا العام بطعم خاص، يأتي وقد تقدمته أحداث وأمور تأكد بما لا يدع مجال للشك أو الريبة بأن العزة للدين والخسار والبوار والذلة للمعاندين المكابرين، أحداث تأكد بأن الدنيا دار خداع، دار غرور لا تستقر على حال، أحداث تؤكد بأن عين الله لا تغفل أبدا وأن الله وإن أمهل فما أهمل (وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ) [المؤمنون: 17]، فكم ممن كان بالأمس القريب له شأن وأي شأن فأصبح بين عشية وضحى الذليل المهان فسبحان من (يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) [الرحمن: 29].

إن من نعم الله عليك أيها العبد أن ترى مَثُلات الله ماثلة أمامك وما أجلها من موعظة حينما يجتمع المذكور في القرآن مع المنظور للعيان، عندما يتحد المتلو مع المجلو تكون العبارة أعمق والفائدة أصدق والتوبة أوفق .

إذاً في ظل هذه المتغيرات وهذا العالم الذي يتغير من حولك هل فكرت أن تتغير؟ هل فكرت أن تتوب؟ أما أرهقتك الذنوب .. أما ألمتك العيوب .. أما رفعت لافتة ضد نفسك مكتوب عليها كفى .. كفى إعراضا .. كفى صدودا .. كفى عنادا.. كفى جحودا (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ ..) [الحديد: 16].

أما آن لعبدة القبور أن يعلموا أن تجارتهم ستبور، أما آن لقاصد السحرة والكهان أن يتعلقوا بالعزيز الرحمن، أما آن للمتهاونين في صلاة الجماعة أنهم أضاعوا أربح البضاعة، أما آن للذين أضاعوا الصلوات وولوا وجوههم قبل القنوات أن يستغلوا الأعمار قبل الفوات، أما آن لأصحاب الغش والتدليس أن يتخلصوا من تلبيس إبليس ..

أما آن لبائع الخمور أن يتذكروا يوم البعث والنشور يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماء تمور، أما آن لعُبّاد المال من حرام وحلال أن يرجعوا إلى الكبير المتعال، أما آن لمن يحمل لسانًا كالمقراض يقتحم به الأستار وينتهك الأعراض أن يكفّ عن الناس شره، ويريهم خيره وبره ...

اللسان.. اللسان عباد الله .. اللسان هو ترجمانك وهو العنوان فإما أن يرضيك وإما أن يرديك، إما أن يعليك وإما أن يرميك، فصومك أيها المؤمن من أعظم الآليات التي تمكنك من الانتصار على لسانك وكبح جماحه ..

ولكن أي صوم هذا الذي يمكنك من هذا؟ أي صوم أيها الإنسان الذي يمكنك من لجم اللسان؟ إنه صيام الأرواح لا صيام الأشباح، صيام المعنى لا صيام المبنى ..

إنها لخسارة كبرى أن تظل جائعًا عطشانًا حتى إذا جاء وقت فطورك لم يكتب في صحيفتك أجر صيامك؛ لأنك ضيعت المعنى ووقفت عند المبنى، وقفت على الحروف، والحروف قد تقود إلى الحتوف إذا خلت من سر التعلق وشرط الانتساب.

ألم يقل سيد العارفين وإمام المتقين سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه"، من لم يدع قول الزور كذبا وغيبة ونميمة واتهاما وقدحا وسبًّا وفجورا في القول وطغيانا في الفعل فقد أضاع سر صيامه وحرم الثواب وفقد سر التزكية .

إن رمضان أيها الأحباب من أعظم الأسباب التي تمنعك لقاح الاحتماء وحقن الإنماء وتمكنك من قيادة نفسك من موقع الاقتدار دون منازعة من كبار أو صغار .

إن رمضان أيها الكرام هو شهر الروح بامتياز شهر يغني بالروح ويمدها بكل الروافد التي تنميها وتثقلها، لذالكم تقل فيه وجبات الجسد في حين تكثر وجبات الروح تظل صائمًا مستعليا على رغبات جسدك لتقبل ليلاً على مأدبة ربك لتعيش مع القرآن مع آياته وبيناته وذلك أعظم غذاء للروح .

ويتكرر ذلك معك شهرا كاملا وللتكرار اعتبار، ومن ثم استحق هذا الشهر أن ينسب إلى الله فيقال شهر الله، وأن تنسب عبادة الصوم فيه إلى الله: "كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأن أجزي به".

لأن الروح هي محل اعتبار ونظر الله، وشتان ما بين أروح هي جنود مجندة وأجساد هي خشب مسندة، فطوبى لعبد فهم عن الله مقاصده في هذا التشريع العظيم ، تشريع الصوم وقام بحق مولاه متلذذًا مستمتعا بعبادة سيده وموجوده .

جعلني الله وإياكم ممن ذُكر فنفعته الذكرى وأخلص لله عمله سرًّا وجهرا آمين ..آمين، والحمد لله رب العالمين .

الخطبة الثانية:

الحمد لله الذي جعل الصيام طهارة الأرواح ورق أهله وجعلهم من أهل الفلاح، أحمده على ما منى به من العطايا والمنح، والصلاة والسلام على سيد الصائمين وإمام المتقين وقرة أعين المحبين سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم وعيده ووعده.

معاشر الصالحين: إن في الصيام أشفية وأدوية مخلصة ومخصصة، مخلّصة من صور الاستضعاف ومخصصة بمؤهلات الاستخلاف، وكلاهما يتم به ارتقاؤه ويكون اصطفاؤه، فما عليك أخي الصائم إلا أن تمد يديك لشفاء ربك .

إن مسألة التغيير في أنفسنا أيها الأحباب بالانتقال من ماضي العصيان والغفلة إلى واقع الطاعة والإذعان أمر ليس بالهين، أمر لا يتم إلا بألوان من المجاهدة، مجاهدة النفس حتى تستقيم على مراد ربها .

يقول سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المجاهد من جاهد نفسه في الله " أي من جاهد نفسه وصبر على المرارة من أجل الله، وحمل نفسه على مخالفة مشتهياتها من أجل الله..

وأعظم عبادة أيها الأحباب تؤهلنا لهذا المقام مقام المجاهدة مقام تطويع النفس هي "عبادة الصوم" فصيامك يمنحك هذه الفرصة، ويتيح لك التمكن ويؤهلك للانعتاق من شتى صنوف الاسترقاق، وذلك حتى تتولى قيادة نفسك دون انبطاح لشهوة أو استسلام لسهوة.

إن صيامك يؤهلك للخروج من أسر الهوى، يؤهلك للتحرر بالتقوى، يؤهلك للاستقامة على أمر الله، نعم صيامك يؤهلك للتحرر؛ لأن المتحرر الحق هو المتقي الذي تحرر من عبودية الشيطان والهوى ووجّه وجهه لله، وليس المتحرر كما أصبحنا نسمع هو الذي يحارب تعاليم الدين ويصفها بالرجعية ويريد التحلل من كل عقد إيماني، هذا ليس حرا بل إن هذا غارق في الذلة والهوان مكبل بأنواع وألوان من الأغلال والآصار ..

يقول ربنا مبينًا للصنفين المتحرر بالتقوى، وأثير البلوى (أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) [الملك: 22] أفمن يمشي كالبهيمة المكبة ملجمة مكممة، نظرها وفمها إلى الأرض منطرحة منبطحة على كلأ الشهوات رعيا واستنزافا، هل يستوي هذا مع من يمشي على منهج الالتزام؟! أبدا والله لا علاقة ولا مناسبة بين النموذجين ..

ذلكم في ظلمات بعضها فوق بعض والآخر على نور من ربه (هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ) [هود: 24] إن هؤلاء الذين يريدون التحلل من شرائع الله هؤلاء الذين ينادون مؤخرا بحرية الإفطار الجماعي في رمضان، هم في الغالب لا يخرجون عن حالتين: إما مرضى عندهم أمراض نفسية وعُقد لم يستطيعوا التخلص منها، وإما مدفوعي الأجر دُفعت لهم اللقم من أجل انتهاك الحرم.

إذاً فالأمر لا يخرج عن المرض أو الغرض، وفي كلا الحالتين فإن عاقبتهما إلى ذلة ومصيرهما إلى قلة، فقد أبى الله إلا أن يذل من عصاه وحارب شرعه، والشواهد في ذلك قائمة، ومن لم يقرأها في صفحات التاريخ الغابر فلينظرها في الواقع الحاضر .

قلنا أيها الأحباب: إن الصيام يؤهلك لمرحلة المجاهدة، مجاهدة نفسك ويؤهلك لميادين الجهاد، جهاد عدوك فلن تنتصر على عدوك ما لم تنتصر على نفسك .

ومن ثم نجد أن الصيام مع كونه عبادة هادئة صامتة لا مظهر لها نجده يلتقي في جوهره مع عبادة صارخة معلنة يلتقي فيها صهيل الخيل بمواقع السنابك سنابك العاديات إنها الجهاد، وأول وجه من وجوه التقاء الصيام بالجهاد أنهما شرعا في ظرف واحد في سنة واحدة وهي السنة الثانية من هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم إلى المدينة .

والتقى الصيام أيضًا بالجهاد في الكثير من الأجزية من الجزاءات الأخروية الموعودة على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما التقيا أيضًا تاريخيا في أن ظرف الصوم شهد معارك جهادية وبطولية خلدها القرآن وخلدتها السنة وخلدها التاريخ الإسلامي المشرق معارك كانت فاصلة في تاريخ أمتنا وجديرة منا بمزيد من التأمل لوعي دروسها ..

نعم أيها الأحباب لقد شرع الجهاد في نفس السنة التي كتب فيها الصيام وذلك في قول ربنا مشرعا الجهاد بالإذن (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ) [الحج: 40]، وفي هذا الالتقاء في ظرف التشريع إشارة واضحة إلى الطابع والسمة الجهادية لعبادة الصوم وذلك حتى يفهم بأن الصوم ليس هو فقط امتناع عن مأكول ومشروب وإنما هو مدرسة تنمية وتقوية، مدرسة إمداد وإعداد، مدرسة اقتدار واستنفار وهو بهذه الصفات يعدك للجهاد؛ لأن الجهاد في حقيقته تضحية وتربية تبتدئ بالسخاء باللذات وتنتهي بالجود بالنفس والذات وهي نفس الدروس التي يمنحها لك الصيام، فالصيام يخلصك من عبادة شهوتك هذه الشهوة التي كانت سببًا صارفًا للكثيرين عن ساحات الجهاد وميادين العطاء والبذل من أجل إعلاء كلمة الله.

يقول ربنا منكرًا ومبينًا العلة التي صرفت الكثيرين عن الجهاد (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآَخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ) ثم توعدهم الله بقوله (إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [التوبة: 38- 39].

لم يجودوا بمال ولا بحال فتُوعدوا بالاستئصال والاستبدال، ويلتقي الصيام بالجهاد في صورة أخرى من صور الأجزية الأخروية فهذا خلوف فم الصائم وهو ذالكم النتن تلكم الرائحة الكريهة التي تتصاعد من جوف الصائم لخلوه من الطعام هذه الرائحة وإن كانت عندك مستقذرة فإنها عند الله أطيب من ريح المسك ..

وكذلكم دم الشهيد، يقول عليه الصلاة والسلام في الشهيد " وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لا يُكْلَمُ – يعني لا يجرح – أَحَدٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِلا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ اللَّوْنُ لَوْنُ دَمٍ وَالرِّيحُ رِيحُ مِسْكٍ".

وتلاحظون هنا أن رائحة دم الشهيد تفوح مسك وخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك وفي ذلك زيادة مزية للصائم بسبب سر الإضافة "الصوم لي وأنا أجزي به".

صورة أخرى من صور التقاء الصوم بالجهاد وهي صورة تبين بجلاء مكانة هاتين العبادتين من الله فقد أخبرنا صلى الله عليه وسلم أن في الجنة باب اسمه الريان يدخل منه الصائمون ولا يدخل منه غيرهم وباب آخر يدخل منه المجاهدون ..

فصومك إذاً باب عظيم من أبواب دخولك على الله ملك الملوك وتقربك منه، ولكن إذا كان هذا الصيام بشرطه، إذا كنت في هذا الصيام من المجاهدين الذين يجاهدون أنفسهم ويجاهدون نزواتهم وشهواتهم ومكامن الضعف فيهم، إذا كنت في هذا الصيام من أصحاب العزمات والبصائر الذين أدركوا معاني الصيام وما للصائم عند الله من ثني المقام فقاموا بحق الله ولم يلتفتوا إلى الفتانين من أصحاب الأهواء الذين يريدون أن يخلو الصيام من أسراره وأنواره، الذين يريدون أن يسقطوا هيبة هذه الشعيرة العظيمة التي أضافها الله إليه ووعد أصحابها بأجر عظيم مدخر لديه ..

قال الله: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) [العنكبوت: 69] وأجمع علماء التفسير أن المقصود بالجهاد في هذه الآية هو جهاد النفس؛ لأن الآية في سورة العنكبوت وسورة العنكبوت مكية، والقرآن المكي لم يُفرض فيه الجهاد كما هو معلوم .

اللهم أصلح أحوالنا واجعل بطاعتنا اشتغالنا، وإلى الخيرات مآلنا ..


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي