كما التقيا أيضا تاريخا في أن ظرف الصوم شهد معاركَ جهاديةً وبطوليةً خلَّدها القرآن، وخلَّدَتْها السُّنَّة، وخلَّدها التاريخ الإسلامي المشرق؛ معاركُ كانت فاصلةً في تاريخ أمتنا، وجديرة منا بمزيد من التأمل لوعي دروسها، وحفظ مقاصدها، وتجديد ذكراها، واستنباتها في قلوب الأمة وضميرها، مصداقا لقول ربنا ..
الحمد لله المتفرد باسمه الأسمى، والمختص بالملك الأعزِّ الأحمى، الذي ليس من دونه منتهى ولا وراءه مَرْمَى، الظاهر لا تخيلاً ووهمًا، الباطن تقدُّسًا لا عُدْمًا، وسع كل شيء رحمة وعلمًا، وأسبغ على أوليائه نعما عُما.
وبعث فيهم رسولاً من أنفسهم عُربًا وعجمًا، أذكاهم محتدًا ومَنْمَى، وأشدهم بهم رأفة ورُحمى، حاشاه ربه عيبًا ووصمًا، وذكَّاهُ روحًا وجسمًا، وآتاه حِكمة وحُكمًا، فآمن به وصدَّقه من جعل الله له في مغنم السعادة قسمًا، وكذّب به وصدف عنه من كتب الله عليه الشقاء حتمًا، ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى، صلى الله عليه صلاة تنمو وتنمى، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا.
معاشر الصالحين: لا يزال حديثنا موصولا عن الزمن المبارك، عن الزمن السعيد، زمن الارتقاء، زمن العطاء والمزيد، زمن الصيام والقيام، وذلك حتى نستجدي منزلةً مِن فِقْه هذه العبادة السَّنِية، ونتبين مقاصد الشرع الحكيم من ورائها.
أخي المؤمن: إن صيامك شفاء لك، ونعمة من ربك تقتضي مزيد شكر للذي جعل كل تشريعاته أشفيةً وأدوية، ورحماتٍ متتاليةً مخلِّصة ومخصِّصة، تخلصك من صور الاستضعاف، وتخصصك بمؤهلات الاستخلاف، مصداقا لقول ربنا -مبينا مقاصد شرعته-: (إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ * رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) [الدخان:5-6]، فما عليك -أخي الصائم- إلا أن تمد يدك بغاية الطواعية لشفاء يقدمه لك ربُّك.
إن صيامك -أخي المؤمن- هو درعك الواقي، درعك الذي تُحصن به قواك من ضعف الاستنزاف، وصيامك هو جُنتك التي تحمي بها طاقاتك من زمان الإسراف، الذي أتى على كل مقومات حياتنا ووجودنا، خُلقا واقتصادا وتدبيرا.
إن صيامنا -معاشر الأحباب- فرصة مجاهدة، وقد قال نبينا -صلى الله عليه وسلم-: "المجاهد مَن جاهَد نفسه في الله"، أي من جاهد نفسه وصبر على مرارة ذلك من أجل الله، وحمل نفسه على مخالفة مشتهياتها من أجل الله؛ وذلك حتى يصل بها إلى درجة الانسياب مع أوامر الله، والتجانس مع تعاليمه -جل في علاه-.
إن صيامك يمنحك هذه الفرصة، ويتيح لك هذا التمكُّن، ويؤهلك للانعكاف لشتى صور الاسترقاق، وذلك حتى تصبح سيد أمرك، وبدل أن تنبطح ترفع رأسك لتتعلم القيادة من موقع الاقتدار.
يقول ربنا -تبارك وتعالى- مبينا لصنفين من الناس: أسير الهوى صريع الفتنة، والمتحرر بالتقوى المستقيم على أمر الله؛ لأن المتحرر الحق هو المتقي الذي تحرر من عبودية الشيطان والهوى ووجَّهَ وجهَه لله، وليس المتحرر الذي يضرب بتعاليم الله عرض الحائط، فهذا -لَعَمْرُ الله!- هو الأسير.
يقول ربنا: (أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) [الملك:22]، أفمن يمشي كالبهيمة المكبةِ مُلجَمةً مكمَّمَة، منطرحة منبطحة على كلأ الشهوات، هل مَن هذه حاله كمن يمشي سويا على منهج الالتزام؟! أبدا! لا علاقة ولا مناسبة بين النموذجين، ذلكم في ظلمات بعضها فوق بعض، والآخر على نور من ربه، وبصيرة من دينه.
أخي الصائم: لقد تبين لك من هذا الاستهلال أن الصيام ينمي فيك ملكة الجهاد من خلالِ مجاهدتِك لنفسك، واستعلائك على نزوتك، وتحكُّمِك في شهوتك، وتلكم -والله!- غايةٌ من أعظم غايات الشرع الحكيم من الصيام.
إنَّ الذي ينهزم أمام نفسه منهزمٌ لا محالةَ أمامَ عَدُوِّه، ومِن ثمَّ؛ تجد أنَّ الصيامَ -مع كونه عبادة صامتة لا مظهر لها- يلتقي في جوهره مع عبادةٍ صارخةٍ مُعلَنة، يلتقي فيها صهيلُ الخيل بمواقع السنابل، سنابل العاديات. إنها الجهاد.
وأول وجه من وجوه التقاء الصيام بالجهاد أنهما شرعا في ظرفٍ واحدٍ، وفي سنة واحدةٍ هي السنة الثانية من هجرة المصطفى -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة.
والتقى الصيام -أيضا- بالجهاد في الكثير من الجزاءات الأخروية الموعودة على لسان سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
كما التقيا أيضا تاريخا في أن ظرف الصوم شهد معاركَ جهاديةً وبطوليةً خلَّدها القرآن، وخلَّدَتْها السُّنَّة، وخلَّدها التاريخ الإسلامي المشرق؛ معاركُ كانت فاصلةً في تاريخ أمتنا، وجديرة منا بمزيد من التأمل لوعي دروسها، وحفظ مقاصدها، وتجديد ذكراها، واستنباتها في قلوب الأمة وضميرها، مصداقا لقول ربنا: (وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ) [إبراهيم:5]، أيام مِنَنِهِ المؤيِّدة، ومِنَحِهِ المسدِّدة.
نعم إخوة الإيمان، لقد شُرع الجهاد في نفس السنة التي كُتب فيها الصيام، وذلك في قول ربنا مشرِّعا الجهاد بإذنه: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ) [الحج:39].
وفي هذا الالتقاء في ظرف التشريع وزمنه إشارة واضحة لمن رفع الله عن قلبه حجب الفهم، وأزال عن عينيه إشارة الوهم، إشارة إلى الطابع والسمة الجهادية لعبادة الصوم، وذلك حتى يُفهَم بأن الصوم ليس فقط امتناعاً عن أكل وشرب؛ وإنما هو مدرسةُ تنميةٍ وتقويةٍ وتزكيةٍ وترقيةٍ، مدرسةُ إمدادٍ وإعدادٍ، مدرسةُ استحضارٍ واستنفارٍ.
إن الصيام -بهذه الصفة- يعد الصائم للجهاد، ومِن ثَمَّ فهُو مقدمة ضرورية لاعتلاء ذروة سنام الإسلام، إنَّ الجهادَ في حقيقته تضحيةٌ واعيةٌ مستبصرةٌ لغايةٍ سامية متنوِّرة تبتدئ بالسخاء بالمال واللَّذَات، وتنتهي بالجود بالنفس والذَّات.
أخي الصائم: إن صيامك يعلمك الجود والسخاء؛ لأنه يزهِّدك في شهوات الأرض، ومن هنا؛ كان سيد المجاهدين رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أجودَ ما يكون في رمضان، بل يكون في رمضان أجود بالخير من الريح المرسلة.
إن صومك -أخي المؤمن- يفرض عليك حِمْيَةً ربَّانِيَّةً في الجانب المادِّيِّ، ويُضَاعِف من وجباتك في الجانب الروحي، وتلكم -والله!- أرقى صُور الإعداد للجهاد؛ إنه يعلمك الانتصار على شهوتك، هذه الشهوة التي كانت سببا صارفاً للكثيرين عن ساحات الجهاد، وميادين التضحية والبذل من أجل إعلاء كلمة الله.
يقول ربنا مستنكرا ومبيِّنا العلة التي صرفت الكثيرين عن الجهاد: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآَخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ) [التوبة:38].
ثم توعَّدَهُمُ اللهُ بقوله: (إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ) [التوبة:39]، لم يجودوا بمال ولا بحال، فتُوُعِّدُوا بالاستئصال والاستبدال.
وإذا كان الإخلاصُ شرطاً في قَبول الأعمال، وأعلاها الجهاد، فإن الصوم هو مدرسةُ تعليمِ الإخلاص بامتياز؛ يعلمك كيف تعمل لله في صمت، يعلمك الإخلاص، الذي هو سِرُّ الخلاص.
ويلتقي الصيام بالجهاد في صورة أخرى من صور الأجزية الأخروية، فهذا خلوف فَمِ الصائم، وهو تلكم الرائحة المكروهة التي تتصاعد من جوف الصائم لخلو جوفه من الطعام، هذه الرائحة عند الله أطيب من ريح المسك، وكذلكم دم الشهيد.
يقول -عليه الصلاة والسلام- في الشهيد: "والذي نفسي بيده! لا يكْلَم -أي لا يجرح- أحدٌ كَلْمَاً في سبيل الله، إلا جاء يوم القيامة وجرحه يثعَبُ دماً، اللون لون الدم، والريح ريح المسك"
وتلاحظون هنا أن رائحة دم الشهيد تفوح مسكاً، وخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، وفي ذلك زيادة مزية للصوم بسبب سر الإضافة: "الصوم لي وأنا اجزي به".
صورة أخرى من صور التقاء الصيام بالجهاد، وهي صورة تبين بجلاء مكانة هاتين العبادتين من الله، فقد أخبرنا الحبيب -صلى الله عليه وسلم- أنَّ في الجنة باباً اسمه الريَّان، يدخل منه الصائمون ولا يدخل منه غيرهم، وباب آخَر يدخل منه المجاهدون.
فصومك -إذاً- بابٌ عظيمٌ من أبواب دخولك على الله وتقرُّبِك منه؛ فَلْنَكُنْ في هذا الصيام من المجاهدين الذين يجاهدون أنفسهم ونزواتهم وشهواتهم، الذين يجاهدون مكامن الضعف فيهم وذلك حتى يتأهلوا لجهاد أعدائهم، (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) [العنكبوت:69].
جعلني الله وإياكم ممن ذُكِّرَ فنفعته الذكرى، وأخلص لله عمله سرا وجهرا، آمين، آمين، والحمد لله رب العالمين.
الحمد لله ناصر المؤمنين، ومؤيد الصابرين، القائل في محكم الذكر المبين: (إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ) [محمد:7-8]، وصلاة ربي وسلامه على نبي الملاحم والمكارم، وعلى آله وصحبه.
معاشر الأحباب: إذا كان الصوم باعتبار الشرع نوعاً من الجهاد التعبدي الذي يتخلى فيه الصائم عن جملة من المطالب والرغائب، يصوم، ويقوم، ويتعبد، ويتصدق، ويصبر على الأذى؛ وكُلُّ هذه الأمور آثارٌ من آثار المجاهدة.
إذا كان الأمر كذلك -وهو كذلك- فما أبعد الذين يقضون نهارهم نائمين، وليلهم لاهين عاكفين على القنوات والأفلام، والحانات والمراقص والمنكرات! إنهم ضحايا الإغراء، وصرعى الإغواء.
ما أبعدهم عن حقيقة الصيام! ويوم لقاء ربهم سيندمون كل الندم على تفريطهم وتضييعهم فرصة تزكيتهم.
إخوة الإيمان: من لطائف الموافقات وجميل الإشارات أن كبرى الانتصارات في تاريخ الإسلام المشرق حدثت في ظرف الصوم في شهر رمضان المبارك.
فمِن بدر الكبرى التي وقعت في السابع عشر من السنة الثانية من الهجرة، إلى فتح مكة، إلى معركة حطين التي تم فيها تخليص القدس من يد الصليبيين، إلى موقعة عين جالوت التي قضى فيها المسلمون على الطاغوت، وكان كل ذلك في رمضان.
إلى فتح الأندلس في موقعة الزلاقة، إلى فتح عمورية على يد المعتصم، إلى فتح البوسنة والهرسك، وفي هذا التوافق -توافق ظرف الصيام مع هذه الانتصارات والفتوحات- دليلٌ واضح على أن نصر الله للأمة رهينٌ بانتصارها على أهوائها، وتجردها من قيود شهواتها التي هي سبب هوانها وسقوط هيبتها.
معاشر الكرام: إننا على مشارف ذكرى بدر الكبرى التي سماها القرآن يوم الفرقان، ومِن عجائب الاتفاق أننا تلقينا في رمضان فرقانين: فرقانَ ذكرٍ يشدو الصدى وهو كتاب الله، وفرقانَ نصرٍ يردُّ الاعتبار ويثبت الأقدام.
هذه الموقعة العظيمة سجلها القرآن بميدان الفخر ذكرا ربانيا يُتْلَى ما تعاقب الليل والنهار، فقد أبلى فيه المؤمنون بلاءً حسَناً، وجاهدوا وكابدوا، فجزاهم الله عن الإسلام خير الجزاء.
بدأت هذه الغزوة المباركة بمشاهد الالتحام قبل مشاهد الامتحان، الالتحام بين رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبين أصحابه، هذا الحب العظيم، وهذه الطاعة الكاملة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وهذا -لَعَمْرُ اللهِ!- هو سبب انتصارهم وفوزهم، فقد خرج -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه يريد عِير قريش، فبلغه خروج قريش في جيش قوي ليمنعه عيره وتجارته.
فوقف -صلى الله عليه وسلم- وصحبه في صحراءَ قاحلةٍ، ولَكُمْ أن تتصورا الصحراء مع الحَرِّ والصيام! فقال: "أشيروا علي أيها الناس"؛ فمع كونه نبي الله، ومؤيداً بعناية الله، إلا أنه يستشير أصحابه، وهذا سر من أسرار عظمة سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
فقام أبو بكر الصديق فقال وأحسن، وقام عمر بن الخطاب فقال وأحسن، ثم قام المقداد بن عمرو فقال: "يا رسول الله، امض لما أراك الله، فنحن معك، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون؛ ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، فوالَّذي بعثك بالحق! لو سرتَ بنا إلى برك الغماد -وهو موضع بعيد في ناحية اليمن- لجالدنا معك من دونه، حتى تبلغه"، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خيرا، ودعا له به.
ثم قال: "أشيروا علي أيها الناس"، وإنما يريد الأنصار، فقام سعد بن معاذ -رضي الله عنه- وقال: والله! لكأنك تريدنا يا رسول الله؟ قال: "أجل"، قال: "فقد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامْضِ يا رسول الله لِمَا أردت فنحن معك، فوالذي بعثك بالحق! لو استعرضْتَ بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدا، إنا لصُبْرٌ في الحرب، صُدْقٌ في اللقاء. لعل الله يُريك منا ما تقر به عينك، فسِرْ بنا على بركة الله".
فسُرَّ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- بقول سعدٍ، ثم قال: "سيروا وأبشروا! فإن الله -تعالى- قد وعدني إحدى الطائفتين، واللهِ! لَكَأَنِّي الآن أنظر إلى مصارع القوم".
لقد أراد -صلى الله عليه وسلم- أن يستخرج منهم حالة الحب في مواقع الرعب؛ حتى يتجلى الصدق وتظهر اللُّحْمة، فما كان منهم -رضي الله عنهم- إلا أن وقَّعوا في جبين التاريخ عناوينَ الكرامةِ والمحبة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
وهذا -لعمر الله!- سِرُّ انتصارهم، ونحن في هذا الزمن حالُنا اللسانُ أمام أوامره -صلى الله عليه وسلم-، فبالعكس! لقد تخلفنا عن أوامره -صلى الله عليه وسلم-، وضيعنا شرعه، بل وانبرى من بيننا من يتناول أحاديثه -صلى الله عليه وسلم- بالسخرية، واصفا إياها بالرجعية وعدم مناسبتها العصر!.
وهذا -لعَمر الله!- من أسباب هزيمتنا وتأخرنا، فإذا كان رمضان يعلمنا الجهاد والصبر والتضحية؛ فإنه كذلك يعلمنا الوفاء، ويربطنا بالأصول، يعلمنا أن نحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأن نقدسه ونعظمه، وليس من قبيل الصدفة أبدا أن يجمع -صلى الله عليه وسلم- في حديث واحد بين تعظيم رمضان، وتعظيمه هو -صلى الله عليه وسلم-.
لما صعد المنبر فقال له جبريل: "مَن أدرك رمضان فلم يغفر له فلا غفر الله له، قل آمين، فقلت: آمين"، ثم في الدرجة الأخرى قال له: "مَن ذُكرتَ عنده فلم يصلِّ عليك فلا غفر الله له، قل: آمين، فقلت آمين". اللهم صَلِّ على الحبيب المصطفى.
تعظيمه -صلى الله عليه وسلم- باعتباره مبلِّغا عن الله، متلقيا لكتاب الله، وتعظيم رمضان باعتباره سببا لتنزُّل هذا الكتاب من مشاهد الالتحام في مشاهد هذه الغزوة المباركة.
إنه -صلى الله عليه وسلم- قبل بدء الغزوة، وقبل الدخول في هذه المعركة، بدأ يسوِّي الصفوف، فإذا به يشاهد سَوَاد بن غَزِيَّة خارجاً عن الصف، فيضربه -صلى الله عليه وسلم- بعصا على بطنه قائلا له: "اسْتَوِ يا سواد"، سَوِّ الصف، فما كان من سواد إلا أن قال له: لقد أوجعْتَني! لقد ألَّمْتَنِي يا رسول الله، فأقِدْني منك، أي: أريد القصاص منك، ضربة بضربة.
فكشف -صلى الله عليه وسلم- عن بطنه الشريفة وقال له: "استقد مني يا سواد"، فما كان من سواد إلا أن انحنى وأكبَّ على بطن رسول الله يقبلها ويبكي، فقال له المصطفى -صلى الله عليه وسلم-: "ما حملك على ما صنعت يا سواد؟" فقال: يا رسول الله، لقد حضر ما ترى من مشاهد الموت، فأحببت أن يكون آخر العهد بك أن يمس جلدي جلدك الشريف يا رسول الله. أي حب في قلوب هؤلاء الأماجد! اللهم ارض عنهم، وارفع أقدارهم.
ومن مشاهد الالتحام إلى مشاهد الاقتحام، فهذا سيدنا عمير بن الحمام يقوم وقد سمع كلمات من رسول الله يحث على الاستشهاد والصبر، ويعد المقبلين بجنة عرضها السماوات والأرض، فيقول عمير: يا رسول الله، أحقا هي جنة عرضها السماوات والأرض؟ فيقول المصطفى -صلى الله عليه وسلم- "نعم" فيقول عمير: بخٍ بخٍ! فيقول المصطفى: "ما حملك على قولِك بَخٍ بخٍ؟"، فيقول: رجاء أن أكون من أهلها: فقال -صلى الله عليه وسلم-: "فإنك من أهلها".
فأخرج عمير تمرات من قرنه فجعل يأكل منهن، ثم قال: لئن أنا حَيِيتُ حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة، ثم رمى بما كان معه من التمر، ثم قاتلهم حتى قتل، فكان أول شهيد في بدر، وفيه نزل قول الله: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا) [الأحزاب:23].
ويوم نعود إلى ربنا بتوبة خالصة، وأوبة صادقة؛ نصرا لدينه، وإعلاء لكلمته، وصمودا في وجه الفتن، وتطهيرا للنفس، فإن نصر الله آتٍ، وفرجه قريب، والوراثة للصالحين.
يوم أنْ نستهديَ وحْيَ صيامِنا، ونقتفيَ آثارَ أسلافِنا، ونفتخرَ بانتمائِنا، ونحافظَ على قِيَمِنا، فالنصرُ لنا، والعِزُّ لنا، وصدق الله إذ يقول: (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ * إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ) [الأنبياء:105-106].
اللهم أصلح أحوالنا...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي