والذين يتعاملون مع رمضانَ على أنَّهُ شهرُ الحقِّ هم الذين يستقبلونه على أنه مدرسةٌ لتجديد الإيمان، وتهذيب الخلق، وتقوية الروح، واستئناف حياةٍ أفضلَ وأكملَ، فهؤلاء هم الذين يستفيدون منه، هؤلاء هم الذين يجدون في نهاره لَذَّةَ الأبطالِ في المعركة، ويجدون في مسائه وفي ليله وفي سَحَره وفجره ..
الحمد لله المتفرد باسمه الأسمى، والمختص بالملك الأعز الأحمى، الذي ليس من دونه منتهى ولا وراءه مرمى، الظاهر لا تخيلاً ووهمًا، الباطن تقدُّسًا لا عُدْمًا، وسع كل شيء رحمة وعلمًا، وأسبغ على أوليائه نعما عُما.
وبعث فيهم رسولاً من أنفسهم عُربًا وعجمًا، وأذكاهم محتدًا ومَنْمَى، وأشدهم بهم رأفة ورُحمى، حاشاه ربه عيبًا ووصمًا، وذكَّاهُ روحًا وجسمًا، وآتاه حِكمة وحُكمًا، فآمن به وصدَّقه من جعل الله له في مغنم السعادة قسمًا، وكذّب به وصدف عنه من كتب الله عليه الشقاء حتمًا، ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى، صلى الله عليه صلاة تنمو وتنمى، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا.
معاشر الصالحين: رمضان شهر الحقِّ، ونبينا -صلى الله عليه وسلم- رسول الحق، وكتابنا هو الحق، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ) [النساء:17]، كتابنا هو حق، ونزل بالحق، (وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ) [الإسراء:105].
والذين يتعاملون مع رمضانَ على أنَّهُ شهرُ الحقِّ هم الذين يستقبلونه على أنه مدرسةٌ لتجديد الإيمان، وتهذيب الخلق، وتقوية الروح، واستئناف حياةٍ أفضلَ وأكملَ، فهؤلاء هم الذين يستفيدون منه، هؤلاء هم الذين يجدون في نهاره لَذَّةَ الأبطالِ في المعركة، ويجدون في مسائه وفي ليله وفي سَحَره وفجره لَذَّة المنتصرين في المعركة في ساعاتها الأخيرة.
هؤلاء هم الذين تفتح لهم أبواب الجنان في رمضان، وتغلق عنهم أبواب النيران، وتتلقاهم الملائكة ليلة القدر بالبُشرى والسلام، هؤلاء هم الذين ينسلخ عنهم رمضان مغفورة لهم ذنوبهم، مكفَّرَةً عنهم سيئاتهم، مجلوَّة بنور الله قلوبهم، مجددة بقوة الإيمان عزائمهم.
هؤلاء هم الذين تصلح بهم الأوضاع، وتكسب بهم المعارك، وتسعَد بهم المجتمعات. وما أحوجنا إليهم اليوم ونحن في قلب المعركة مع الباطل والفساد والعناد والانحلال!.
أيها المؤمنون يا أبناء الأمة: خطب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في صحابته في مثل هذه الأيام في بدايات رمضان، فكان مما قال: "أيها الناس، جاءكم شهرٌ عظيمٌ مباركٌ، فيه ليلة خير من ألف شهر، جعل الله صيامه فريضةً، وقيام ليله تطوعا، مَن تقرب فيه بخصلة من الخير كان كمَن أدَّى فريضةً فيما سواه، ومَن أدَّى فيه فريضة كان كمن أدى سبعين فريضة فيما سواه، وهو شهر الصبر، والصبر ثوابه الجنة، وشهر المواساة، وشهرٌ يزداد فيه رزق المؤمن، مَن فطَّرَ فيه صائما كان مغفرةً لذنوبه، وعتقَ رقبتِهِ من النار، وكان له مثل أجره، من غير أن ينتقص من أجره شيء".
قالوا: يا رسول الله، ليس كلنا نجد ما يفطر الصائم! فقال -صلى الله عليه وسلم-: "يُعطي الله هذا الثواب مَن فطَّرَ صائما على تمرةٍ، أو شَربة ماء، أو مذقة لبن، وهو شهر أوله رحمة، وأوسطه مغفرة، وآخره عتق من النار، مَن خفَّف عن مملوكه غفر الله له واعتقه من النار.
واستكثروا فيه من أربع خصال: خصلتين ترضُون بهما ربكم، وخصلتين لا غنى بكم عنهما، فأما الخصلتان اللتان ترضون بهما ربكم: فشهادة أن لا إله إلا الله، وتستغفرونه. وأما اللتان لا غنى بكم عنها: فتسألون الله الجنة، وتعوذون به من النار. ومن سقَى صائما سقاه الله من حوضي شَرْبَةً لا يظمأ حتى يدخل الجنة" رواه ابن خزيمة في صحيحه.
وفي حديث آخر: " أتاكم رمضان، شهر بركة، يغشاكم الله فيه، فينزل الرحمة، ويحط الخطايا، ويستجيب فيه الدعاء، وينظر الله -تعالى- إلى تنافسكم فيه، ويباهي بكم ملائكته، فأروا الله من أنفسكم خيرا، فإن الشقي من حرم فيه رحمة الله -عز وجل-" رواه الطبراني.
هذا ما كان يقوله رسولكم -صلى الله عليه وسلم- من معاني الحق يستحث فيه عزائم المؤمنين على للطاعة والعبادة، ويشرح صدورهم لما يتنزل عليهم في أيامه من بركة ورحمة، ويشوّق أرواحهم إلى ما يضفيه الصيام عليها من قوة وإشراق وقدسية.
فأعدوا أنفسكم بمعاني الحق، وتخلقوا بأخلاقه، واستفيدوا من حكمه وأحكامه، ولا يصرفكم عن ذلك عب العابثين، ولهو اللاهين، الذين أعدوا العدة لصرْفكم عن نفحاته، ومنعكم من أسراره وبركاته، (وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا) [النساء:27].
أيها الأحباب الكرام: قد كان يكفينا في الحث على الصيام والدعوة إليه أن نقول للمسلم: إن الله يأمرك بالصيام، دون ذكر فوائد الصيام وأسراره؛ ولكننا مضطرون لبيان ذلك لأن الله تعالى علّمنا في كثير من الآيات أسرار تشريعه وفوائده، شحْنَاً لأذهاننا أن نفكر ونعمل، وإيماء إلى أن هذا التشريع الإلهي لم يقم إلا على ما يحقق للناس المصالح ويدفع عنهم المضار.
انظر إلى قوله -تعالى- حين يعلمنا آداب الاستئذان في البيوت كيف يختم ذلك بقوله: (هُوَ أَزْكَى لَكُمْ) [النور:28]، وحين يأمر المؤمنين بغض الأبصار كيف ينبهنا للفائدة الاجتماعية من ذلك فيقول: (ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ) [النور:30].
بل الله -تعالى- حين أمرنا بالصيام ذكر حكمته وفائدته بكلمة واحدة من كلامه الـــمُعجز الخالد: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة:183]، فالحكمة من تشريع الصيام -كما ينبهنا الله إليها- هي التقوى، أو الاتقاء.
والتقوى هي فعل كل خلق يحبه الله، وترْك كل ما يُغضب الله، والاتقاء -أي: الوقاية- هي الوقاية من كل خلق ذميم يؤذي المجتمع والأفراد.
ومن أقوال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إنما الصوم جُنَّةٌ -أي: وقاية-، وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب"، فقد بين الحكمة من الصيام، ثم بينها لنا ليكون أوقع في النفس وأعمق أثراً، وليكون المؤمن أكثر اطمئناناً إلى العبادة حين يؤدِّيها، وإلى التشريع حين ينفذه.
ولقد سبقنا إلى ذلك سيدنا إبراهيم الخليل عليه صلوات الله حين سأل ربه أن يريه كيف يحيي الموتى، فقال الله له: (أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) [البقرة:26].
فليس في تعليل الأحكام وبيان أسرارها ما ينافي الإيمان أو يدل على ضعف اليقين، ولقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعدل الأحكام ويبين الحكمة بها في كثير من أحكام التشريع.
والآن: ما هي حكمة الصوم؟ وما هي فوائدة؟ أما الآن -أيها الأحباب- فلن نتكلم عن فوائدة الصحية، فذلك أولى بطبيبٍ مسلم يتناول ذلك بالشرح والإيضاح، والله -تعالى- أمرنا أن نسأل أهل الذكر.
وإنما شأننا هنا أن نتحدث عن فوائد الصيام النفسية والروحية والخُلقية، ومن أهم ما ينطوي عليه الصوم من تربية اجتماعية في نفوس الصائمين أنهم يثبتون في الإيمان بالحق، ويمنحهم الثبات عليه، والدعوة إليه، والتخلق به.
والحق له في ديننا منزلة كبرى، فمن أسماء الله "الحق": (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ) [الحج:6]، والحق هو ما يرتضيه الله، أو يصدر عنه قوله الحق، وله الحكم.
ولذلك كانت رسالات الأنبياء دعوة إلى الحق، وإقرارا له في عالم الناس: (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ) [البقرة:213].
وكانت رسالة الإسلام -وهي خاتمة الشرائع- دعوة إلى الحق، وتثبيتا لمعالمه، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ) [النساء:17].
وإذا كان الحق هدف رسالة الإسلام، فان من أول الحق أن تذكر عبوديتك لله الذي خلقك وأنشأك، وأمدك بالنعم التي لا يحصى لها عدد، ولا يعرف لها حد.
والباطل -الذي ليس بعده باطل- أن ينسى الإنسان عبوديته، وسلطان الله عليه، وما يناله المتألهون من البشر، ولا يطغى الطغاة، ولا يظلم الظالمون إلا حين ينسون عبوديتهم، فيزعمون لأنفسهم من صفات الله ما يستبيحون به سفك الدماء، وإزهاق الأرواح، والتكبر في الأرض، والإفساد فيها، واستعباد جماهيرها، وإذلال كرامتها.
وفي الصوم يذكر الإنسان انه إنسان، أي أنه عبد محتاج إلى الطعام والشراب، مجرد من كل قوة، يستوي مع الناس في قوام الحياة من غذاء وسكن ولباس.
في الصوم يكون الملوك والرؤوس والقادة والأقوياء والأغنياء وكل ذي سلطان كالشعب في الحاجة إلى الطعام، وأنه كالفقراء والضعفاء جوعا وضعفا حين يحال بينه وبين الغذاء والماء. فلماذا يمنعون عن الشعوب المعونات والغذاء؟ لماذا يمنعونها حقها؟ ولو منعهم الله أسباب القوة لكانوا مستضعفين في الأرض أذلة صاغرين!.
في الصيام تذكير لهم بحقيقتهم، وأنهم مهما علوا وتكبروا وتجبروا فلن يتجاوزوا مرتبتهم، وهي العبودية، العبودية اختيارا أو اضطرارا.
جعلني الله وإياكم ممن ذكر فنفعته الذكرى، وأخلص عمله لله سرا وجهرا، آمين! آمين! والحمد لله رب العالمين.
الحمد لله الذي جعل الصوم لعباده سببا للتزكية، أحمده على عطائه ، وأصلي وأسلم على سيد البشرية، وخير البرية، سيدنا محمد، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، الذين فازوا بحبه وقربه، ومن تبعه بإحسانٍ إلى يوم وعيده ووعده.
معاشر الصالحين: في الصوم يذكر الملوك والرؤساء هذا المعنى من معنى الحق الذي قد ينسونه في غير رمضان، وما أروع هذا الدعاء حين يفطر المسلم ويقول: "اللهم لك صمت، وعلى رزقك أفطرت"! إنه هنا يعترف بأن الرزق رزق الله، والمال مال الله، والعطاء عطاؤه، لا يملك من ذلك شيئا إلا أن يمنحه الله إياه، وهذه أخص خصائص العبودية، وألزم صفاتها.
ومن الحق -كذلك، أيها الكرام- أن يذكر الإنسان دائما صلته بأمته، وأن يعيش معها دائما بقلبه ووجدانه، يفرح لفرحها، ويحزن لحزنها، وما يتحكم طاغية في هذه الأمة إلا حينما ينسى هذه الحقيقة، فيزعم أنه يملك من القوة والعبقرية والدهاء ما يستطيع من خلاله أن يستعبد الناس، فإن قال أحدهم: لا، قالت نفسُ الطاغية المتكبرة: اقتُلْ واسجن وشرِّد.
ولا يقسو الأغنياء على الفقراء، ولا يقطع القريب صلة القربى، ولا ينسى الجار حق جاره، إلا حين ينسون هذه الرابطة الاجتماعية فيما بينهم، فيعيش كل واحد منهم لنفسه لا للناس، ومع بطنه وفرجه لا مع الأمة في حاجتها وهمومها.
وفي الصوم يذكر الإنسان أنه من المجتمع، يذكر أنه منهم وإليهم ومعهم، إنه يجوع مثلهم، ويفطر معهم، ويستقبل العيد معهم، حين إذن يتذكرهم ويتذكر حاجاتهم، يذكر فقراءهم وما ينتابهم من البؤس والحاجة، ولولا الصيام لما ذكر من ذلك شيئا!.
ومن هنا كانت نفس الصائم أسمى النفوس، وأجودها بالعطاء، لقد كان المسلم الأول سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان، يكون كالريح المرسلةِ سَخَاءً ودفعا وإعانة.
أنفقت عائشة -رضي الله عنها- في يوم واحد مائة ألف درهم على أبناء أمتها وهي صائمة، وتصدقت ... عليه ثوب الخيط، فقالت لها خادمتها: لو أبقيت لنا ما نفطر به اليوم؟ فقالت عائشة: لو ذكرتني لفعلت.
أرأيتم -أيها الناس- كيف تسمو نفس الصائم حتى ينسى حاجاته ومطالبه، ولا يذكر إلا أمته وحاجاتها؟ كذلك يريد الله من الصائمين.
ومن الحق -كذلك- أن يعمل العاملون في المجتمع من زعماء ورؤساء وموظفين وفي كل المرافق، لا ابتغاء شهرة، ولا طلب ثناء، ولا سعياً لمحمدة؛ إنما ابتغاء وجه الله، وطلبا لمرضاته، لا يغضبون لجحادة الأمة فضلهم، ولا يخدعون إذا احتاجت الأمة لهم، ولا يتملقون من أجل أن يحققوا أهدافهم، بهذا تسعد الأمة بزعمائها وقادتها، وفي غير ذلك يكون الشقاء والمهانة.
وفي الصوم تعويد كريم على هذا الخلق العظيم، فالصوم عبادة مستورة، هو سِرٌّ بين العبد وربه، ليس فيه موضع للرياء ولا للخداع، يصوم وحسبه من جوعه وخضوعه علم الله به، واطلاعه على صدق نيته، وحسبه من الثواب أن يطهر نفسه من الخداع والرياء، وأن يلزم لسان الصدق والوفاء، يخجل الصائم من الكذب والغش والسرقة، والغيبة والنميمة، والإيذاء والعدوان على الناس في أعراضهم وأموالهم؛ لأن حبيبه ورسوله -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَن لم يَدَعْ قول الزور والعمل به فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه".
ولأن رسوله -صلى الله عليه وسلم- نهاه أن يقابل الإساءة بالإساءة وهو صائم، ونهاه أن يرد على البذاءة ببذاءة، "فإن سابَّه أحد أو شاتمه فليقل: إني صائم. إني صائم!".
ومن الحق كذلك -أيها الأحباب- أن الإنسان ليس لحما ودما فحسب حتى تكون أهدافه في الحياة كلها على مطالب اللحم والدم، بل هو إنسان فيه خصائصُ ثابتةٌ، روحٌ وقلبٌ، كما له من خصائص الحيوان لحم ودم، حين ينسى الإنسان هذه الحقيقة يصبح أشرّ من الحيوان فتكا وضراوة، وأحقر منه غريزة وشهوة.
وفي الصوم يجد المؤمن فراغا ووقتا لمناجاة الله والاتصال به، والأنس به، وبذلك ترتقي الروح، وتتخلص مما علق بها من طريق الشهوات والشبهات.
ومن الحق أيضا أن يستمع العبد من كلام ربه، الحق والذي نزل بالحق: (وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ)، يسمع كلام ربه يناديه بالخير، يدعوه إلى التقوى، يرفعه عن الفجور، يمنعه عن الآثام.
في رمضان يسمع المسلم نداء ربه له: إليّ إليّ يا عبدي! فلطالما أبعدَتْك الدنيا عني وأنا أقرب إليك من حبل الوريد، ولطالما أيأسك الشيطان من رحمتي وأنا الذي وسِعَت رحمتي كل شيء، ولطالما أغراك ما أمددتُك به من مال وسلطان فظننتَ أنك مُسْتَغْنٍ عني، وأنت إن يسلبك الذباب شيئاً لا تستنقذه منه! ولطالما هبطت بنفسك إلى الحضيض، وأنا الذي خلقتك لتكون خليفتي في الأرض، تعالى إليّ يا عبدي لأرفعك إلى مستوى ملائكتي تعيش في عالَمٍ من سمو النفس، وإشراق الروح، وضياء القلب، ما يجعلك وأنت في الدنيا تعيش في جنة، قبل أن تدخل الجنة.
أيها المؤمن هذا بعض ما يثبته الصوم ويربي عليه من معاني الحق، وهو ما كان يفهمه سلفنا الصالح -رضوان الله عليهم- من معاني وأسرار هذه العبادة السنية، وبذلك كانوا آية في الثبات على الحق، والعمل بمقتضى الحق، والاحتكام إلى الحق، والتخلق بالحق، لم تر الإنسانية ما يضاهيهم من سمو نفس، وشرف هدف، ونبل غاية، وإشراق روح، وهداية قلب.
أفليست الإنسانية اليوم في حاجة إلى مثل ذلك الجيل؟ أليس مجتمعك اليوم في حاجة إلى مثل تلك النفوس؟ ألا ترى مجتمعنا اليوم وما يضج به من باطل وظلم وفساد؟ أين مَكَّنَّا الحقَّ في حياتنا ومعاملتنا؟ أمِن الحق أن يُحكم العباد بالحديد والنار، وأن تلهب ظهورهم سياط الجلادين؟ أمن الحق أن يعيش المسلمون -أغلب المسلمين- في البؤس والشقاء، وأن تنفرد قلة قليلة بالخيرات والثروات؟.
أمِن الحق أن يذبح الشعب السوري ويباد، ويُهتَك عرض نسائه، ويُذبح أطفاله، والعالم في صمت لم يحرك ساكنا؟ أَمِنَ الحقِّ أن يعاني هذا الشعب السوري ما يعانيه والمسلمون في لهوهم ولعبهم ومسلسلاتهم وغفلتهم وسهراتهم؟ أمن الحق أن يذبح المسلمون في بورما ويرمون في النار وهم أحياء؟ ولربما مِن المسلمين مَن لا يعرفهم ولا يعرف معاناتهم!.
إن الإسلام يريد منا أن نكون في كل عصر أكبر من يمثل الحق ويحميه، فهل وجدتَّ في رمضان ما يؤهلك لحمل هذه الرسالة إلى شعوب العالم ؟ وهل وجدت في رمضان ما يقربك إلى المكان العالي الذي هيأه الله لك لتكون شهيدا على الناس؟ (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ) [البقرة:143].
هَل وجدتَّ في رمضانَ ما يقرِّبُك من ربِّكَ الخالق الرازق الحق، ورسولك الحق، على ضوء كتابك الحق، وفي هدْي شرعك الحق؟.
فاغتنم -يا عبد الله- هذه الأيام، فإنها غالية عظيمة الشأن، واجعلها فاتحة الرجوع إلى الله، وكَفَاكَ من العناد والإصرار! أما أرهقَتْكَ الذنوب؟ أما رأيت آيات الله قائمة في الواقع تمنحك الإيمان الحق الذي تقرؤه في الكتاب الحق؟ (فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ) [طه:114].
أما رأيت فعْله -جل وعلا- في الظالمين والجبارين؟ فاستخرج الحق من بين ثنايا الحق، لتصل للحق... وإنما هما اثنان لا ثالث لهما؛ فاختر لنفسك موضعا: (فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ) [يونس:32]؟.
اللهم أصلح أحوالنا...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي