إذا أردتم الرفعة والمكانة وسيادة الأمم وقيادتها فلن يكون ذلك إلا بالعودة والرجوع إلى كتاب الله، فلن يصلح آخِر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، فإياكم ثم إياكم وهجْرَ القرآن! حتى لا يشكوكم الرسول صلى الله عليه وسلم لله تبارك وتعالى، حيث يقول الله تبارك وتعالى على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم: (وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآَنَ مَهْجُورَاً) ..
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئآت أعمالنا، من يهده الله فهو المهتدِ، ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا، وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحي ويميت، وهو على كل شي قدير.
الحمد لله الذي جعل الصيام جُنَّةً من العذاب، وفضَّلَه على سائر الأعمال فهو يجزي به بغير حساب، والحمد لله الذي فضل شهر رمضان فأنزل فيه الكتاب، وخص فيه أمة محمد بجزيل التكريم والثواب، والحمد لله الذي مَنَّ فيه على عباده بدعاء مستجاب، نحمده حمد من قال: ربي الله، ثم أناب، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه وخليله، المخصوص بجوامع الكلم وفصل الخطاب, صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين خير آلٍ وأصحاب.
يقول الحق -سبحانه وتعالى- في محكم الكتاب: (إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ) [فاطر:29-30].
يا خادمَ الجسمِ كَمْ تسْعَى لِخِدْمَتهِ *** أتْعَبْتَ نفسَك فيما فيهِ خُسْرَانُ
أقْبِل على النَّفس واستَكْمِل فضائلَها *** فأنت بالرُّوحِ لا بالْجِسْمِ إنْسَانُ
عباد الله: الإنسان بروحه لا بجسده؛ لأن الروح تسمو الى خالقها، والجسد مصيره التراب من حيث أتى، والإنسان بفكره وعقله الذي يتغذى من كتاب الله، لا بجسده الذي يتغذى على حشائش الأرض، فنحن نعيش شهر القرآن، شهر الرحمة والمغفرة والتوبة، فلا بد لنا من أن يذكِّر بعضُنا بعضاً بكتاب الله، وخاصة ونحن في هذا الشهر الفضيل، شهر رمضان.
فاعلموا -عباد الله- أن لكل نبي معجزة، ومعجزة محمد -صلى الله عليه وسلم- القرآن الكريم، حيث نزل على أمة فصيحة وبليغة وخطيبة وشاعرة، فلما سمعوه دهشوا لفصاحته وبلاغته وبيانه، فلم يستطيعوا أن ينكروا ذلك، حتى قال كبراؤهم: واللات والعُزَّى إن له لَحَلَاوة، وإن عليه لَطَلاوة، وإن أسفله لمغدق، وإن أعلاه لمثمر! وإنه يعلو ولا يعلى عليه!.
الحقُّ يعلو والأباطيلُ تَسْفُلُ *** والحقُّ عن أحكامِهِ لا يُسْأَلُ
وإذا استحالَتْ حالةٌ وتبدَّلَتْ *** فاللهُ عَزَّ وجَلَّ لا يتبدَّلُ
فهناك من عظَّم اللهَ، فعظَّم كلامَ اللهِ، فهو يتلوه آناء الليل وأطراف النهار؛ وهناك من نسي الله فأنساه الهظ ذكر نفسه، فهو يعصي الله آناء الليل وأطراف النهار، فطوبى لمن عظم الله فعظم كلام الله فعُظِّم عند الله! وطوبى لمن ذكر الله فذكَرَه الله فيمن عنده!.
فكتاب الله هو كلامه يتكلم به متى شاء، وكيف شاء، ولمن شاء، (لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) [فصلت:42]، من قرأه بارك الله له في عمره، وبارك له في ولده، وفي ماله؛ ومن أعرض عنه محق الله عمره، وأزال هيبته، وجعل معيشته ضنكا، وحُشِر يوم القيامة أعمى.
لذا كان حبيبنا -صلى الله عليه وسلم- دائما ما ينادي الناس جميعا ويدعوهم لقراءة القرآن، والتلذذ بتلاوته، وعدم هجره، فيقول -صلى الله عليه وسلم-: "اقرؤوا القرآن؛ فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه".
ما تدبره متدبر إلا وفقه الله وأخرج النفاق والريبة من قلبه، ومن استنار بنوره دخل الجنة، ومن هجره وتركه وراء ظهره قذفه الله على وجهه في النار، ومن التمس فيه الهداية هداه الله، فهو شفاء لما في الصدور، (قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ) [فصلت:44].
عباد الله: فمن اراد أن يكلم الله -عز وجل- ويكلمه فعليه بقراءة القرآن كل وقت وحين، ومن أراد أن يطلع على معجزة محمد الخالدة فعليه بتلاوة كتاب الله دائما، فالناس بالنسبة لتلاوة كتاب الله والإقبال عليه وتدبره أصناف:
فمنهم من هداه الله فهو يتلوه آناء الليل وأطراف النهار، فتظهر آثاره على سلوكه وأخلاقه وكلامه وعلاقته مع الله ومع الناس، فهو على نور من ربه، فيحبه الله، ويحبه الناس: (قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ) [فصلت:44].
ومنهم من لايعرف القرآن إلا في شهر رمضان، فإن جاء رمضان أزال الغبرة عن كتاب الله من طول الهجران له، فتظهر آثار هجرانه وانقطاعه عنه على سلوكه وأخلاقه وكلامه وعلاقته مع الله ومع الناس، فهو يمشي في ظلماتٍ إذا أخرج يده لم يكد يراها، فيبغضه الله، ويبغضه الناس، (وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ).
ومنهم من يقرأ القرآن بدون تدبر له، فلا يعمل بأحكامه، ولا يأتمر بأوامره، ولا ينتهي بنواهيه، فهذا يكون القرآنُ حُجَّةً عليه لا له، فالقرآن حجة لك أو عليك، والله يقول في محكم كتابه: (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ) [ص:29].
لم يقل كتاب أنزلناه ليهجروه أحد عشر شهرا، ولم يقل كتاب أنزلناه ليقرؤوه في رمضان فقط، ولم يقل كتاب أنزلناه ليقرؤوه فقط؛ بل قال: (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ)، فالحكمة والغاية من نزوله ليدبروا آياته، وما تدبُّر آياته إلا باتِّباعه.
أما والله ما هو بحفظ حروفه وإضاعة حدوده، حتى إن أحدهم ليقول: قد قرأت القرآن كله فما أسقطت منه حرفاً واحداً، وقد والله أسقطه كله، ما يُرى له القرآن في خلق ولا عمل!.
وهنالك صنف من الناس يقرؤون القران فيتدبرون آياته فيعملون بأحكامه، فيأتمرون بأوامره وينتهون بنواهيه، فالقران يكون حجة لهم لا عليهم، وشفيعا لهم يوم القيامة، فكما قال رسول الله: "يأتي القرآن وأهله الذين يعملون به في الدنيا تقدمه سورة البقرة وآل عمران تحاجَّان عن صاحبهما".
وضرب لهما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثلاثة أمثال، قال: "تأتيان كأنهما غيايتان وبينهما شرق، أو كأنهما غمامتان سوداوان، أو كأنهما ظلة من طير صواف، تجادلان عن صاحبهما"، فصاحبهما هو الذي كان يعمل بهما في الدنيا وبالقرآن، فتجد السكينة على سلوكه ومشيه وكلامه وكأن على رأسه الطير من خشية الله! (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) [محمد:24].
فعَنْ الْبَرَاءِ قَالَ: كَانَ رَجُلٌ يَقْرَأُ سُورَةَ الْكَهْفِ، وَعِنْدَهُ فَرَسٌ مَرْبُوطٌ بِشَطَنَيْنِ، فَتَغَشَّتْهُ سَحَابَةٌ، فَجَعَلَتْ تَدُورُ وَتَدْنُو، وَجَعَلَ فَرَسُهُ يَنْفِرُ مِنْهَا، فَلَمَّا أَصْبَحَ أَتَى النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: "تِلْكَ السَّكِينَةُ تَنَزَّلَتْ لِلْقُرْآنِ".
فعلامةُ الصِّدق والإيمان كثرةُ قراءةِ القرآن، وعلامةُ القَبول تدبُّرُ القرآن، فمَن أراد الرفعة والمكانة في الدنيا فعليه بالقرآن، مصداقا لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواما، ويضع به آخرين".
قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- لأحد ولاته على مكة، وقد ترك هذا الوالي مكة ولقيه في الطريق، قال له عمر: كيف تركت مكة وأتيتني؟ فقال الوالي: ولَّيْتُ عليها فلاناً يا أمير المؤمنين. فقال عمر: ومَن هذا؟ فقال الوالي: عبد من عبيدنا، ومولى من موالينا. فقال عمر: ثكلتك أمك! تولي على مكة مولى وعبداً؟ فقال الوالي: يا أمير المؤمنين، إنه حافظ لكتاب رب العالمين، عالم بالفرائض. فدمعت عينا عمر بن الخطاب وقال: صدق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذ يقول: "إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواما ويضع به آخرين".
فيا أمة القرآن: إذا أردتم الرفعة والمكانة وسيادة الأمم وقيادتها فلن يكون ذلك إلا بالعودة والرجوع إلى كتاب الله، فلن يصلح آخِر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، فإياكم ثم إياكم وهجْرَ القرآن! حتى لا يشكوكم الرسول -صلى الله عليه وسلم- لله -تبارك وتعالى-، حيث يقول الله -تبارك وتعالى- على لسان نبيه -صلى الله عليه وسلم- (وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآَنَ مَهْجُورَاً) [الفرقان:30]، يقول ابن عباس -رضي الله عنه-: "مَن لم يختم القرآن في الشهر فقد هجَره".
ويا أمة القرآن: من ذا الذي يقرأ القرآن إن لم تقرؤوه؟ ومن ذا الذي يتدبره إن لم تتدبروه؟ ومن ذا الذي يقيم حدوده إن لم تقيموا حدوده؟ فوالله! لا نصر ولا تمكين ولا عزة ولا رفعة ولا هيبة ولا قيادة ولا ريادة إلا بهذا القرآن؛ لذا يقول أحد أعداء الإسلام: ثلاثٌ مادامت عند المسلمين فلن تستطيعوا إخراجهم من دينهم: القرآن في صدورهم، والمنبر يوم الجمعة، والكعبة التي يرتادها الملايين من المسلمين. فإذا قضي علي هذه الثلاث قضي علي الإسلام والمسلمين. (يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ)[الصف:8].
فلْيحذر كل منا -عباد الله- أن يؤتى الإسلام من قبله، فكل منا مسؤول عن هذا الدين، فأقبِلوا -عباد الله- على بيوتكم وقلوبكم وأبنائكم، أقبلوا عليها بالنهوض بها بكتاب الله، فاسترشدوه يُرشدْكم، وتدبروه يُعِنْكم بإذن الله، واستهدوه يهدكم، وخاصة ونحن في شهر القرآن، شهر رمضان.
فأسأل الله أن يجعلنا ممن يقرؤون القرآن، ويتدبرونه، ويقيمون حدوده، وأن يجعل شهر رمضان شهر نصر للقرآن وللإسلام، وعزٍّ للمسلمين.
عباد الله: في يوم العرض على الله والوقوف بين يديه نقرأ صحائف أعمالنا، وتوزن حسناتنا وسيئاتنا، سنجد أنفسنا نلهث وراء مثقال ذرة من الخير تثقل كفة الصالح من أعمالنا، فماذا إذا وجدنا في هذه اللحظات الرهيبة من يشفع لنا ويخفف عنا وطأة ذنوبنا وأخطائنا؟ إنه القرآن الكريم الذي يردّ لنا في الآخرة جزاء تذكرنا له في الدنيا والانكباب علي صفحاته وآياته، أو يعاقبنا علي هجرانه ونسيانه، وفي هذا الصدد نجد توجيه نبينا الكريم للمسلمين حيث يقول -صلى الله عليه وسلم-: "اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه".
روي عبد الله بن عمرو أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: أي ربّ، منعتُه الطعام والشهوات بالنهار فشفعني فيه، ويقول القرآن: منعتُه النوم بالليل فشفِّعْني فيه". قال: "فيشفعان".
وشفاعة القرآن من وجهين :الأول: إن كان عليه ذنوب وخطايا شفع له القرآن في تخليصه منها، والثاني: إن لم يكن عليه ذنوب شفع له القرآن في رفع درجته في الجنة؛ وكل ذلك بفضل الله -تعالى- وكرمه.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي