وأضاءت ليالي العشر الأواخر من رمضان

عبد الله بن علي الطريف
عناصر الخطبة
  1. حكمةُ توقيتِ ليلة القدر وخفائها .
  2. بعضُ ما يعيننا على الجدّ .
  3. شأنُ الدقيقةِ لو استُثْمِرَتْ .
  4. الدعاءُ ومسائلُ تتعلق به .
  5. الاهتمام بالأهل في العشر تأسيًا بالنبي الكريم .

اقتباس

ومما يعيننا على الجد: الاستعانة بالله على أنفسنا الأمَّارة بالسوء، والاستعاذة بالله مِن كُلِّ مُثَبِّطٍ، وأن نتغلب على بلاء العجز والكسل بالدعاء النبوي، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله منهما لئلا يعجز أو يكسل عما يلزمه فعله من منافع الدين والدنيا، فيقول: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ".

أيها الأحبة: هكذا الدنيا، وهكذا الأيام تتقضَّى وتذهب، وكأنها لم تمر، ها هي العشر الأواخر من شهر الخير تحل بساحتنا، وهي أفضل ليالي العام، فهنيئًا لمن أدركها، وهنيئًا لمن وُفِّق لقيامها، وهنيئًا لمن وفق فيها لإدراك ليلة القدر. 

معاشر الإخوة: مع حلول العشر، جميلٌ أن نتواصى باستثمارها من باب: (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) [الذاريات:55]، قال السعدي: النوع الثاني من التذكيرِ تذكيرٌ بما هو معلوم للمؤمنين، ولكن انسحبت عليه الغفلة والذهول، فيُذكَّرون بذلك، ويكرر عليهم ليرسخ في أذهانهم، وينتبهوا ويعملوا بما تذكروه من ذلك، وليُحدث لهم نشاطًا وهمة، توجب لهم الانتفاع والارتفاع. اهـ.

من هذا المنطلق أقول أحبتي: من سنن الحياة أن الإنسان في نهاية كل عمل يدب إلى نفسه الكسل والفتور، ولعل من الحكمة أن الله جعل ليلة القدر في آخر الشهر حتى تتجدد العزائم ويتنافس المتنافسون، وأخفاها عن الناس من أجل استمرارهم في الجد والاجتهاد، ومن وُفق لقيام العشر مع إمامه حتى ينصرف فليبشر في إدراكها إن شاء الله، وما عليه إلا أن يجتهد في التضرع إلى الله، والتقرب إليه.

ومما يعيننا على الجد: الاستعانة بالله على أنفسنا الأمَّارة بالسوء، والاستعاذة بالله مِن كُلِّ مُثَبِّطٍ، وأن نتغلب على بلاء العجز والكسل بالدعاء النبوي، فقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يستعيذ بالله منهما لئلا يعجز أو يكسل عما يلزمه فعله من منافع الدين والدنيا، فيقول: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ".

والفرق بين العجز والكسل أن الكسل ترك الشيء مع القدرة على الأخذ في عمله، والعجز عدم القدرة.

أيها الإخوة: إن علينا أن نستثمر دقائق هذه الأيام الفاضلة، وقلتُ: دقائق، ولم أقل: أيام، وذلك أن الدقيقة لها شأن عجيب إذا تم استثمارها بالخير، فمثلاً: في الدقيقة نستطيع أن نقول: "سبحان الله وبحمده" ستين مرة، و"لا إله إلا الله وحده" ثِنتي عشرة مرة، وفيها يتمكن المؤمن من قراءة أكثر من عشرين آية قصيرة من كتاب الله، وهذا فضل عظيم، فقد خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- على أهل الصُّفَّةِ فَقَالَ: "أَيُّكُمْ يُحِبُّ أَنْ يَغْدُوَ كُلَّ يَوْمٍ إِلَى بُطْحَانَ أَوْ إِلَى الْعَقِيقِ، فَيَأْتِيَ مِنْهُ بِنَاقَتَيْنِ كَوْمَاوَيْنِ فِي غَيْرِ إِثْمٍ وَلاَ قَطْعِ رَحِمٍ؟!"، فَقُلْنَا: كلنا -يَا رَسُولَ اللَّهِ- نُحِبُّ ذَلِكَ. قَالَ: "أَفَلاَ يَغْدُو أَحَدُكُمْ إِلَى الْمَسْجِدِ فَيَعْلَمَ أَوْ يَقْرَأَ آيَتَيْنِ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ؟! خَيْرٌ لَهُ مِنْ نَاقَتَيْنِ، وَثَلاَثٌ خَيْرٌ لَهُ مِنْ ثَلاَثٍ، وَأَرْبَعٌ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَرْبَعٍ، وَمِنْ أَعْدَادِهِنَّ مِنَ الإِبِلِ". رواه مسلم.

ليالي العشر -أيها الإخوة- ليالي القيام، احرصوا -وفقني الله وإياكم- على أن لا يفوتكم شيء من صلاة التراويح والقيام، من تكبيرة الإحرام حتى السلام من الوتر، فقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "مَن قام مع الإمام حتى ينصرف كُتب له قيامُ ليلة، ومن قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه".

ليالي العشر ليالي الدعاء، تفرّغ فيها عموم المسلمين للطاعة، يرفع فيها الأئمة الدعوات إلى الباري -جل وعلا- في آخر كل ليلة في قنوتهم ويُؤمّنُ عليها المصلون، ويلهجون جميعًا لله بالدعاء في سجودهم وجلوسهم وخلواتهم.

جميل أن نتذكر قول الرَسُولِ -صلى الله عليه وسلم-: "يَنْزِلُ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ فَيَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ؟! وَمَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ؟! وَمَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ؟!". متفق عليه.

أحبتي: الله جل جلاله، الملك القدوس العزيز الجبار المتكبر، ينادي بودٍّ عبادَه فيقول: مَن يدعوني؟! من يسألني؟! من يستغفرني؟! أين نحن من هذه العروض الربانية الضخمة، والدعوة الكريمة المتوددة؟! كيف يطيب لنا سمر ونغفل عن هذه العروض ونحن المحتاجون الضعفاءُ لمسألته وفضله وجوده؟! لماذا لا نعرض حاجتنا عليه، ونمرغ أنوفنا بين يديه، وننيخ مطايانا ببابه؟! فمَن الذي دعاه بصدق فخيَّبه؟! بل مَن الذي انطرح بين يديه بصدق فأعرض عنه وتركه؟! آه من تقصيرنا! ثم آه! ثم آه!

فما لنا عن هذا الباب المشرع للإجابة غافلين، وفي طَرقه مترددين، وعن ولوجه متأخرين، وعن إجابته متثاقلين؟! والله! لو ألحّ علينا سائل بقليل لاستجبنا وأسرعنا، فما لنا لا نستجيب؟!

واحذروا من الغفلة أثناء الدعاء والتأمين عليه، فقد حذّر من ذلك رسولنا -صلى الله عليه وسلم-، فعَن أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "ادْعُوا اللَّهَ وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالإِجَابَةِ، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ لا يَسْتَجِيبُ دُعَاءً مِنْ قَلْبٍ غَافِلٍ لاهٍ". رواه الترمذي وحسنه الألباني.

واستحضِروا معاني الدعاء، وأَظْهِروا الافتقار والذل بين يدي لله أثناء دعائكم، ولا تستبطئوا الإجابة، فعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: "لاَ يَزَالُ يُسْتَجَابُ لِلْعَبْدِ مَا لَمْ يَدْعُ بِإِثْمٍ أَوْ قَطِيعَةِ رَحِمٍ، مَا لَمْ يَسْتَعْجِلْ". قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: مَا الاسْتِعْجَالُ؟! قَالَ: "يَقُولُ: قَدْ دَعَوْتُ وَقَدْ دَعَوْتُ فَلَمْ أَرَ يَسْتَجِيبُ لِي، فَيَسْتَحْسِرُ عِنْدَ ذَلِكَ وَيَدَعُ الدُّعَاءَ". أي: ينقطع عن الدعاء. رواه مسلم.

أيها الأحبة: أدعو نفسي وإخواني من الأئمة والمأمومين لترتيب دعائهم، بأن نرتب دعاءنا فندعو لأنفسنا، ونستوعب حاجاتنا، ثم ندعو لوالدينا وذريتنا وأزواجنا ومن نحب بخيري الدنيا والآخرة، ثم ندعو لإخواننا المسلمين من السابقين الأولين واللاحقين عمومًا، ثم نخص المظلومين والمعوزين في سوريا وفلسطين وبورما وغيرها، قال الله تعالى: (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) [الحشر:10].

قال الشيخ السعدي: وهذا دعاء شامل لجميع المؤمنين السابقين من الصحابة، ومَن قبلهم، ومن بعدهم، وهذا من فضائل الإيمان أن المؤمنين ينتفع بعضهم ببعض، ويدعو بعضهم لبعض، بسبب المشاركة في الإيمان المقتضي لعقد الأخوة بين المؤمنين، التي من فروعها أن يدعو بعضهم لبعض، وأن يحب بعضهم بعضًا.

وندعو لولاة الأمر من العلماء والأمراء والولاة بخير؛ قال النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "دُعَاءُ الْمُسْلِمِ مُسْتَجَابٌ لأَخِيهِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ، عِنْدَ رَأْسِهِ مَلَكٌ مُوَكَّلٌ، مَا دَعَا لأَخِيهِ بِخَيْرٍ إِلا قَالَ لَهُ: آمِينَ وَلَكَ بِمِثْلِهِ". رواه البغوي واللفظ له، وابن ماجه، وصححه الألباني.

أيها الأئمة، أيها الإخوة: احرصوا على جوامع الدعاء، ولو لم تطيلوا فيه، ودعوا التفاصيل الدقيقة التي قد توقعكم بالاعتداء بالدعاء.

أما دعاء المأمومين الخاص في أي ركن من الصلاة فالواجب فيه خفض الأصوات، فكل واحد منهم يناجي ربه، ولا يخفى عليه -سبحانه- شيء في الأرض ولا في السماء.

لَمَّا غَزَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- خَيْبَرَ أَشْرَفَ النَّاسُ عَلَى وَادٍ فَرَفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بِالتَّكْبِيرِ: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ! لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، إِنَّكُمْ لا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلا غَائِبًا، إِنَّكُمْ تَدْعُونَ سَمِيعًا قَرِيبًا وَهُوَ مَعَكُمْ". رواه البخاري.

ومعنى اربعوا على أنفسكم: ارفقوا بأنفسكم، واخفضوا أصواتكم، فإن رفع الصوت إنما يفعله الإنسان لبعد من يخاطبه ليسمعه، وأنتم تدعون الله -تعالى-، وليس هو بأصمَّ ولا غائب؛ بل هو سميع قريب.

أسأل الله تعالى بمنه وكرمه أن يوفقنا لقيام ليلة القدر، ويتقبل منا، إنه جواد كريم.

الخطبة الثانية:

أيها الإخوة: الواجب على كل ولي أن لا يتشاغل بأمور مباحة أو مشروعة عن بيته وأسرته، بل يكون قريبًا منهم.

دعوة مني للجميع بأن نقترب من أهلنا، نقضي حوائجهم، ونحثهم على الخير، ونرغبهم فيه، من الصلاة المفروضة وقيام الليل؛ قالت عائشة: "كان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا دخل العَشْرُ الأَواخر من رمضان أحيا الليلَ، وأيقظَ أهلَه -أي: للصلاة والذكر- وَجدَّ، وشَدَّ المِئْزَرَ". أي إنه -صلى الله عليه وسلم- يحيي الليل كله في عبادة ربه من الذكر، والقراءة، والصلاة، والاستعداد لذلك، والسحور، وغيرها.

قالت زينبُ بنتُ أمِ سلمة: لم يكن النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا بقي من رمضان عشرة أيام يدع أحدًا من أهله يطيق القيام إلا أقامه؛ حرصًا منه -صلى الله عليه وسلم- على اغتنام هذه الليالي المباركة بما هي جديرة به من العبادة.

قال الله -تعالى-: (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى) [طه:132]. قال السعدي: أي: حث أهلك على الصلاة، وأزعجهم إليها من فرض ونفل، (وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا) أي: على الصلاة بحدودها وأركانها وآدابها وخشوعها؛ فإن ذلك مشقٌّ على النفس، ولكن ينبغي إكراهها وجهادُها على ذلك، والصبر معها دائمًا.

أيها الإخوة: لا ينبغي للمؤمن العاقل أن يفوّت هذه الفرصة الثمينة على نفسه وأهله، فما هي إلا ليالٍ معدودة ربما يدرك الإنسان فيها نفحة من نفحات المولى فتكون سعادة له في الدنيا والآخرة.

وإنه لمن الحرمان العظيم، والخسارة الفادحة، أن ترى بعض المسلمين يُمْضُون هذه الأوقات الثمينة بالسهر فيما لا ينفعهم، أو بأمور ليست مهمة، ويمكن أن تقضى في وقت آخر بعد الشهر الكريم، ويفوّتون على أنفسهم وأهليهم خيرًا كثيرًا لعلهم لا يدركونه بعد عامهم هذا أبدًا؛ وهذا من كيد الشيطان، وصده لهم عن الخير.
 


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي