إنَّ وجودَ الأهداف السامية عند شباب الأمَّة وجيلها الصاعد ووضوحها يكاد يكون معدومًا في هذا الزمان، أما من وضع له هدفًا منهم فلم يتجاوز الأهدافَ الدنيويةَ القريبةَ، إلا مَنْ رَحِمَ اللهُ، وقليلٌ مَّا هُمْ، وهذا هو الفرق بين المجتمع المنتج الحي الذي يربي أبناءه على الوضوح والتطلع لمعالي الأمور، وبين المجتمع المستهلك الميت الذي ليس له هدفٌ واضحٌ يسعى إليه ..
الحمد لله الذي جعل الشمس ضياءً، والقمر نورًا، وقدَّره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب، والحمد لله الذي جعل الليل والنهار خِلْفَةً لمن أراد أن يذَّكَّر أو أراد شكورًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، ومنه المبتدأ وإليه المآب.
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أفضلَ من تعبد لله وأناب، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان، وسلم تسليمًا.
أما بعد:
أيها الإخوة: تبصَّروا في هذه الأيام والليالي؛ فإنها مراحل تقطعونها إلى الدار الآخرة حتى تنتهوا إلى آخر سفركم، وإن كل يوم يمر بكم -بل كل لحظة- يبعدكم عن الدنيا ويقربكم من الآخرة، قال الحسن -رحمه الله-: "يا ابن آدم: إنّما أنت أيامٌ مجموعة، كلّما مضى يومٌ مضى بعضُك".
أيها الأحبة: هذه الأيام والليالي خزائن لأعمالكم، محفوظة لكم، شاهدة بما فيها من خير أو شر، فطُوبَى لعبد اغتنم فُرَصها بما يقرب إلى الله! طوبى لعبد شغلها بالطاعات واجتناب العصيان! طوبى لعبد اتعظ بما فيها من تقلبات الأمور والأحوال! فاستدل بذلك على ما لله فيها من الحكم البالغة والأسرار: (يُقَلبُ اللّهُ اللّيْلَ وَالنّهَارَ إِنّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُولِي الْأَبْصَارِ) [النور:44].
أيها الأحبة: وتدور الأيام دورتها، وتعود الحياة إلى طبيعتها، ويتكرر المنظر الجميل الدال على الجد والنشاط، وينطلق أبناءُ الأمة وبناتُها إلى دور التربية والتعليم لينهلوا مِن مَعينها، إنه منظر يسر الناظر لمجدِ أمته، المتطلع لعز دينه ووطنه، وهل أمةٌ سادت بغير التعلم؟! وأعلى من ذلك وأجلّ قول المعلم والمربي الأول -صلوات ربي وسلامه عليه-: "مَن سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهّل الله له به طريقًا إلى الجنة". رواه مسلم.
ها نحن نعود، والعَوْدُ أحمَدُ، لنستقبل عامًا دراسيًا جديدًا، نسأل الله بمَنِّهِ وكرمه أن يجعله عام خير وبركة وسؤدد، ولابد لنا أن نقف معه وقفاتٍ سريعةً نخاطب بها ولي الأمر، والمعلم، والطالب أو الطالبة.
أيها الأحبة، أيها الأولياء: نستعد جميعًا للعام الدراسي الجديد استعدادًا ماديًا بشراء ما يحتاجه الأولاد من لوازمَ ماديةٍ مدرسية وملابس وغيرها، ولعلَّنا في خِضَمِّ ذلك لا ننسى الاستعداد المعنوي والنفسي للتعلم، وذلك بغرس الأهداف السامية في نفوس الناشئة، فضلاً عن وضوحها عندنا، فالطالب أو الطالبة يقضي كل واحد منهما في المدرسة في اليوم ست ساعات، وفي عمره الدراسي في التعليم العام قرابة أربعَةَ عشرَ ألف ساعة دراسية كاملة! فهل أوضحنا لهم الهدف من هذه الدراسة، وذَكرناهم باحتساب الأجر عند الله، وغرسنا لديهم الرغبة في المساهمة في النهوض بوطنهم وأمتهم إلى المقدمة، متسلحين بقيمهم الإسلامية، منكرين لذواتهم ورغباتهم الخاصة؟!
إنَّ وجودَ الأهداف السامية عند شباب الأمَّة وجيلها الصاعد ووضوحها يكاد يكون معدومًا في هذا الزمان، أما من وضع له هدفًا منهم فلم يتجاوز الأهدافَ الدنيويةَ القريبةَ، إلَّا مَنْ رَحِمَ اللهُ، وقليلٌ مَّا هم، وهذا هو الفرق بين المجتمع المنتج الحي الذي يربي أبناءه على الوضوح والتطلع لمعالي الأمور، وبين المجتمع المستهلك الميت الذي ليس له هدفٌ واضحٌ يسعى إليه.
أيها الإخوة: ومما يجب علينا نحو هذا الجيل من أولادنا وهم مقبلون على التعامل مع طائفة كبيرة من أبناء المسلمين الذين يشاركونهم في التعلم، أن نغرس في نفوسهم معنى الإيثار بدل الأنانية والأثرة، وحفظ اللسان عن الغيبة والاستهزاء والسخرية بالآخرين من المعلمين أو المعلمات أو غيرهم، والتسامح بدل حب الذات، والتعاون مع زملائهم بدل السلبية وعدم تحمل المسؤولية؛ فهم إخوة يسعون إلى هدف واحد هو نفع أنفسهم وأمتهم.
وينبغي التأكيد على ذلك باستمرار، وخصوصًا عند وجود مواقف تستدعي ذلك يقصها الأولاد عند عودتهم من المدارس، وأن نكرر على مسامعهم باستمرار أن المدرسة إحدى سبل التعلم، وليست السبلَ كُلها، وأن نعودَهم على الاعتماد على النفس والتنظيم بأن يقوموا بأنفسهم بإعداد ما يحتاجون ليومهم الدراسي مبكرين، وأن نعْلَم علمَ يقين أن الرعاية المبالغ فيها، ومبادرتنا بقضاء كل حاجاتهم التي يستطيعون القيام بها بأنفسهم، أو التي هي من الروتين اليومي، لا تصنع جيلاً معتمِدًا على نفسه وقدراته بعد الله، بل تصنع جيلاً من المتواكلين الخاملين.
وعلينا -معاشرَ الأولياء- أن نعلم أن مهمة التربيةِ والتعليم ليست مقتصرة على المدرسة؛ بل لنا فيها النصيب الأكبر، فنحن -معاشرَ الآباء- نتحمل المسؤولية الكبرى في تعليم أولادنا وتربيتهم، ونحن المخاطبون أصلاً بذلك، قال -عزَّ مِن قائل-: (يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) [التحريم:6]. وهذه الآية أصلٌ في تعليم الأهل والذرية.
وقال عليٌ -رضي الله عنه- عن قوله: (قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ): أي: علِّمُوهم وأدِّبوهم. وذكر ابن كثير -رحمه الله- عن مقاتل والضحاك قولهما: حق على كل مسلم أن يُعلمَ أهلَه من قرابته وإمائه ما فرض الله عليهم، وما نهاهم عنه.
وقال السعدي -رحمه الله-: "ووقاية الأنفس بإلزامها أمرَ الله، والقيام بأمره امتثالاً، ونهيه اجتنابًا، والتوبة عما يسخط الله ويوجب العذاب، ووقاية الأهل والأولاد، بتأديبهم وتعليمهم، وإجبارهم على أمر الله، فلا يسلم العبد إلا إذا قام بما أمر الله به في نفسه، وفيمن يدخل تحت ولايته من الزوجات والأولاد وغيرهم ممن هو تحت ولايته وتصرفه". اهـ.
ويقرر رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- أن المربي والمدرس الأول للولد وَالِده بقوله: "مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلا يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَودَانِهِ أَوْ يُنَصرَانِهِ أَوْ يُمَجسَانِهِ، كَمَا تُنْتَجُ الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ، هَلْ تُحِسّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ؟!". رواه البخاري ومسلم. والمعنى: "بهيمة جمعاء"، أي: تامة الأعضاء مستوية الخَلق. "تحسون": تبصرون. "جدعاء": مقطوعة الأذن أو الأنف أو غير ذلك. أي: إن الناس يفعلون بها ذلك، فكذلك يفعلون بالمولود الذي يولد على الفطرة السليمة.
الوقفة الثانية: مع المعلمين والمعلمات الذين شرفهم الله، لا أقول بمهنة التعليم، وإنما بحمل الرسالة العظيمة التي لم تتيسر لغيرهم إلا القليل، فأقول: إن الرسالةَ التي تؤدونها رسالةٌ عظيمة، وباب واسع من أبواب نيل الحسنات، ورفعة الدرجات، فهنيئًا لكم ما تؤدونه من واجب، وهنيئًا لكم هذا الشرف العظيم، ألا وهو تعليمُ الناس الخير، فَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيّ -رضي الله عنه- قَالَ: ذُكِرَ لِرَسُولِ اللّهِ -صلى الله عليه وسلم- رَجُلانِ، أَحَدُهُمَا عَابِدٌ والآخَرُ عالمٌ، فقال رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "فَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِي عَلَى أَدْنَاكُمْ"، ثُم قَالَ رَسُولُ اللّهِ -صلى اللهُ عليه وسلم-: "إِن اللّهَ وَمَلائِكَتَهُ، وَأَهْلَ السماوَاتِ وَالأَرَضِينَ، حَتى النّمْلَة فِي جُحْرِهَا، وَحَتّى الْحُوت، لَيُصَلّونَ عَلَى مُعَلّمِ النّاسِ الْخَيْرَ". رواه الترمذي وصححه الألباني.
والعلم إذا أطلق أُريدَ به علم الشريعة، وإذا لم يطلق فقد يدخل فيه كل علم نافع.
ويقول الشيخ محمد البشير الإبراهيمي -رحمه الله- في وصيته للمعلمين، وهو داعية سلفي جزائري: "إنكم تجلسون من كرسي التعليم على عروشِ ممالكَ رعاياها أطفالُ الأمة، فسوسوهم بالرفق والإحسان، وتدرجوا بهم من مرحلة كاملة في التربية إلى مرحلة أكمل منها، إنهم أمانة الله عندكم، وودائع الأمة بين أيديكم، سلمتهم إليكم أطفالاً لتردوها إليها رجالاً، وقدمتهم إليكم هياكلَ لتنفخوا فيها الروح، وألفاظًا لتعمروها بالمعاني، وأوعية لتملؤوها بالفضيلة والمعرفة.
أيها الأحبة: لا يقوم عمل إلا بإخلاص، فعن عُمَرَ بْنِ الْخَطابِ -رضي الله عنه- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "إِنّمَا الأَعْمَالُ بِالنّيّاتِ، وَإِنّمَا لِكُلّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا، أَوْ إِلَى امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ". متفق عليه.
إننا نجد ممَنْ شرفهم الله بهذه الرسالة مَن قد أضاعوا أجرهم بسبب تركهم للإخلاص، فترى أحدهم لا يؤدي عمله إلا لأجل المال، ولا يهتم بوقت درسه، ولا بفائدة طلابه، ولا يبالي بما يراه من سلوك منحرف، أو أخلاق رذيلة عند طلابه، والمهم عنده أن ينتهي وقت الدوام ليفك نفسه من هم ذلك اليوم وغمه، ولم يخطر على باله أبدًا أنه يؤدي رسالة في مجتمعه، لِيَخْرُجَ مِن تحت يده مَن يعلم الناس، ويقضي بينهم، ومن يعالج مرضى المسلمين، ومن يذود عن البلاد، وغيرهم، فينال هذا المعلم كل ما يُكتب لأولئك من الحسنات إن هو أخلص في دينه وعمله.
اللهم ارزقنا الإخلاص في القول والعمل، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم...
أيها المعلمون: عليكم بالرفق واللين في كل شيء، حتى في العقوبة، فعَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها-، عَنْ النّبِيّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "إِنّ الرّفْقَ لا يَكُونُ فِي شَيْءٍ إِلا زَانَهُ، وَلا يُنْزَعُ مِنْ شَيْءٍ إِلا شَانَهُ". رواه مسلم.
أحبتي: كم ارتفع قدر معلمٍ عند طلابه بالرفق والمعاملة الحسنة! وكم صلُح حالُ طلابٍ بالرفق والمعاملة الحسنة!
أيها المعلمون: إذا أردتم المعاقبة فلا تعاقبوا بالضرب، فعَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قَالَتْ: "مَا ضَرَبَ رَسُولُ اللّهِ -صلى الله عليه وسلم- شَيْئًا قَط بِيَدِهِ، وَلا امْرَأَةً، وَلا خَادِمًا، إِلا أَنْ يُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللّهِ، وَمَا نِيلَ مِنْهُ شَيْءٌ قَطّ فَيَنْتَقِمَ مِنْ صَاحِبِهِ، إِلا أَنْ يُنْتَهَكَ شَيْءٌ مِنْ مَحَارِمِ اللّهِ فَيَنْتَقِمَ لِلّهِ -عَزّ وَجَلّ-". رواه مسلم.
بل قد أمرنا في حال الحرب، ونحن نقاتل الكفار الذين يخالفون ديننا وشريعتنا، أن نتجنب الوجه، فعن أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قال: قَالَ النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إِذَا قَاتَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَجْتَنِب الْوَجْهَ" متفق عليه. وفي رواية عند مسلم: "إِذَا قَاتَلَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلاَ يَلْطِمَن الْوَجْهَ". فما بالنا نقسو في عقاب أبناء المسلمين؟! ما بالنا نعاقبهم عقابًا ربما أدى بهم إلى إعاقة؟!
ثم اعلموا أن المعاملة الطيبة تُقَوّم كثيرًا من الانحرافات، وتُدخل الناس في دين الله -عز وجل-، وإن من أجَلِّ مهِمَّات المعلم تعليم الناس الخير، ونصحهم وإرشادهم.
أيها الأبناء، يا فلذات الأكباد، وأملنا بعد الله: أهلوكم وأمتكم يتطلعون إليكم لتكونوا صالحين مصلحين، فاللهَ اللهَ! أرُوهمْ من أنفسكم خيرًا بالجد والاجتهادِ بطلبِ العلمِ، وعلو الهمةِ، والحرصِ على معالي الأمور، والبعدِ عن سفسافها.
أخلصوا النية في طلب العلم، فالأمة بحاجة إليكم، فأنتم رجال المستقبل، والأملُ -بعد الله- فيكم.
الزموا تقوى الله، والتقوى أن يتخذ العبد من عذاب الله وقاية؛ بفعل أوامره واجتناب نواهيه، ومَن اتقى الله فتح الله له من أبواب الفهم للعلم ما لا يخطر لكم ببال، قال الله تعالى: (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [البقرة:282].
وقد أَمَرَ الله بِالتّقْوَى هنا لأَنّهَا مِلاكُ الْخَيْرِ، وَبِهَا يَكُونُ تَرْكُ الْفُسُوقِ، وَقَوْلُهُ: (وَيُعَلّمُكُمُ اللّهُ) فِي عَطْفِهِ عَلَى الأَمْرِ بِالتّقْوَى إِيمَاءٌ إِلَى أَنّ التّقْوَى سَبَبُ إِفَاضَةِ الْعُلُومِ.
وقال الثعالبي: من اتقى الله عُلّمَ الخَيْرَ وأُلْهِمَهُ. قال الإمام مالك -رحمه الله-: سَمِعْتُ أنّه يقالُ: ما زَهِدَ عَبْدٌ واتقى اللّهَ إِلا أنْطَقَهُ اللّهُ بالحكْمَة.
اللهم اجعل هذا العام عام خير وصلاح وفلاح، وفِّق أولاد الأمة للخير، وجنبهم الشر، واجعلهم هداة مهتدين.
أحبتي: صلوا على حبيبنا وإمامنا محمد...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي