ابتُلي بعض المسلمين اليوم بلبس الحق بالباطل، فهناك من ينكر أسماءَ الله وصفاتِه، ويحرفُ في كتابِ الله من أجل إنكار أسماء الله وصفاته، ويفسرُ الآيات التي أثبتت أسماء الله وصفاتِه على غير مراد الله. ومن التلبيس عند بعضهم اليوم: ما يجري من الخلط بين الحق والباطل في المحاكم القانونية، حين يجعلون جزءًا منها يحكْمُ بالشريعة، وبقية ذلك بالقانون الطاغوتي. ولبسُ الحق بالباطل له طرق كثيرة بعضها ..
الحمد لله...
لما بُعث النبي -صلى الله عليه وسلم- وظهر نور نبوَّة خاتم المرسلين في الأرض عظُم الأمر على اليهود والنصارى، وازداد الحسد والبغي وتوجهت الأنظار للقضاء على هذا الحق الذي ظهر في الأرض: (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) [التوبة: 32].
وكان من صنيعهم لبسُ الحق بالباطل، وكتمان الحق، وقد أرادوا من صنيعهم هذا أن لا يتميز الحق عن الباطل، كما أنهم أرادوا من ذلك ترويج الباطل. فالكفار قد يذكرون الحق لا للرغبة فيه وإنما لترويج الباطل به: (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ * وَآَمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآَيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ * وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [البقرة: 40- 42]، وقال سبحانه: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [آل عمران: 71].
وإضلال الناس لا يخلو من حالين:
أحدهما: أن يكون هذا الإنسان قد سمع دلائل الحق. وطريق إضلال هذا بتشويشها عليه، وتشكيكه فيها.
الثاني: أن لا يكون قد سمع ذلك. وطريق إضلال هذا يكون بكتمانها عنه.
وقد سلك بنو إسرائيل في لبس الحق بالباطل مسالك شتى:
منها تحريف التوراة والإنجيل، وخلطُ صدقهما المنزل بكذبهما المحرف؛ بحيث لا يتميز أحدهما عن الآخر عند أكثر الناس.
ومنها تأولهم ما في كتبهم تأولاً فاسدًا.
ومنها خلط اليهودية والنصرانية بالإسلام، وهم يعلمون أن الدين الحق هو الإسلام، وأن محمدًا -صلى الله عليه وسلم- رسول الله.
ومنها الإيمان ببعض الكتاب والكفر ببعضه الآخر، فإنهم قد خلطوا بين الإيمان ببعض الكتاب والكفر ببعضه الآخر.
ومنها الإقرار بالحق ليتوصلوا به إلى دفعه، كإقرارهم بأن النبي -صلى الله عليه وسلم- مبعوث لكن إلى غيرهم. وكذلك لما أسلموا أول النهار ليكفروا آخره؛ وكل ذلك تلبيسًا على الناس وإلقاءً للشك في قلوبهم.
ومنها تلبيسهم على المشركين بزعمهم أنهم أهدى سبيلاً من المؤمنين، وتفضيلهم دينهم على دين المسلمين، إلى غير ذلك من مسالك لبس الحق بالباطل التي سلكوها.
وأما أهل الجاهلية الأميين فكانوا يلبسون الحق بالباطل، كانت قريش تشكك فيما جاء به النبي -صلى الله عليه وسلم-، فتارة يزعمون أنه سحر، وتارة يزعمون أنه كهانة، وتارة يزعمون أنه شعر، وتارة يزعمون أنه لا يعدو كونه أساطير الأولين، وتارة يدّعون القدرة على الإتيان بمثله، وغير ذلك، وكل هذا قصدوا من ورائه لبس الحق الذي جاء به النبي -صلى الله عليه وسلم- بالباطل الذي ادعوه؛ قال تعالى عنهم: (وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ) [غافر: 5].
لما قدم الطفيل بن عمرو الدوسي إلى مكة اجتمع به أشراف قريش وحذّروه من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ونهوه أن يجتمع به أو يسمع كلامه، قال: "فوالله مازالوا بي حتى أجمعت أن لا أسمع منه شيئًا ولا أكلمه، حتى حشوت أذني حين غدوت إلى المسجد كُرسفًا -يعني القطن-؛ فَرَقًا من أن يبلغني شيءٌ من قوله، وأنا لا أريد أن أسمعه، قال: فغدوت إلى المسجد فإذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قائم يصلي عند الكعبة، قال: فقمت منه قريبًا فأبى الله إلاّ أن يسمعني بعض قوله، قال: فسمعت كلامًا حسنًا، قال: فقلت في نفسي: واثكل أُمي! والله إني لرجل لبيب شاعر ما يخفى عليَّ الحسن من القبيح، فما يمنعني أن أسمع من هذا الرجل ما يقول، فإن كان الذي يأتي به حسنًا قبلته، وإن كان قبيحًا تركته. قال: فمكثت حتى انصرف رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فاتبعته حتى إذا دخل بيته دخلت عليه فقلت: يا محمد: إن قومك قالوا لي كذا وكذا للذي قالوا، قال: فوالله ما برحوا بي يخوفونني أمرك حتى سددت أُذني بكرسف لئلا أسمع قولك، ثم أبى الله إلا أن يُسمعني قولك، فسمعت قولاً حسنًا، فاعرض عليَّ أمرك. قال: فعرض عليَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الإسلام، وتلا عليَّ القرآن، فلا والله ما سمعت قولاً قطّ أحسن منه ولا أمرًا أعدل منه. قال: فأسلمت وشهدت شهادة الحقَّ".
بارك الله لي ولكم..
الحمد لله...
وبعد:
لقد ذم الله -جل وعلا- هذه الخصلة الشنيعة، وهي لبس الحق بالباطل، فقال سبحانه: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [آل عمران: 71]، وقال سبحانه: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ) [آل عمران: 187].
وقد ابتُلي بعض المسلمين اليوم بلبس الحق بالباطل، فهناك من ينكر أسماءَ الله وصفاتِه ويحرفُ في كتابِ الله من أجل إنكار أسماء الله وصفاته، ويفسرُ الآيات التي أثبتت أسماء الله وصفاتِه على غير مراد الله.
ومن التلبيس عند بعضهم اليوم: الاستدلالُ على الباطل بنصوص الكتاب والسنة مع عدم دلالتها على ذلك.
ومن ذلك خلط الحق بالباطل من أجل إفساد المرأة المسلمة وخروجها سافرةً متبرجة.
ومن ذلك ما يجري من الخلط بين الحق والباطل في المحاكم القانونية، حين يجعلون جزءًا منها يحكْمُ بالشريعة، وبقية ذلك بالقانون الطاغوتي.
ومن لبس الحق بالباطل: تصويرُ الحق بصورٍ ينفِرُ منها ذوو القلوب الحية؛ كتصويرهم التدينُ بالتشدد والتطرف، وتصويرهم الحجاب بالظلم للمرأة، ونحو ذلك.
ومن لبس الحق بالباطل: إظهارُ الباطل بمظهر الحق، كتسمية سبّ الدين والقول على الله بلا علم يسمونه حرية الكلمة.
ولبسُ الحق بالباطل له طرق كثيرة بعضها أقوى من بعض، وكلُّ من لبّس على الناس فهو على خطر عظيم، وسيقف بين يدي الله سبحانه، وسيسأله عن قوله.
فاتقوا الله يا عباد الله، واحذروا من أهل التلبيس، فقد حذركم نبيكم -صلى الله عليه وسلم- فقال: "إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه فأولئك الذين سمى الله، فاحذروهم".
اللهم...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي