التمكين في الأرض مطلب يبحث عنه السادة والزعماء، ويلهث وراءه الكثير، ولا يحققه إلا القليل؛ لأنه منحة إلهية ذات مواصفات وشروط معينة لا يهبها الله تعالى إلا من يشاء من خلقه، وغاية ما يحققه الكثير من الناس رغد العيش له ولمن حوله، والاستمتاع بشهوات الدنيا فترة من الزمن، وربما فاجأته الأقدار فتكدر صفو العيش، وتحولت المسرات إلى أحزان، وذهب المال أو العز الذي منه ذلك الإنسان، وهذا إنما يكون ..
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد نبينا محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه أجمعين، وعلى التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله- وتوكلوا عليه، فهناك أناس لا يتوكلون على الله، وهناك من لا يتوكل على الله بالشكل الصحيح، فمن يتوكل على الله عليه الأخذ بالأسباب المأذون بها شرعًا، بالاستقامة على هدى الله، ليمكّن الله لك -أيها الإنسان- في الأرض، وتنال رضا الله -عز وجل- ومحبة الخلق دون علو أو استكبار، ودون ضعف ومسكنة واستجداء الآخرين أو التعلق أو الركون إلى أهل الكفر والضلال.
التمكين في الأرض مطلب يبحث عنه السادة والزعماء، ويلهث وراءه الكثير، ولا يحققه إلا القليل؛ لأنه منحة إلهية ذات مواصفات وشروط معينة لا يهبها الله تعالى إلا من يشاء من خلقه، وغاية ما يحققه الكثير من الناس رغد العيش له ولمن حوله، والاستمتاع بشهوات الدنيا فترة من الزمن، وربما فاجأته الأقدار فتكدر صفو العيش، وتحولت المسرات إلى أحزان، وذهب المال أو العز الذي منه ذلك الإنسان، وهذا إنما يكون جزاءً وفاقًا لمن ابتعدوا عن صراط الله المستقيم، وابتعدوا عن شرع الله، وغرتهم الحياة الدنيا، وغرهم بالله الغرور.
واليوم سنتحدث -إن شاء الله- عن إنسان صالح، مكّن الله -عز وجل- له في الأرض، وخلد ذكره في القرآن الكريم، إنه ذو القرنين، الذي جاءت قصته في الثلث الأخير من سورة الكهف؛ قال الله تعالى عنه: (إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآَتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا * فَأَتْبَعَ سَبَبًا) [الكهف84 :85].
وذو القرنين من عباد الله الصالحين، ونتوقف في نبوته كما توقف النبي -صلى الله عليه وسلم- حيث قال: "وما أدري أتُبَّعٌ كان نبيًّا أم لا، وما أدري ذو القرنين نبيًّا كان أم لا". رواه الحاكم وصححه الألباني.
ذو القرنين أعطاه الله ملكًا عظيمًا، فيه من كل أدوات التمكين في الأرض، وآتاه الله من الجنود ما يؤتيه الملوك، وتدين له البلاد وتخضع له ملوك العباد، وخدمته الأمم من العرب والعجم، وطاف الأرض كلها حتى بلغ قرني الشمس، مشرقها ومغربها، ولهذا سمي بذي القرنين.
ولا يتم الملك إلا بالعلم، أي الأخذ بالأسباب، فالعلم يصون الملك عن أسباب التفكك والانهيار، ويمنع الملوك من التكبر والظلم الذي يجعل مصيرهم الدمار والهلاك، وبهذا فسّر ابن عباس -رضي الله عنه- ومجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة وقتادة والضحاك قوله تعالى: (وَآَتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا)، يعني علمًا، أي من كل علم طرفًا.
أجل، إنه ذو القرنين، مع توكله على الله لم يتواكل ولم يغفل الأسباب المؤدية إلى تمكينه في الأرض، بل استخدم ما منحه الله من علم في سبيل تعريف الخلق بالخالق، وتحطيم قوى الشرك، وإذلال المشركين، وتحقيق العبودية لله رب العالمين.
عباد الله: وحتى نعرف طرفًا من علم ذي القرنين وعدله وسياسته في الملك في البلاد التي افتتحها، فلنبدأ مع معنى قوله الله تعالى: (حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا * قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا * وَأَمَّا مَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا) [الكهف86 :88].
قال أهل التفسير: إن ذا القرنين سلك طريقًا، حتى بلغ إلى أقصى ما يسلك منه من الأرض من ناحية المغرب، حتى أبصر الشمس في منظر في المحيط في عين حمئة، قال: العين الحمئة: ماء وطين أسود، وقيل: إنها حارة لمواجهتها وهج الشمس عند غروبها، وملاقاتها الشعاع بلا حائل، وبه جميع العلماء بين مختلف الأقوال في العين الحمئة، المهم أنه بلغ أمة من الأمم ذكر أنها كانت أمة عظيمة من بني آدم، وحين مكّنه الله منهم وحكّمه فيهم وأظفره الله بهم، خيّره الله -عز وجل- إن شاء قتل وسبى، وإن شاء منّ أو فدى، فعُرف عدله وإيمانه حين قال: (أَمَّا مَنْ ظَلَمَ) أي استمر على كفره وشركه بربه، (فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ) أي نعذبه في الدنيا بنوعٍ من العذاب، (ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا) أي يعذبه الله -عز وجل- في الآخرة، وفيه إثبات المعاد والجزاء، (وَأَمَّا مَنْ آَمَنَ) أي تابعنا إلى ما ندعوه إليه من عبادة الله وحده لا شريك له (فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى) في الدار الآخرة عند الله -عز وجل-، (وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا) أي قولاً معروفًا في الدنيا.
وهذه غاية العدل، وقمة العلم، وعلامة الهدى، ودليل التمكين في الأرض دون جهل أو استعلاء، وتلك تجربة خاضها ذو القرنين، فما أفشى القتل جزافًا، ولا استخدم البطش تجبرًا وتسلطًا، بل عامل كلَّ من مكّنه الله منهم من الأمم بالعدل والإحسان.
ثم ينتقل ذو القرنين من مغرب الأرض إلى مشرقها، ويصل إلى ذلك المكان، ويمكّن الله له في الأرض ويقهر الأمم، ويدعوهم إلى الله، فإن هم أطاعوه وإلا أذلهم وأرغم أنوفهم واستباح أموالهم، واستخدم من كل أمة ما يستعين به -بعد الله- ومع جيوشه على أهل الأرض الإقليم المتاخم لهم، وهكذا جاب الأرض طولها وعرضها في مدة قال بنو إسرائيل: إنها بلغت ألفًا وستمائة سنة. والله أعلم.
ولما انتهى إلى مطلع الشمس وجدها تطلع على قوم لم يجعل الله لهم من دونهم سترًا، قيل: المعنى: أنهم كانوا يسكنون سهولاً شاسعة واسعة، ولا يوجد عندهم جبال تحجب عنهم الشمس، وقيل: كانوا لا يملكون بيوتًا أو أبنية تمنع عنهم أشعة الشمس وحرها، وقيل: ما كانوا يملكون شيئًا يغطون به أجسادهم، وكانوا عراة، فإذا أشرقت الشمس أصابتهم أشعتها. والله أعلم.
وقد عاملهم أيضًا بالعدل والحسنى والدعوة إلى الإيمان والهدى، وكان بذلك نموذجًا لمن مكّنه الله -عز وجل- في الأرض الذين قال الله فيهم: (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ) [الحج:41].
عباد الله: لم ينته تطواف ذي القرنين عند حدود مغرب الشمس في الأرض ومشرقها، بل هيئا الله له من الوسائل والإمكانات ما بلغه شمالها، وهناك وجد أمة لا يكادون يفقهون قولاً، وذلك لاستعجام كلامهم وبعدهم عن الناس.
وهي أمة عاجزة عن الدفاع عن نفسها، واتكالية ترغب من الآخرين حل مشاكلها، عند ذلك قالوا لذي القرنين عن يأجوج ومأجوج: (قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا) [الكهف:94].
فهي أمة تجاور أمتين، كثير عددها، ويستفحل خطرها، وتعيث فسادًا فيما حولها، إنها أمة يأجوج ومأجوج، الذين قال الله -عز وجل- في وصفهم: (حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ) [الأنبياء:96] وسنكمل الحديث عن هاتين الأمتين مع ذي القرنين في الخطبة الثانية -إن شاء الله تعالى-.
أسأل الله أن ينفعنا بالقرآن العظيم، وسنة خير الأنام، وأن يملأ قلوبنا بالإيمان، ونسأل الله أن لا يجعلنا من أهل الشقاء والخسران، أقول ما سمعتم وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، مالك الملك يؤتي الملك من يشاء، وينزعه ممن يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء، بيده الخير وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، كل شيء هالك إلا وجهه، له الحكم وإليه ترجعون، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله، علّمه ما لم يكن يعلم، صلى الله عليه وسلم وعلى سائر الأنبياء والمرسلين وعلى آله وأزواجه وذريته الطيبين الطاهرين، وارض اللهم عن صحابته أجمعين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإكمالاً لما تحدثنا عنه في الخطبة الأولى عن تمكين الله -عز وجل- للعبد الصالح ذي القرنين التي وردت قصته في سورة الكهف فنقول: إن يأجوج ومأجوج أمتان من سلالة آدم -عليه السلام- ما كانتا في شيء إلا كثرتاه، وهما المكثرات لبعث النار -أي يوم البعث والنشور- كما قال المصطفى -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله تعالى يقول: يا آدم: فيقول: لبيك وسعديك، فيقول: ابعث بعث النار، فيقول: وما بعث النار؟! فيقول: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار وواحد إلى الجنة -أي واحد من كل ألف في الجنة-، فحينئذ يشيب الصغير وتضع كل ذات حمل حملها، فيقول الله -عز وجل-: إن فيكم أمتين ما كانتا في شيء إلا كثرتاه، يأجوج ومأجوج".
لقد كان من رحمة الله لهذه الأمة الثالثة في الشمال -والله أعلم- أن وصلها ذو القرنين، وكان بناؤه السد برهانًا آخر على تمكينه في الأرض، والصدفان جبلان عظيمان متقابلان بينهما ثغرة يخرج منها يأجوج ومأجوج على بلاد الترك، فيعيثون فيها فسادًا، ويهلكون الحرث والنسل، ويقال: إن هذه المنطقة هي الواقعة جنوب القوقاز، وهي المسماة الآن بأرمينيا وجورجيا وأذربيجان. والله أعلم.
فطلب القوم الذين يسكنون فيها من ذي القرنين أن يجعل بينهم وبين يأجوج ومأجوج سدًا، ويعطوه من المال ما يعينه على هذه المهمة، ولكن ذا القرنين بعلمه وتمكين الله له رد عليهم بقوله: (مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ)، أي ما أعطاني الله من الملك والتمكين خير لي من الذي تجمعون، قال ذلك ثقة بالله وتوكلاً عليه وحده، واستغناءً بما عنده، وعطاء الله أعظم من أُعطيات الناس وهداياهم.
ثم شرع ذو القرنين في بناء السد، وكان عملاً جبارًا، وتخطيطًا رائعًا، فقد طلب من تلك الأمة المشاركة بمجهودها العضلي وما تملكه من آلات البناء، ثم يطلب قطع الحديد، حتى إذا حاذى بين رأسيْ الجبلين طولاً وعرضًا قال: انفخوا، أي أججوا عليه النار، فتصوروا حجم وفخامة هذه النار التي يلزمها صهر هذه الأطنان من الحديد في هذا الممر الشاهق الارتفاع.
قسم ذو القرنين هذه الأمة أقسامًا، فمنهم من يجمع الحديد ويصهره، ومنهم من يجمع النحاس ويذيبه في القدور، فلما تم صهر الحديد في الممر، وتم صهر النحاس في القدور أو في مكان آخر، جاءت المرحلة الأخيرة من مراحل بناء السد: (آَتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا) [الكهف:96].
والقطر كما قال ابن عباس -رضي الله عنه- وغيره: النحاس المذاب، وقام بصب النحاس المصهور المذاب على الحديد المصهور المذاب، فتخلل النحاس وسط الحديد واختلطا وصارا معدنًا واحدًا قويًا متينًا، ثم تركا حتى جمدا فصارا سدًا منيعًا عجيبًا مدهشًا، وهذه ربما لم تصلها الصناعات الحديثة في وقتنا الحاضر بما فيها من تقدم تقني وعلمي ألهمه الله -عز وجل- لذي القرنين قبل آلاف السنين.
عباد الله: التوكل على الله أولاً من أهم دواعي التمكين في الأرض، والاعتماد عليه والاستعانة به ثم القوة والتخطيط العلمي والأخذ بكل أسباب القوة الممكنة شرعًا وعقلاً، ولا ينبغي للمسلمين الآن التواكل والتراخي وإضاعة الفرص وإهدار الطاقات سُدى.
ينبغي للمسلمين أن يكون لديهم سياسة حازمة عادلة مع خلق الله، تسوسهم بشرع الله، تكافئ المحسن وتفرق بين المؤمنين والكافرين، وتكرم العلماء والصالحين والمصلحين، وتأخذ على أيدي الفسقة والمنحرفين، وتأطرهم على الحق أطرًا وتجبرهم عليه.
عباد الله: في قصة ذي القرنين فكر عظيم، وعظة وعبرة كغيرها من قصص القرآن الكريم التي ينبغي لنا أن نقرأها ونفهم معانيها ونستفيد منها، أسأل الله أن يوفقنا وإياكم لذلك.
وصلوا -عباد الله- وسلموا على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي