فبعد تكبُّر فرعون في الأرض وتعذيبه لبني إسرائيل، تقدَّم كاهن من كهنة فرعون وقال له: يولد مولود في بني إسرائيل يذهب ملكك على يديه، فثارت ثورة فرعون، فاتخذ طريقة إجرامية عظيمة لأجل أن لا يحدث هذا، فأخذ يذبح أبناءهم الذكور، ويستبقي نساءهم، ولكن قدرة الله تعالى نافذة، فكيف يقف أمامها تدبير خائب، فقد قُدِّر في الأزل لهؤلاء المستضعفين -بني إسرائيل- أن يرثوا ..
الحمد لله رب العالمين، يختار من يشاء من عباده لرسالاته، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه أجمعين، وعلى التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله- حق التقوى، وتدبروا كتاب الله وافهموا معانيه واعملوا به.
عباد الله: أكثر قصة وردت في القرآن الكريم -بل قصص- هي قصة عبد الله ورسوله موسى بن عمران -عليه السلام-.
فبعد تكبُّر فرعون في الأرض وتعذيبه لبني إسرائيل، تقدَّم كاهن من كهنة فرعون وقال له: يولد مولود في بني إسرائيل يذهب ملكك على يديه، فثارت ثورة فرعون، فاتخذ طريقة إجرامية عظيمة لأجل أن لا يحدث هذا، فأخذ يذبح أبناءهم الذكور، ويستبقي نساءهم، ولكن قدرة الله تعالى نافذة، فكيف يقف أمامها تدبير خائب، فقد قُدِّر في الأزل لهؤلاء المستضعفين -بني إسرائيل- أن يرثوا ملك هذا الطاغية الجبار على يد طفل يربى في بيته، ويمكّن الله -عز وجل- لبني إسرائيل، يورثهم أرض مصر والشام، وأرى فرعون الطاغية ووزيره هامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون.
حملت أم موسى واسمها "يوكاند"، فجاءتها الهموم من كل صوب، فلما جاءها المخاض فإذا به ولد ذكر، فاضطربت نفسها خوفًا عليه من فرعون وجنوده، وتغلغل حبه في قلبها كأي أم، فحرصت على حياته، وجدّت في الإبقاء عليه، وأن لا يتسرب خبره إلى فرعون عدو أطفال بني إسرائيل الذكور، واستمر الوضع ثلاثة أشهر، إلا أن فرعون نشر عيونه في المدينة يتفحصون الأطفال، فألهم الله سبحانه أم موسى أن تهيئ له صندوقًا تضعه فيه ثم تلقي به في نهر النيل، وترسل على الشاطئ أخته تقص أثره وترقبه حتى تعرف خبره وتخبر والدتها، وبعد أن ثبت الله سبحانه فؤادها وهدأ روعها سارت أخت موسى تتبعه، وما كان أشد هلعها حينما حُمل الصندوق إلى بيت فرعون، ولكن رحمة الله قريب منه، فلم تكد تنظر امرأة فرعون إلى الطفل في الصندوق حتى ألقى الله -عز وجل- محبته في قلبها إلى زوجها أن يكون ابنًا لها وله، وقد أصبح قلب أم موسى لا هم له إلا شأن موسى من الهم والإشفاق عليه؛ لأنها استودعته الله وهي رابطة الجأش ثابتة الإيمان.
وسيقت إليه النساء ليرضعنه، فلم يقبل الرضاعة من أي امرأة، وكانت أخته تتابع أمره في بيت فرعون، فأشارت عليهم أن تدلهم على من يرضعه، فدلتهم على أن ترضعه أمها دون أن يعلموا حقيقته، فأقبل الطفل يرضع من ثدي أمه من دون النساء جميعًا.
دهش فرعون لأمر أم موسى، وقال لها: من أنت؟! فقد أبى كل ثدي إلا ثديك؟! فقالت: إني امرأة طيبة الريح، طيبة اللبن، لا أوتى بصبي إلا قبلني، ورفعه إليها، وأجرى عليها رزقًا، فرجعت إلى بيتها به، وهكذا كافأها الله -عز وجل-، فقرت عينها به لتعلم أن وعد الله حق.
لما أتمت أم موسى رضاعته سلمته إلى قصر فرعون ليكون لهم عدوًا وحزنًا، ولما كبر وبلغ أشده واستوى أوحى الله -عز وجل- إليه بالنبوة، وآتاه العلم والحكمة، فاتجهت أنظار المستضعفين المغلوبين إلى موسى ليحميهم مما أثقل كاهلهم من الظلم والآلام، وهؤلاء قومه، وهو ذو النفس الكريمة التي أشربت عزة الله واستنارت بنوره، عند ذلك عاهد موسى نفسه على أن يكون لهؤلاء المظلومين نصيرًا، وفيما هو يتجه إلى فرعون، إذ وجد رجلين يقتتلان أحدهما من بني إسرائيل -من شيعته-، والآخر من قوم فرعون من أصحاب القوة والسلطان، فسأله الذي من قومه أن يحول بينه وبين اعتداء الآخر، فضرب موسى الرجل الذي من قوم فرعون ضربة كانت هي القاضية، ثم ندم على فعلته، وعدها من عمل الشيطان، واستغفر ربه على ما حدث منه، فغفر له ربه، إنه غفور رحيم.
فكان غفران الله لموسى نعمة عليه، وحافزًا لرحمته، وداعيًا لسلامه، فاستعاذ بالله أن يكون معينًا ومساعدًا للمجرمين.
ولكن خاف مما فعل، ومع ذلك إذا بالذي استنصره بالأمس يستصرخه ويطلب منه النصرة، فرماه موسى بالغواية والضلال، ولكنه اندفع إلى مظاهرته، فظن الذي من قوم فرعون يقصد قتله، فتقدم إليه مسترحمًا قائلاً: (يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ) [القصص:19].
فلم يكد الذي من قوم فرعون يسمع هذا الاتهام الصريح -وقد كان قومه في حيرة في أمر قتيل الأمس لا يعرفون قاتله- حتى وافاهم وأخبرهم بخبر موسى، وأنه هو القاتل، فتأهب القوم يبحثون عن موسى ليقتلوه، ولكن رحمة الله قريب؛ إذ جاء من أقصى المدينة رجل يسعى: (يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ) [القصص:20].
فخرج موسى من مصر خائفًا يترقب، ليصرف الله عنه كيد الظالمين، سار ثماني ليال قاصدًا بلاد مدين، وهو موضع بين الشام والحجاز، ولا معين له إلا عناية الله سبحانه، ولا رفيق يؤنسه إلا نور الله، ولا زاد يحمله إلا زاد التقوى، مشى حافيًا حتى تساقطت جلود قدميه، جائعًا تتراءى خضرة البقل من بطنه هزالاً وضعفًا.
وكان عزاؤه الوحيد أن يبتعد عن الظالمين، فرعون وقومه، فلما توجه إلى مدين، وجد حشدًا من الناس قد تزاحموا على مورد ماء، كل منهم يعتمد على قدرته في التقدم والمسابقة إلى البئر، فيرتوون ويسقون أنعامهم، ورأى من دونهم امرأتين تفصلان أغنامهما حتى لا تختلط بأغنام غيرهما في ضعف وذلة، إلى أن ينكشف هذا الحشد فتقدمتا لإسقاء أغنامهما، فثارت في نفس موسى ثائرة العدل وحماية المستضعفين، فتقدم فسألهما: (مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ) [القصص:23].
أبونا شيخ كبير لا ينهض، فما تأخر موسى -عليه السلام- عن نجدتهما، بل سقى أغنامهما، وتولى إلى الظل، ثم انطلق لسانه يسترحم رب السماوات ويستدر رحمته، لأنه فقير محتاج.
عادت المرأتان مبكرًا إلى أبيهما الشيخ على غير العادة، فسألهما الخبر، فأخبرتاه، وقد استجاب الله سبحانه دعاء موسى -عليه السلام- واسترحامه، فحنا عليه هذا الشيخ، فأرسل إحدى ابنتيه في طلبه، فجاءته إحداهما في استحياء فقالت: (إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا) [القصص:25].
ذهب موسى مع الفتاة استجابة لدعوة والدها، فأنس منهم موسى، ثم قص عليه قصته، وأفضى إليه بمكنون سره، فطمأنه الشيخ وقال: (لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) [القصص:25].
هدأت نفس موسى في منزل الشيخ الكريم، وسكنت إلى صحبته، ولا بدع، فنور الإيمان يتلألأ من كلا القلبين، وكان موسى فتى كريمًا أثار في نفس الشيخ وابنتيه عوامل الإكبار والإعجاب لما زانه الله به من طبع قويم وخلق كريم، فقالت إحداهما: (يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ) [القصص:26].
قيل: إنه أقل الغطاء عن البئر منفردًا -أي رفع الغطاء وحده- مع صعوبة حمله وثقله، وعلى ما كان به من تعب، ثم إنه لما استدعته إحدى البنتين لإجابة دعوة والدهما كان عفيفًا طاهرًا، حيث أطرق برأسه حينما بلغته، فسار أمامها وسارت خلفه حتى لا تمتد عينه إليها فيكون من الخائنين.
فلما سمع الشيخ كلام ابنته جاش في صدره أملاً ورجاءً، فقال لموسى: إني رغبت أن أزوجك إحدى ابنتيَّ هاتين على أن تكون عونًا لي وأجيرًا ترعى الغنم ثماني سنوات، وإن زدتها اثنتين فصارت عشرًا فتلك مِنة جليلة أرجوها منك ولا أحتمها عليك، وسأكون -إن شاء الله- من الأوفياء المخلصين.
نكمل في الخطبة الثانية -إن شاء الله-.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله يمن على من يشاء من عباده بالخير الكثير والفضل العميم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه أجمعين، وعلى التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله -عباد الله-، وارقبوه وأطيعوه واحمدوه واشكروه.
عباد الله: إكمالاً للحديث عن موسى -عليه السلام- مع الشيخ في مدين، وبعد أن عرض عليه الزواج من إحدى ابنتيه وافق على ذلك مقابل رعي الغنم عنده ثماني أو عشر سنوات، فلما تزوج من إحدى الفتاتين وهب له صهره الكريم أغنامًا خالصة، وبعد أن أوفى بما بينه وبين الشيخ من اتفاق حنّ إلى الرجوع مع زوجته إلى مصر، فتهيئا للرحيل، فخرج من عند الشيخ فودعهما ودعا لهما بالتوفيق والسداد، ثم سارا حتى بلغا طور سيناء، وهناك ضل موسى الطريق، فحار في أمره، ولكن عناية الله به لم تخب، يقول القائل:
وإذا العناية لاحظتك عيونها *** نم فالمخاوف كلهن أمان
سار موسى غير بعيد، فأبصر من الجهة التي تلي جبل الطور نارًا، فحط رحاله وأسرع وحده متجهًا إلى النار بعد أن قال لأهله: (امْكُثُوا إِنِّي آَنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آَتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ) [القصص:29].
وفي شاطئ الوادي الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة بسم الزمان لنبي الله الكريم موسى -عليه السلام- فنودي (أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) [القصص:30] ، فكانت بداية نبوته أن اختصه الله بكرامته وبكلامه وبعثه برسالته إلى فرعون وقومه، حيث سمع نداء الله -عز وجل- حين سألته عن عصاه وهو بذلك أعلم: (وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى) [طه:17] ، فأجاب كما يجيب غيره: (قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآَرِبُ أُخْرَى) [طه:18]، حيث ظن موسى أن المقصود ذكر خصائص العصا ومنافعها، ولكن قدرة الله تسامت، فقد جعل الله -عز وجل- لها معجزات وخوارق لتكون دليلاً على رسالته ونبوته، أمره الله أن يلقي العصا فإذا هي حية تسعى، نمت وغلظت حتى غدت حتى غدت في جلادة الثعبان، لمحها موسى فخاف وهرب، فسمع نداء الله العلي العظيم: (لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ) [النمل:10]، حقت نبوة موسى واطمأنت نفسه لنداء الله الكريم، ثم أعطاه الله معجزة أخرى؛ إذ أمره أن يدخل يده في جيبه فإذا هي بيضاء عندما أخرجها من غير سوء.
كانت هاتان المعجزتان العظيمتان لنبي الله موسى -عليه السلام- من الله -عز وجل- أمرًا له ما بعده، جعلهما تثبيتًا لقلبه وتمكينًا لرسالته إلى فرعون وقومه، وتهيئة للمناداة بالحق، فرفع صوته عاليًا بالدعوة إلى الله.
وللحديث بقية في خطبة أخرى -بمشيئة الله تعالى-.
وصلوا وسلموا -عباد الله- على خاتم الأنبياء والمرسلين نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي