عاش فرعون وقومه في مصر يحكمون القبط وبني إسرائيل، ويفسدون في الأرض ظلمًا واستكبارًا، ونصب فرعون نفسه ربًّا وإلهًا لهم، وسام بني إسرائيل سوء العذاب، وأتعبهم في العمل، وأوغلوا في الشهوات، وانصرفوا عن نور الإيمان، وابتعدوا عن الصراط المستقيم، فلما ازداد طغيانهم أرسل الله -عز وجل- إليهم موسى -عليه السلام- ومعه برهانان من ربه ..
الحمد لله رب العالمين، يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه أجمعين، وعلى التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله- وأطيعوه وراقبوه واحمدوه واشكروه.
عباد الله: عاش فرعون وقومه في مصر يحكمون القبط وبني إسرائيل، ويفسدون في الأرض ظلمًا واستكبارًا، ونصب فرعون نفسه ربًّا وإلهًا لهم، وسام بني إسرائيل سوء العذاب، وأتعبهم في العمل، وأوغلوا في الشهوات، وانصرفوا عن نور الإيمان، وابتعدوا عن الصراط المستقيم، فلما ازداد طغيانهم أرسل الله -عز وجل- إليهم موسى -عليه السلام- ومعه برهانان من ربه: اليد والعصا، وقواه بأخيه هارون -عليه السلام-.
عاد موسى من أرض مدين ليدعوهم إلى كلمة الله بعد أن تضرع إلى الله عندما كلفه ربه بهذه الرسالة العظيمة، فقال: (رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ) [القصص:33]، أمر الله -عز وجل- نبيه موسى بأن يذهب إلى فرعون، فتهيّب الموقف واستعظم الأمر وخاف أن لا يكون قوي التعبير، فدعا ربه: (قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي *يَفْقَهُوا قَوْلِي * وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي) [طه25 :29].
استجاب الله دعاء موسى -عليه السلام- تكريمًا له، فألهم الله -عز وجل- هارون -وقد كان بمصر- أن يذهب إلى حيث يقيم موسى أخوه ليشركه في الأمر ويحمل معه أعباء هذا الأمر العظيم، فلبى هارون داعي الحق، وسار فقابل أخاه بجانب الطور الأيمن في سيناء، فاطمأن موسى وتقوَّى، وآتاه الله سؤله.
أوحى الله سبحانه إلى موسى وأخيه أن اذهبا إلى فرعون فقولا له قولا لينًا أرفق بنفسه وتأليفًا لقلبه، عسى أن تلين قسوته ولا يسطو عليكما، علمهما الله سبحانه كيف يدعوان فرعون، وأوحى الله إليهما أن اذهبا بآياتي إلى فرعون وقومه، وتدرجا معه في الدعوة، فقولا: إنا رسولا ربك، وادعواه ليخلص بني إسرائيل مما هم فيه من ظلم وإيلام، فلما ذهبا إلى فرعون استهان بهما واستنكر ما يدعوانه إليه، فقال: حتى أنت يا موسى؟! (أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ) [الشعراء:18]، فقال موسى: أتمن عليّ بتربيتي لديك وليدًا فتحسبها نعمة؟! أليس منشأها ظلمك واستعبادك لبني إسرائيل، فانطلق فرعون قائلاً: (وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ) [الشعراء:19] ، فقال موسى رادًا لحجته، بل (فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ * فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ) [الشعراء20 :21].
حينئذ أغلق النقاش أمام فرعون، فعمد إلى طريق آخر، واهمًا أن به سلامته فقال: (وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ)، فأجابه موسى: (قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ) [الشعراء:24]، فتميز فرعون غيظًا وراح يثير غضب من حوله ويبعث دهشتهم وعجبهم واستنكارهم، فقال: ألا تسمعون؟! أسأله عن حقيقة ربه فيذكر لي أفعاله! فقال موسى: (رَبُّكُمْ وَرَبُّ آَبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) [الشعراء:26]، ثم قال فرعون: (إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ) [الشعراء:27]، فقال موسى: (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) [الشعراء:28]، فثار فرعون وازداد غضبه وعجزت حجته، فلجأ إلى التوعد والقوة وقال: (قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ) [الشعراء:29]، لم يبالِ موسى واطمأن لدعوته وانبعث لسانه بدفء الأمل فقال: (أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ) [الشعراء:30]، أي حجة دامغة ومعجزة تزيل الريب والشكوك!! فقال فرعون: (قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) [الشعراء:31]، فبدأ موسى بإظهار ما حوى الله به صدق دعوته من معجزات (فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ) [الشعراء:32]، عند ذلك دُهش فرعون وتملكه مزيج من الكبرياء والحيرة ثم قال: هل من غيرها؟! ظانًّا أن ذلك نهاية الشوط، وأن موسى لابد عاجز، ولكن موسى -عليه السلام- أدخل يده في جيبه ثم نزعها، فإذا شعاع ينبعث منها يكاد ضوؤه يذهب بالأبصار، وينتشر هذا الضوء حتى يسد الأفق، فازداد فرعون همًّا واكتئابًا، وخاف على ملكه وجبروته، وبهره سلطان المعجزة، فأنزله من عليائه وصغر شأنه في عين نفسه، فنسي أنه ربهم الأعلى، وأنه ما علم لهم من إله غيره، ثم قال للملأ حوله: (إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ * يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ) [الشعراء34 :35].
أشرك قومه في شأن موسى وأخيه، فرد قومه: (قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ * يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ) [الشعراء36 :37]، صادف ذلك هوى في نفس فرعون، فجمع السحرة من كل مكان خوفًا على صولته وكبريائه ودولته، وقال فرعون لموسى: (فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى) [طه:58]، قال موسى: موعدكم يوم العيد -يوم الزينة-، يوم اجتماع الناس وزينتهم، حتى يشيع الحق وينبلج انبلاج النهار، فلما اجتمع الناس وجد موسى حشدًا هائلاً من السحرة، فقال لهم: الويل لكم إن افتريتم على الله الكذب فدعوتم معجزاته سحرًا ولم تصارحوا فرعون بالنور الساطع والحق القاطع، فتظهروا له ما بين سحركم وما أعطاني الله من معجزات، وتفرقوا بين الباطل الذي معكم والحق الذي عندي، من احتال منكم يحق باطلاً أو يبطل حقًّا فقد خاب وباء بالخسران المبين.
أثر كلام موسى على السحرة، ولكن قال الله تعالى عنهم: (فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى * قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى * فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى) [طه62 :64].
ثم استمر السحرة بأمر فرعون ولم يتخلف منهم أحد، فإذا بهم آلاف، مع كل واحد منهم حبل وعصا، مقبلين إقبال رجل واحد، ومشمرين عن سواعدهم، ليكون ذلك أدعى إلى تسرب الخوف إلى موسى وأخيه، وتبث المهابة في نفوس جموع الناس الحاضرين.
جاء الناس مدفوعين بالرجاء في نصرة السحرة لما رسخ في نفوسهم من الضلالة وما هم فيه من جهل، وأقبل السحرة مغرورين، فهم الآن فوارس الميدان، وجياد الرهان، ومناط الأمل، ومحط الرجاء، وقالوا لفرعون: إن لنا لأجرًا إن غلبنا؟! فقال: لكم أجر وقربى، تنعمون في حماي، وتسعدون بجواري؛ لأنكم تشدون أزري، وتقوون ظهري، فاطمأن السحرة لهذا فأقبلوا مدفوعين ثم (قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى) [طه:65]، فلم يبالِ موسى بسحرهم، وأذن لهم بأن يلقوا حبالهم وعصيهم حتى يستنفذوا أقصى وسعهم ويفرغوا جهدهم، ثم يظهر الله سلطانه، فيقذف بالحق على الباطل فيدمغه ويمحوه بقدرته سبحانه.
تقدم السحرة وألقوا ما لديهم من سحر، فخيل لموسى أنها حيات تسعى على الأرض، ودخل إلى نفسه الخوف لما رأى، ولكن الله قال له: لا تخف إنك أنت الأعلى، فإن ما لديك أعظم شأنًا، فألقى موسى عصاه فإذا هي تلقف -أي تتناول- ما يأفكون، وكل ما جاؤوا به، فإذا السحرة يعرفون الحقيقة الباهرة، ويتبينون الرشد من الضلال، والحق من الباطل، فإذا هم يخرون لله ساجدين توبة عما صنعوا، وخشوعًا لهيبة الحق، وإكبارًا لذلك الأمر العظيم.
ونكمل بمشيئة الله في الخطبة الثانية، نفعني الله وإياكم بهدي كتابه.
أقول ما سمعتم وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله يظهر الحق ويزهق الباطل إن الباطل كان زهوقًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه أجمعين، وعلى التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله -عباد الله- وأطيعوه، وراقبوه ولا تعصوه.
عباد الله: لما خر السحرة سجدًا وقالوا: (آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ) [الشعراء47 :48] ، استشاط فرعون غضبًا، وازداد غيظه وحنقه مع ما وقع فيه من مرارة الخجل والانهزام، فقال: أتؤمنون له وتخضعون لحكمه قبل أن آذن لكم؟! إنه أستاذكم في السحر وكبيركم الذي علمكم السحر، فاتفقتم معه على فعلكم، أما وقد أقدمتم على ذلك وخرجتم عن طاعتي فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف، ولأصلبنكم في جذوع النخل عقابًا لكم وتمثيلاً بكم، لأنكم كفرتم بنعمتي، ونقضتم ميثاقي، ولتعرفنكم الأيام قوة بأسي وشدة عذابي.
ولكن قوة الإيمان وفيض النبوة ربطا على قلوبهم، فأزال الله -عز وجل- عن قلوبهم غشية الباطل وغمرة البُهتان، فقالوا: لا يهمنا وعيدك وتهديدك، فما أنت إلا غوي مضل مبين، وقال الله -عز وجل-: (قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * إِنَّا آَمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى * إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا * وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَا * جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى) [طه72 :76] .
أصرّ فرعون على عناده، وظاهره الملأ من قومه فقالوا: (أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآَلِهَتَكَ) [الأعراف:127]، فتعالى في بطشه وعنفوانه فقال: إننا سنقتل أبناءهم ونستحيي نساءهم، وإنا فوقهم قاهرون، ثم راح ينزل ببني إسرائيل صنوف العذاب وألوان الذل والأذى، فضجوا لاجئين إلى موسى ليحميهم من أذى فرعون وقومه، قالوا: يا موسى: لقد أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا، فهدأ موسى من روعهم، ووعدهم بالنجاة والنصر والخير بقدرة الله تعالى، فقال لهم: (اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) [الأعراف:128]، قال هذا الكلام موسى، واستمر في دعوته يمهد لقومه سُبل النجاة، ويتجه بالدعاء إلى ربه بقلب ثابت ورجاء صادق وإيمان موثق واطمئنان موفور.
وسنكمل في خطبة قادمة -إن شاء الله-.
أسأل الله لي ولكم حسن القول وحسن الاستماع والاتعاظ وطيب العمل.
وصلوا -عباد الله- وسلموا على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد -عليه الصلاة والسلام-.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي