إنَّ الدفاعَ عن سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يكون بالتفجير ولا بالتدمير، ولكن يكون بأن تفرض الأمة نفسها في عالم اليوم، وتفرض على الآخرين احترامها بالقوة العلمية، بالقوة الاقتصادية، بالقوة الإنتاجية، بالقوة الفكرية؛ وذلك حتى نعرِّف الدنيا: مَن يكون سيدنا ..
الحمد لله المتفرد باسمه الأسمى، والمختص بالمُلك الأعزِّ الأحمى، الذي ليس من دونه منتهى، ولا وراءه مَرْمَى، الظاهر لا تخيلاً ووهمًا، الباطن تقدُّسًا لا عُدْمًا، وسع كل شيء رحمة وعلمًا، وأسبغ على أوليائه نعمًا عُما.
وبعث فيهم رسولاً من أنفسهم عُربًا وعجمًا، أذكاهم محتدًا ومَنْمَى، وأشدهم بهم رأفة ورُحمى، حاشاه ربه عيبًا ووصمًا، وذكَّاهُ روحًا وجسمًا، وآتاه حِكمة وحُكمًا، فآمن به وصدَّقه من جعل الله له في مغنم السعادة قسمًا، وكذّب به وصدف عنه من كتب الله عليه الشقاء حتمًا، ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى، صلى الله عليه صلاة تنمو وتنمى، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا.
معاشر الصالحين: لقد توالت الضربات الموجعة والصفعات المؤلمة على الأمة الإسلامية من كيد ومكر، إلى تحريش وإيقاع، إلى تحالف وتواطؤ، إلى تزييف وتسويف وتسويق؛ تزييف للحقائق، وتسويف للأماني، وتسويق للوهم.
ضربات موجعة تلقتها -ولا زالت تتلقاها- من أعدائها، قريبهم وبعيدهم، تأتي الضربة فما تلبث أن تأتي أخرى أشد منها، وسط شرود وذهول واستسلام من هذه الأمة التي نخرتها الشبهات، وفككتها الشهوات، وأضعفتها الصراعات.
واليوم تعيش الأمة لونًا آخر هو من أشد ألوان الإيذاء؛ بل هو أشدها، إنه الطعن في سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وفي رسالته، وفي سنته، وذلك عبر صور عديدة آخرها ذلكم الفيلم الخبيث الذي تولى كبْره مجموعة من الخنازير التي أفقدها الحقد التوازن، وبلغت بها الحطة والذلة والخسة كل مبلغ.
ولا شك أن خلفهم مَن خلفهم، ووراءهم من وراءهم ممن قال الله عنهم: (وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيرًا) [آل عمران:186].
إن هذا الحدث أثبت أن هذه الأمة لا تزال توحدها أشياء كثيرة، صحيح أن السياسة فرقتها ومزقتها كل مُمَزَّق، ذهبت بها يمنة ويسرة عن طريق المذاهب الوضعية والمذاهب المستوردة من الشرق والغرب ومن اليمين ومن اليسار، هذا يميل إلى تلك العاصمة وذاك إلى أخرى، وذاك يتلقى تعاليمه من هذه العاصمة وذاك من أخرى، وهكذا...
ثم دلّ هذا الحدث كذلك على أمر آخر: هذه الأمة لا زال الدين هو المحرك الأول لها، الدين هو الذي يوجِّه مسيرتها، هو الذي يحرك مشاعرها، وهذا ما رأيناه في هذه القضية حينما مُسّ قدس الأقداس عند المسلمين الذي يتمثل في أمرين اثنين: القرآن الكريم، والرسول الذي أنزل عليه هذا القرآن.
وربما غضب الناس للرسول -صلى الله عليه وسلم- أكثر مما يغضبون للقرآن؛ لأن القرآن شيء تجريدي أزلي، إنما الرسول -صلى الله عليه وسلم- شخصية، والناس تغضب للمجسد والمحس أكثر من المعنوي، وخصوصًا أن هذه الإساءات ليست مجرد كلام؛ بل هي شريط يصور النبي -صلى الله عليه وسلم- ونساءه وصحابته في صور مسيئة غاية الإساءة، مسِفّة غاية الإسفاف؛ ولذلك حركت سواكن الأمة وأثارتها من أعماقها غاضبة لرسولها.
وقولوا لي بربكم: إذا لم تغضب الأمة لرسولها -صلى الله عليه وسلم-؛ فلمن تغضب؟! أتغضب للمال؟! أتغضب للأكل؟! أم للكرة؟! إذا فقدت الأمة انتماءها لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقد ماتت وانهارت وزالت.
لقد أثبت هذا الحدث كذلك أن الدين ليس شيئا تافهًا عند الأمة، ليس شيئًا عارضًا، ليس شيئًا طارئًا على الحياة، بل هو جوهر الحياة وسر الوجود.
ربما لا يعرف ذلك الغربيون؛ لأن الدين عندهم على الهامش، وربما ليس له وجود، أما الدين عندنا فهو سر حياتنا، وأساس وجودنا، وجوهر بقائنا.
معاشر الأحباب: هذه المسيرات والتحركات التي حصلت دلت على أن الأمة تحب رسولها -صلى الله عليه وسلم-، وحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جزء من الإيمان، كما قال -عليه الصلاة والسلام-: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وولده وماله والناس أجمعين". رواه البخاري ومسلم.
ولكن الحب -أيها الأحباب- له متطلبات، الحب يتطلب أشياءً، لا يكفي أن تدَّعي أنك تحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دون القيام بحقه.
وأول مقتضيات الحب: الاتّباع، قال -تعالى-: (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) [آل عمران:31]؛ معنى هذا أن تتبع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، أن يكون هواك تبعًا لما جاء به، أن تجعل حياتك ومسيرتك كلها مقيدة بتعاليمه، أن لا تسير وحبلك على غاربك، تفعل ما تشاء وتحكم بما تريد؛ لا، ليس هذا من الحب في شيء، (فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا) [النساء:65].
نعم؛ لابد أن تسلّم لحكم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا) [الأحزاب: 36].
إذا قال -صلى الله عليه وسلم-: هذا حلال أو هذا حرام أو هذا مستحب، فليس لك خيار أمام حكمه -صلى الله عليه وسلم-، هذا هو دليل الحب، وهذه هي علامات الإيمان.
أيها الأحباب: حب المؤمن عزم، وحب المنافق زعم، فلا تكن كالمنافقين الذين يقبلون من الأحكام ما يوافق أهواءهم ويرفضون ما لا يوافقها: (إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [النور: 51].
ليس أمام المؤمنين إذا دُعوا إلى حكم الله ورسوله وظهر لهم هذا الحكم بيّنًا، ليس لهم التلكُّؤ ولا التباطؤ ولا التعلُّل بمعاذير واهية، بل عليهم أن يقبلوا ويحنُوا رؤوسهم أمام النصوص المحكمة القاطعة، وأن يقولوا: سمعنا وأطعنا، وأن لا يكونوا كالمنافقين الذين قال الله عنهم: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا) [النساء: 61].
وتأملوا -يرعاكم الله- قوله -تعالى-: (وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ) [المائدة:49]، لأنك إذا أعرضت عن بعض ما أنزل الله إليك فكأنك أعرضت عن الكل، لا يجوز أن تقبل بعضًا من هذا الدين وتترك بعضًا.
لذلك علينا -نحن المسلمين- وقد ظهرت منا هذه العواطف الجياشة الصادقة نحو رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن نحققها في حياتنا، ونجعل منها واقعًا ملموسًا، ولا تكون مجرد عواطف طائرة في الهواء.
نريد -أيها الأحباب- أن نحوّل حبنا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى إيمان صادق بكل ما جاء به من الهدى ودين الحق، بكل ما جاء به من البينات، بكل ما جاء به من العقائد الصادقة، بكل ما جاء به من العبادات الخالصة والأخلاق الفاضلة، بكل ما جاء به من القيم الراقية والتشريعات العادلة التي تنظم أمر الحياة وعلاقات الناس على أقوم ما يكون، وأعلى ما يكون، وأسمى ما يكون، وأمثل ما يكون.
حب رسول الله صلى الله عليه وسلم -أيها الأحباب- يقتضي معرفة سيرته، نعم؛ لابد أن تعرف قدرًا من سيرة رسولك -صلى الله عليه وسلم- يجعلك تؤمن بهذا الرسول الحبيب، لابد أن تكون مطمئنًا وأنت تدافع عن رسول الله وتنافح عن سنته.
وهذا يدعوك إلى أن تقرأ سيرة هذا الرسول الكريم إن كنت قارئًا، أو تسمع إن لم تكن من أهل القراءة.
كثيرٌ منا لا يعرف عن سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- إلا القليل، وربما كان بعضها من الأشياء التي لا تثبت عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، أساسها أحاديث موضوعة، أو حكايات مكذوبة، فليس هذا هو المقصود من السيرة.
نريد هذه السيرة الحية العاطرة التي تمثل هذا النبي العظيم منذ ولادته إلى أن توفاه الله -عز وجل-، وهي سيرة كلها نور على نور، وطيب من طيب، وخيار من خيار.
لقد كان الصحابة -رضي الله عنهم- كما يقول سيدنا سعد بن أبي وقاص: "كنا نروّي أبناءنا مغازي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كما نحفظهم السور من القرآن".
يعلمونهم سور القرآن، ويحدثونهم بما فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- في هجرته، والمسلمون في بدر، وما أصابهم في غزوة أحد، وما حصل لهم في غزوة الخندق أو الأحزاب. وهكذا...
ونحن اليوم؛ ماذا نعلم أبناءنا؟! لقد تركناهم لقمة سائغة للأفكار الهدامة المستوردة، وأسلمناهم للتلفاز وأغلبه شر مستطير، وتركناهم للإنترنت دون رحيم ولا حسيب، وخلينا بينهم وبين المباريات حتى شغلتهم عن دينهم ودنياهم، إلا من رحم الله.
إن واجبنا اليوم نحو رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن نعرفه نحن أولاً من خلال سيرته وسنته، وأن نترجم معرفتنا له حبًّا وطاعة واتباعًا وانقيادًا، وأن نعرف الناس به قريبهم وبعيدهم، حبيبهم وعدوهم، فلو عرف العالم مَن هو رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما تجرأ عليه أحد، ولئن تجرأت اليوم هذه الخنازير على أطهر إنسان وأشرف وأكرم نبي فنحن نتحمل جزءًا من ذلك، نعم؛ نتحمل جزءًا من ذلك؛ لأننا فتحنا لهم الباب بإعراضنا وانشغالنا ومعاصينا وغفلتنا، فالإساءة في الحقيقة هي الإساءة منا.
أما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فهو سماء لا تطاولها سماء، وشمس لا تعتريها غيوم، جعلني الله وإياكم ممن ذكر فنفعته الذكرى، وأخلص لله عمله سرًّا وجهرًا، آمين! آمين! والحمد لله رب العالمين.
الحمد لله الذي جعل صفوة الصفوة محمدًا، وكتب له الثناء والرفعة دائمًا سرمدًا، وكبت شانئه عدوه وجعله في النار خالدًا مخلدًا، والصلاة والسلام على أشرف الناس قدرًا سيدنا محمد، فداه النفس والمال والوالدان والولد، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن برفقته سعد.
معاشر الصالحين: لقد حان الوقت وآن الأوان لننصر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأنفسنا، نعم -أيها الأحباب- إن الأمر جلل، وإن الضرورة ملحة، وإن الحاجة شديدة إلى أن ننصف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من أنفسنا.
لقد أسأنا كثيرًا لنبينا -صلى الله عليه وسلم- قبل أن يسيء إليه غيرنا، ووجوه صور إساءتنا لحبيبنا -صلى الله عليه وسلم- متعددة ومتنوعة.
لقد جاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليقيم التوحيد وليوجه الناس إلى الله، وليخلصهم من كل مظهر من مظاهر الشرك، وأوذي من أجل ذلك أذى كثيرًا، هاجر من وطنه وسال دمه الطاهر من أجل هذه الغاية العالية السامية، واليوم؛ لا تزال فئام كثيرة من الناس من المسلمين تقصد القبور وتستغيث بها من دون الله، ولا تزال فئام من الناس تقصد السحرة والدجالين والمشعوذين والكهان ويصدقونهم، والرسول -صلى الله عليه وسلم- ينادي ويقول: "مَن أتى عرافًا أو كاهنًا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد -صلى الله عليه وسلم-".
فماذا يقول هؤلاء لرسول الله يوم اللقاء ويوم الشهادة؟! (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيدًا) [النساء: 41]؟!
لقد أمرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- باتباع سنته واجتناب البدعة، فقال -عليه الصلاة والسلام- في الحديث الطويل: "وإياكم ومحدثات الأمور! فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار". رواه أبو داود وغيره.
وإن الناظر في أحوال أمتنا اليوم يرى ألوانًا من البدع، وأنواعًا من المحدثات ما أنزل الله بها من سلطان، وذلك من الإساءة إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فإن البدعة -أيها الأحباب- مما يغضب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ويتجلى ذلك في حديث الحوض، فعن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال -صلى الله عليه وسلم-: "أنا فرطكم على الحوض، ليرفعنّ إليّ رجال منكم حتى إذا أهويت لأناولهم اختلجوا دوني، فأقول: يا رب! أصحابي! أصحابي! فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك". رواه البخاري ومسلم.
وفي رواية أخرى، يقول -صلى الله عليه وسلم-: "سحقًا سحقًا!".
نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن أكل الحرام، وبيّن مآل آكل الحرام، ومع ذلك تصر فئة من الأمة على أكل الحرام، ويدّعون محبة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
وصور ذلك كثيرة، منها بيع الخمور، فعن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- أنه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول وهو في مكة عام الفتح: "إن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام"، فقيل: يا رسول الله: أرأيتم شحوم الميتة؟! فإنه يطلى بها السفن، ويدهن بها الجلود، ويستصبح بها الناس -أي: يوقدون بها مصابيحهم-، فقال: "لا، هو حرام"، ثم قال -صلى الله عليه وسلم- عند ذلك: "قاتل الله اليهود! قاتل الله اليهود! إن الله لما حرم شحومها جملوه، ثم باعوه، فأكلوا ثمنه". رواه البخاري.
وأنتم ترون -أيها الأحباب- انتشار الخمر في بلاد المسلمين، حيثما توجهتَ وجدتَّها قِبَلَك، وحيثما توجهت وجدت آثارها متمثلة في حوادث السير، حتى جاء في إحدى الإحصائيات أن الخمر تمثل السبب الثاني في حوادث السير، ووجدت أثرها في الجرائم والاغتصابات وغيرها من الطامات.
ومن مظاهر أكل الحرام: الربا، هذه الآفة الخطيرة التي دمرت العالم وحطمت الأمة، ومع ذلك تصر الأمة عليها جماعات وأفرادًا دون مبالاة من أحد برسول الله -صلى الله عليه وسلم-، عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-، قال: "آكل الربا، وموكله، وكاتبه، وشاهداه إذا علموا به، والواشمة، والمتوشمة للحسن" -إلى أن قال:- "ملعونون على لسان محمد -صلى الله عليه وسلم-". رواه أحمد وابن حبان.
وعن عوف بن مالك -رضي الله عنه- قال: قال -صلى الله عليه وسلم-: "إياك والذنوب التي لا تغفر! الغلول؛ فمن غل شيئًا أتى به يوم القيامة، وأكل الربا؛ فمَن أكل الربا بعث يوم القيامة مجنونًا يتخبط"، ثم قرأ: (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ) [البقرة:275].
وعن عبد الله بن حنظلة -رضي الله عنهما- قال: قال -صلى الله عليه وسلم-: "درهم ربا يأكله الرجل وهو يعلم، أشد من ست وثلاثين زنية". رواه أحمد والطبراني وغيرهما.
وعن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "الربا ثلاثة وسبعون بابًا، أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه، وإن أربى الربا عرض الرجل المسلم". رواه الحاكم وغيره.
وصدق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذ يقول: "بين يدي الساعة -يعني اقتراب الساعة- يظهر الربا والزنا والخمر". ذكره المنذري، وقال: رواه الطبراني، وهو صحيح.
وقد ظهر الربا والزنا والخمر؛ فنسأل الله العافية وحسن العاقبة.
لقد انغمس أغلب الناس في الربا ولم يستطيعوا منه خلاصًا، وإن كلمت أحدهم قال: ماذا أفعل؟! مضطر! ما هو البديل؟! وكأنهم ما قرؤوا قول الله، أو أنهم قرؤوا وما صدقوا: (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) [الطلاق:2-3].
نهى الرسول -صلى الله عليه وسلم- عن الغلول، وحذّر منه، والغلول "هو الخيانة في المغْنَم، والسرِقَة من الغَنِيمة قبل القِسْمة".
مثاله اليوم هؤلاء الذين يكلَّفون بأمر من أمور المسلمين، فيسرقون ولا ينظرون إلا إلى مصالحهم الشخصية وأرصدتهم البنكية، ولهؤلاء نقول: كلوا وتمتعوا واملؤوا بطونكم واملؤوا أرصدتكم البنكية، فوالله! إن لكم موقفًا بين يدي الله تشيب من هوله الولدان.
عن أبي هريرة -رضي الله عنه-، تأملوا هذا الحديث العظيم، قال: "قام فينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذات يوم فذكر الغلول فعظمه، وعظم أمره، فقال: لا ألقين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته فرس له حمحمة، فيقول: يا رسول الله: أغثني! فأقول: لا أملك لك شيئًا، قد أبلغتك. لا ألقين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته شاة لها ثغاء يقول: يا رسول الله: أغثني! فأقول: لا أملك لك شيئًا، قد أبلغتك. لا ألقين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته نفس لها صياح، فيقول: يا رسول الله: أغثني! فأقول: لا أملك لك شيئًا! قد أبلغتك. لا ألقين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته رقاع تخفق -قيل: هي ثياب تتحرك إذا سرقها يأتي بها فوق ظهره يوم القيامة- فيقول: يا رسول الله: أغثني! فأقول: لا أملك لك شيئًا! قد أبلغتك. لا ألقين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته صامت -قيل: الذهب والفضة- فيقول: يا رسول الله: أغثني! فأقول: لا أملك لك شيئًا؛ قد أبلغتك". رواه البخاري ومسلم.
كل من غل أو سرق شيئًا من حقوق المسلمين سيأتي يوم القيامة يحمل كل ما سرق، وتلك هي الفضيحة! إنه حديث يزعزع الكيان، ويحرك القلوب (لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) [ق:37].
نهى رسولنا -صلى الله عليه وسلم- عن الرشوة وحذر منها وقال: "لعن الله الراشي والمرتشي"، وقال: "الراشي والمرتشي في النار". رواه الطبراني وغيره.
وقال: "ما من قوم يظهر فيهم الربا إلا أخذوا بالسنة، وما من قوم يظهر فيهم الرشا -يعني الرشوة- إلا أخذوا بالرعب". رواه الإمام أحمد.
وها هو الرعب قد عم ديار المسلمين لمخالفتهم أمر نبيهم -صلى الله عليه وسلم-، وأنتم ترون وتسمعون ما تفعله الرشوة في مجتمعاتنا حتى أصحبت هي أساس كثير من معاملاتنا تحت مسميات عديدة، وحتى أصبحت من أسباب الكثير من مصائبنا كحوادث السير مثلاً، حيث من الممكن أن تعطى شهادة الصلاحية للسيارة أو الحافلة أو غيرها بمعزل عن الفحص مقابل الرشوة، والمكلفون بمراقبة الطرقات غرقوا في هذه المصيبة إلا من رحم الله، والكل عن ذلك مسؤول.
أمرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بتحقيق الأخوة الإسلامية، ومشاركة المسلمين معاناتهم وآلامهم، فقال: "مثَل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى".
واليوم؛ هذا الجسد تشتكي منه أعضاء، فها هم المسلمون يقتلون ويذبحون في بورما، وإخواننا في الشام يقتلون في مجازر رهيبة تشمئز منها النفوس، فهل تداعى لها المسلمون بالسهر والحمى أم بالسهر فقط؟! وأي سهر؟! إنه سهر الرقص والطرب والمجون، ومخالفاتنا أكثر من أن تحصى أيها الأحباب.
إنَّ الدفاعَ عن سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يكون بالتفجير ولا بالتدمير، ولكن يكون بأن تفرض الأمة نفسها في عالم اليوم، وتفرض على الآخرين احترامها بالقوة العلمية، بالقوة الاقتصادية، بالقوة الإنتاجية، بالقوة الفكرية؛ وذلك حتى نعرِّف الدنيا: مَن يكون سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-!
ما أحوجنا إلى معاهد خاصة بالتعريف برسول الله -صلى الله عليه وسلم-! إلى قنوات فضائية تعرف بسيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في العالم بجميع اللغات!
اللهم أصلح أحوالنا...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي