سنتحدث اليوم عن قوم لوط عليه السلام الذين آتوا بفاحشة لم يسبقهم بها أحد من العالمين، فإبراهيم عليه السلام لما خرج من مصر، اصطحب معه في سفره لوطًا عليه السلام، ورجعا من مصر بمال كثير وخير وفير، ونزلا بأرض فلسطين تلك الأرض المقدسة ثم ضاقت بأنفسهما بقعة الأرض التي نزلاها، فنزح لوط عن محلة إبراهيم واستقر به المقام بمدينة سدوم، وقد كان أهلها ذوي ..
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله-، ولكم في الأمم السابقة عظة وعبرة وما حل بهم بسبب كفرهم وعنادهم وضلالهم أكبر تذكرة.
عباد الله: سنتحدث اليوم عن قوم لوط -عليه السلام- الذين آتوا بفاحشة لم يسبقهم بها أحد من العالمين، فإبراهيم -عليه السلام- لما خرج من مصر، اصطحب معه في سفره لوطًا -عليه السلام-، ورجعا من مصر بمال كثير وخير وفير، ونزلا بأرض فلسطين تلك الأرض المقدسة ثم ضاقت بأنفسهما بقعة الأرض التي نزلاها، فنزح لوط عن محلة إبراهيم واستقر به المقام بمدينة سدوم، وقد كان أهلها ذوي أخلاق فاسدة ونوايا سيئة، لا يتعففون عن معصية، ولا يتناهون عن منكر فعلوه، وكانوا من أفجر الناس وأقبحهم سيرة وأخبثهم سريرة، يقطعون الطريق ويخونون الرفيق ويتربصون لكل سار، فيجتمعون عليه من كل حدب وصوب، ويسلبونه ما حمل ثم يتركونه يندب حظه ويبكي ضياع ماله، لا يردهم عن ذلك دين ولا يصدهم حياء ولا يتعظون لواعظ ولا يستمعون لنصيحة من عاقل.
وقد ابتدعوا فاحشة لم يسبقوا إلى ارتكابها من أحدٍ من العالمين، وتعاطوا محرمًا ما كان يدور بخلد أحد اقترافه، فكانوا يأتون الذكران من العالمين، ويتركون ما خلق الله لهم من النساء فلا يقربوهن.
وليتهم ستروا بليتهم أو حاولوا الخلاص من ثمارها والبعد عن شرها، ولكنهم كانوا يحملون الناس على مشايعتهم، ويدعونهم إلى الأخذ من قليبهم -القليب البئر- أي يعملون مثل عملهم، أو يشربون مما يشربون منه، وتمادوا في ضلالهم حتى فشت المنكرات بينهم وكثرت الموبقات بينهم، وأشربت قلوبهم حب الفاحشة، ولما أصاب القوم ما أصابهم، واستحبوا الضلالة على الهدى، وآثروا الغواية على الرشد، واستحوذ عليهم الشيطان يستميلهم إلى المعاصي ويزين لهم الشهوات.
أوحى الله إلى لوط أن يدعوهم إلى عبادة الله، وينهاهم عن ارتكاب هذه الجرائم، فدعاهم وأعلن بينهم رسالته، ولكن آذانهم لم تسمع لقوله، وعيونهم عميت عن الحق، وقلوبهم غلقت فاندفعوا في شرورهم، واستمروا على فجورهم وتمادوا في طغيانهم، ولم يرتدعوا عن غيهم، بل حدثتهم نفوسهم الأمارة بالسوء، وسولت لهم عقولهم التي أضاعها العبث وتملكها الشر أن يخرجوا رسولهم من بين ظهرانيهم، فتوعدوه ومن معه بالإبعاد عن قريتهم، ولم يرتكب جرمًا إلا بعده عن مساوئهم، ولم يقترف إثمًا، إلا أنه تطهر من دنسهم ولم يسر في طريقهم ونأى عن قبائحهم، ودعاهم إلى صراط الله المستقيم.
ولما رأى منهم ميلاً وابتعادًا عن طاعة الله، خوفهم بأس الله وعذابه، فلم يأبهوا لتحذيره واستخفوا بوعيده، فألح عليهم بالعظات، وأنذرهم سوء العاقبة، ولكنهم لم يقلعوا عما كانوا فيه، بل ازدادوا تعلقًا به ورغبة فيه، وتحدوه أن العذاب لن ينزل عليهم، وأن الله لن ينزل بهم ما يستحقون من عقاب.
بعد ذلك سأل لوط ربه أن ينصره على هؤلاء القوم المفسدين، وأن يوقع بهم العذاب الأليم، وطلب إليه أن يخزيهم على كفرهم وعنادهم ويعاقبهم على بغيهم وفجورهم، فهم الداء الوبيل الذي يخاف انتشاره، والعضو المريض الذي لابد من استئصاله.
عاثوا في الأرض فسادًا، وصدوا عن سبيل الله، فاستجاب الله -عز وجل- دعاء لوط -عليه السلام- بعث ملائكته إلى هذه القرية الظالم أهلها، لينزلوا بهم ما يستحقون من عقاب، فنزلوا أولاً بدار إبراهيم -عليه السلام-، فحسبهم عابري سبيل، فقدم لهم خير ما يقدم للأضياف، ولكن أيديهم لم تمتد إلى قراه، فنكرهم وأوجس منهم خيفة، قالوا: لا تخافوا، ولم يزالوا بالمكان حتى بشروه بغلام عليم.
ثم سألهم إبراهيم: ما خطبكم أيها المرسلون؟! قالوا: إنا أرسلنا إلى قوم لوط الذين لم يستجيبوا لدعوته فكانوا من المجرمين، وسننزل بهم عذابًا أليمًا وبأسًا شديدًا، فحزن إبراهيم لذلك، وأخذ يجادلهم في قوم لوط، ويرجو تأخير البلاء وتأجيل وقوع العذاب، ولعله كان يأمل منهم الإنابة إلى الله والإقلاع عما يرتكبون من الذنوب والرجوع عما يقترفون من الفواحش، وقد يكون إبراهيم -عليه السلام- قد خاف أن يُمس لوط بأذى وهو مؤمن منكر لما يرتكبون، فهو لا يستحق العذاب، فأمره الملائكة أن يهون على نفسه وأخبروه أن لوطًا لن يصيبه أذى ولن يمسه عذاب، وسيكون هو وأهله من الناجيين، إلا امرأته فإن هواها معهم ورأيها تبع لرأيهم.
ثم ذهبت الملائكة إلى أرض سدوم في صورة شبان حسان، وفيما هم يهمون بدخول هذه القرية عرضت لهم جارية تستسقي الماء لأهلها، فسألوها أن تضيفهم، فأشفقت من قومها عليهم، واستضعفت نفسها عن حمايتهم، وأرادت أن تستنجد بأبيها في الدفاع عنهم، فأمهلتهم حتى تذهب إليه فتستشيره في أمرهم، وأتت أباها، فقالت: يا أبتاه: أرادك فتيان على باب المدينة ما رأيت وجوه قوم قط أصبح من وجوههم، وأخاف أن يعلم بأمرهم قومك فيفضحونهم، وفي بعض الروايات أنهم وجدوا ابنة لوط فدلتهم على بيت والدها، فلما رآهم لوط -عليه السلام- دهش لهذه المفاجأة، فأخذ يسأل ابنته يسألها عن شأنهم، ويستلهمها خير السبل التي ينتهجها، وأفضل الطرق التي يتبعها، ولعله قد تردد في السعي لاستقبالهم، وحار في قبول ضيافتهم، وحدثته نفسه أن يبعث إليهم بعذره، وأن يطلعهم على أمره، فيكفوه مدافعته لقومه ويتركوه وشأنه، ولكن دفعته المروءة فاستصغر هذه الصعاب، وخرج إليهم خفية، يريد أن لا يراه قومه ويحاول أن يصل إلى ضيوفه قبل أن يعترضوا طريقه ويصدوه عن سبيله، فقد حالوا بينه وبين العالمين، وأمروه أن لا يستضيف أحدًا، تسلل لوط خفية وسار حتى التقى بالملائكة، فاستقبلهم ببشره، وتلقاهم بوجهه، ثم دعاهم إلى بيته، ولكن الوساوس جاشت في نفسه، والمخاوف دبّت في قلبه، فضاق ذرعًا مخافة أن يعلم قومه بنزولهم عنده، فيهّبوا مسرعين إليه وهو ليس في منعة منهم، أو عصبية تمنعه من اعتدائهم.
فلما دخل بهم داره مع كتمانه لأمرهم خوفًا أن يتسرب إلى القوم خبرهم، إلا أن امرأته كانت تساير القوم في طريقتهم، فأفشت خبرهم، وأعلمت قومها بأمرهم، فجاؤوا إليه مسرعين، وأقبلوا عليه مستبشرين.
وفزع لوط حين رأى القوم قد اجتمعوا يريدون الفاحشة ويرغبون في المنكر، فناشدهم تقوى الله، ودعاهم إلى ستر مخازيهم، والكف عن مساوئهم، ولكنهم جميعًا فجرة سفهاء لم يستمعوا توسله ولم ينزلوا على إرادته، فأغلق الباب دونهم وحال بينهم وبين ما يشتهون.
ثم أرشدهم إلى غشيان نسائهم اللاتي جعلهن الله حلالاً لهم، وحذرهم من عاقبة فعلهم، ومع ذلك لم ينتهوا، بل ازدادوا خبثًا وتشبثًا بما عزموا عليه من الفاحشة، وقالوا للوط: إنك تعلم أنه ليس لنا في النساء من حاجة أو رغبة، وإنك لتعلم ما نريد.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ * إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ * وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ * فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ * وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ) [الأعراف 80 :84]. ونكمل في الخطبة الثانية إن شاء الله.
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وسنة خاتم رسله، وأسأل الله أن يقينا وإياكم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، أقول ما سمعتم وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، يهدي من يشاء، ويضل من يشاء، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه أجمعين وعلى التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله -عباد الله- وأطيعوه وراقبوه في السر والعلن.
عباد الله: استكمالاً للحديث عن لوط -عليه السلام- وقومه، أهل الفاحشة المنكرة، نقول وبالله التوفيق:
إن لوطًا -عليه السلام- ضاقت به السبل من إصرار قومه على فعل الفاحشة، وسدت أمامه أبواب الأمل، فأخذه الكرب، فأخذ يفكر كيف يخلص ضيوفه من مكر قومه فقال: لو أن لي بكم قوة لاستطعت أن أمنع عدوانكم، وآمن شركم، وأقف في وجوهكم، ولو كنت في منعة وعزة لمنعت ولقومت معوجكم وألنت قناتكم.
لكن القوم قد أعمتهم الضلالة، وأصروا على فاحشتهم، فغشيه الحزن، وتملكته ثورة من الغضب، وحين يئس من ردّهم، ولما رأى الملائكة ما هو فيه من الوجد والحزن ردوا لهفته وسكنوا روعه وقالوا: يا لوط: إنا رسل ربك، جئنا لإنقاذك، ودفع العدوان عنك، فلن يصل هؤلاء الكفرة المفسدون إليك، وإنهم لمنهزمون.
ثم إن القوم بعد ذلك تولاهم الفزع والرعب فتولوا هاربين، متوعدين لوطًا بعد أن كشف الله عنه الغمة وأصبح لا يأبه لوعيدهم وتهديدهم.
ثم أمره الملائكة أن يسري هو وأهله بقطع من الليل -آي آخره- ويتركوا هذه القرية التي أذن الله -عز وجل- أن ينزل بهم العذاب، ثم نهوه أن يصطحب معه امرأته، فسيحل بها ما حل بالقوم لنفاقها ومشايعتها لهم، وأمروه أن يصبر ويثبت عند نزول العذاب بقومه، فلما خرج لوط وأهله وابتعد عن القرية جاءها أمر الله ونزل بها عذابه وزلزلت الأرض زلزالها، فصار عاليها سافلها، ثم غشيت بمطر من سجيل -وهي الحجارة الصغيرة-، فأصبحت ديارهم خاليه، وبيوتهم خاوية بما ظلموا (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ).
عباد الله: جاءت قصة لوط مع قومه في عدة سور من القرآن الكريم؛ منها سورة الحجر من الآية 49 إلى الآية 77، وفي الآية 75 من سورة الحجر؛ يقول الله -عز وجل-: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ)، قيل: المراد بها الفراسة، أي أهل الفراسة، والتي يقصد بها الاستدلال بهيئة الإنسان وأقواله وأشكاله وألوانه على أخلاقه وفضائله ورذائله، وقيل غير ذلك.
من أعظم جرائم قوم لوط إتيان الرجال بدلاً من النساء، وقطع الطريق وإتيانهم المنكر من الأقوال والأفعال في مجالسهم، وتكذيب لوط -عليه السلام- الذي دعاهم إلى عبادة الله، وإلى الفضائل والأخلاق الفاضلة والأمور الطيبة بدلاً مما كانوا فيه من الكفر والفساد والضلال والخبث.
أسأل الله -عز وجل- أن يقينا وإياكم وكل إنسان أن يقع فيما وقع فيه قوم لوط من مفاسد ومنكرات، وأن يرزقنا وإياكم الطهارة والأخلاق الإسلامية الفاضلة، وصلوا -عباد الله- وسلموا على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي