استكمالاً للحديث عن قصة يوسف -عليه السلام-، وما علمه الله -عز وجل- من تأويل للأحاديث والرؤيا، وبعد لبثه في السجن بضع سنين، فإن الملك أصبح يومًا على رؤيا أهمته وأفزعته، فدعا إليه علماء دولته، وأشراف قومه، قص عليهم ما رأى، فلم يستطيعوا أن يفسروها: (قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ)، أضغاث أي: أخلاط أحلام.
الحمد لله يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء، بيده الخير وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه أجمعين، وعلى التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله- وأطيعوه واحمدوه واشكروه.
عباد الله: استكمالاً للحديث عن قصة يوسف -عليه السلام-، وما علمه الله -عز وجل- من تأويل للأحاديث والرؤيا، وبعد لبثه في السجن بضع سنين، فإن الملك أصبح يومًا على رؤيا أهمته وأفزعته، فدعا إليه علماء دولته، وأشراف قومه، قص عليهم ما رأى، فلم يستطيعوا أن يفسروها: (قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ) [يوسف:44]، أضغاث أي: أخلاط أحلام.
ولكن هذه الرؤيا ذكّرت ساقي الملك بيوسف السجين، الذي أوَّلَ رؤياه فصدق في التأويل، فقال: أيها الملك: إن بالسجن فتى كريمًا صائب الفكر، مُلهم الرأي، هو الذي يستطيع أن يفسرها، فلو أرسلتني إليه لجئتك بالخبر اليقين.
وانطلق الساقي إلى يوسف في سجنه، فوجده صابرًا محتسبًا قانتًا لله، فقال له: يوسف أيها الصديق: جئتك فيما أرجو أن يكون لك فيه مخرج من ضيقك، وقص عليه الرؤيا التي رآها الملك، وردت في سورة يوسف من الآية 43 إلى الآية 46.
ولم يكن يوسف -عليه السلام- عالمًا يؤول الرؤيا فحسب، بل كان رسولاً مصلحًا، أرسله الله هاديًا للناس في دنياهم وآخرتهم، ومعاشهم ومعادهم، فما كان يرى فرصة إلا انتهزها للدعوة إلى الله، ففسر الرؤيا كما في الآيات من 47 إلى 49 من سورة يوسف، حيث قال: إنكم تستقبلون سبع سنوات رخاء، تكونون في أخصب تربة وأمرع جنات، تزدهر حقولكم وتزكو غلاتكم ويصفو لكم العيش وتطيب الحياة، ثم تأتي في أعقابها سبع شداد، يظلكم فيها الأمل، وتكشف لكم الأيام عن سحاب خلق -أي لا مطر فيه- ووميض خادع -أي لمعان برق-، ينكص النيل فلا يفي بوعده، ولا يُمدكم برفده، ويتجهم وجه الأرض، فلا تبثكم مكنون خيرها، ثم لا تجدون قائمًا يحصد، ولا حصيدًا يخزن، وتصابون من دهركم بالداهية الجلى، والنائبة العظمى، ثم بعد ذلك تصالحكم الأيام، ويقبل عليكم الزمان، وتتهلل وجوه النجع، وتنحل عقد الأمور، ويظلكم عام خصيب تغاثون فيه من شدتكم، وتصلحون ما فسد من أموركم، تجودكم الأرض بالحنطة والشعير فتأكلون، والقرطم والزيتون والسمسم فتعصرون وتأتدمون، ذلك تأويل الرؤيا، وذلك ما أشرفت به نفسي، وما تلقيته بالوحي من ربي، وإذا كان ما أخبرت واقعًا لا محالة فما حصدتم في سنيكم الرخاء فاخزنوه مصونًا في سنابله حتى يظل سليمًا نقيًا، إلا ما تحتاجون إليه مما يقيم أودكم، ويحفظ حياتكم، لتتقوا السبع الشداد والسنين العجاف.
ولما وصل إلى الملك هذا التفسير، وفطن لذلك النصح والتدبير، أدرك أن وراء هذا عقلاً حصيفًا، وفكرًا ملهمًا، فدعاه إليه ليسبر غوره، ويدرك به شأوه، ولكن يوسف كان رسولاً كريمًا، وعلمه ربه كيف يكون صبورًا حليمًا، فما استجاب للكلمة الأولى، مع حاجته الماسة للخروج من السجن، فقد أمضى فيه سنين صعبة، خاصة أنه كان مظلومًا مغلوبًا على أمره، ومع ذلك ما أحب أن يخرج من سجنه ممنونًا عليه بعفو أو متفضلاً عليه بشيء، بل قال للرسول: ارجع إلى الملك وسله أن يتعرف أمر هؤلاء النسوة اللاتي قطعن أيديهن وأُخِذتُ ظلمًا بجريرتهن، ليظهر أمر براءتي قبل أن أغادر السجن، وتعرف قضيتي قبل أن يفصل فيها بالعفو.
فأهم الملك أمره وشغل باله ذكر النسوة، فقد كان يظن أن يوسف فتى لا يؤبه له، ولكن لما ظهر فضله ظهرت للملك أمور كانت خافية، واتضحت له أشياء كانت غامضة، فأحضر الملك النسوة بين يديه وسألهن: (قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ) [يوسف:51] فما وجد الإنكار سبيلاً إلى قلوبهن، ولم يستطعن الكذب، بل صرمن بالصدق فقلن: (حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ) [يوسف:51]، فما عرفناه إلا فتى كريمًا عفيفًا نزيهًا، وقالت امرأة العزيز -وقد نالت منها الأيام والسنون-: (الْآَنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ * ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ * وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ) [يوسف51 :53].
فقالت: إني أخبركم الآن أنه أعف من رأيت نفسًا، وأزكى من شهدت قلبًا، وإنه احتمل ما احتمل من آلام السجن بريئًا مظلومًا.
جاءت شهادة امرأة العزيز مبرئة ليوسف من الذنوب، فأنارت براءته وأخلاقه الكريمة وشيمه الحميدة لدى الملك رغبة صادقة في أن يقربه إليه، ليكون من المقربين عنده، فلما مثل بين يديه وحادثه الملك وجده حصيفًا أديبًا، وعاقلاً رشيدًا، فجعله أمينًا على الدولة، يعمل لخيرها، فيقوم على إصلاحها، ومكنه عنده -بقدرة من الله تعالى-، (ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) [الحديد:21] .
وكان يوسف نعم الأمين عند الملك، ونعم المتصرف، وخاصة حسبما رآه في رؤيا الملك وتأويله لها، ولما سطع ذكر يوسف في مصر واشتد القحط على الناس عند ذلك قال يعقوب -عليه السلام- لبنيه: يا بني: إن الجدب عمنا، وأمرهم أن يشدوا الرحال إلى مصر للتزود بالميرة، فخرجوا إلى مصر إلا أخوه بنيامين.
فلما دخلوا على يوسف بعد أن استأذن لهم الحاجب وقال: إن بالباب عشرة رجال تتشابه معارفهم، ويلتمح نور الصلاح في وجوههم، وكأنهم غرباء عن هذه الديار، أو ضيوف على هذه الأقطار، وعرفت هذا من لغاتهم ولهجتهم وحيرتهم وترددهم، وإنهم اليوم ببابك يستأذنون في الدخول عليك والمثول بين يديك.
وأذن لهم يوسف، فإذا هم إخوته لم تغير ملامحهم السنون، إخوته الذين تآمروا على قتله وآذوه، وهم الذين فرقوا بينه وبين أبيه، وها هم اليوم يلقاهم في حضرته دون سابق تدبير، بل بإحكام من اللطيف الخبير، عرفهم وهم لم يعرفوه، وأين لهم أن يعرفوا يوسف الذي ألقوه في البئر قبل سنين طويلة!! فهم لا يعرفون ماذا حدث له، فهل يكون في هذه المكانة الرفيعة عند الملك وذا جاه وحكم؟! ولكن يوسف كان حازمًا حكيمًا رزين الحصاة بصير الأناة، فلم يفصح لهم عن أمره، بل حاول أن يصل إلى ما في نفوسهم، ويعرف مكامن أسرارهم، وما خفي عليه من أخبارهم بأسلوب الحكيم، ومنطق الحاذق الحصيف، آواهُم وأكرم وفادتهم وأحسن ضيافتهم، وسألهم عن حالهم فقالوا: نحن اثنا عشر أخًا، سُلالة نبي كريم ورسول عظيم، عشرة منهم هم رسله الآن بين يديك، وآمالهم منتهية إليك، وأما الحادي عشر فقد خلفناه عند أبيه، يقوم على أمره ويسهر على رعايته، وأما الثاني عشر فقد فقدناه، ولا ندري اختاره الله لجواره، أم هو يضرب في الأرض الواسعة سهلها وواديها، وغورها ونجدها، ذلك هو أمرنا ظاهره وباطنه جملة وتفصيلاً.
قال يوسف: قد يكون حقًّا ما تقولون، ولكن لا وزن لقول لم يعزز ببينة أو يُدعم بشاهد، فأقيموا عندي البينة، أو ائتوا بالشاهد حتى أطمئن لحقيقة حالكم، وأسكن لصحة أقوالكم، فبينوا له أنهم في غربة، ولا أحد يعرفهم، وطلبوا منه أن يلتمس لهم مخرجًا، فقال: إني سأجهزكم بجهازكم وأعطيكم الميرة التي طلبتموها، على أن تعودوا ومعكم أخوكم الذي خلفتموه عند أبيكم ليكون شهيدًا عليكم، وأزيدكم حِمل بعير في غلاتكم، هذا هو شرطي، وهذا هو عهدي.
ونكمل -بمشيئة الله تعالى- في الخطبة الثانية، داعيًا الله -عز وجل- أن ينفعنا بهدي كتابه الكريم وسنة خاتم المرسلين.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه أجمعين، وعلى التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
عباد الله: إكمالاً لهذا الجزء من قصة يوسف نقول وبالله التوفيق: قال تعالى على لسان يوسف -عليه السلام- لإخوته: (فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ) [يوسف:60].
فقالوا له: ما نظن أن أبانا يأذن بسفره، أو يصبر على فراقه، ولكننا سنراوده عنه ونتلطف إليه وإنا لفاعلون.
وأمر غلمانه أن يوفوا لهم الكيل، وأن يدسوا في رحالهم البضاعة التي حملوها، والفضة التي جاؤوا يبتاعون بها، ليكون ذلك أدعى لرجوعهم، وأمكن لعودتهم، وخرجوا من مصر إلى بلادهم، فلما وصلوا إلى أبيهم قالوا: يا أبانا: لقينا رجلاً عظيمًا، ووزيرًا كريمًا، عرف فضلنا، وأكرم وفادتنا، وأوفى لنا الكيل، وأنزلنا في منزله، ولكنه أخذ علينا عهدًا وشرطًا أن لا يكيل لنا حتى نأتيه بأخينا يخبره بحقيقة حالنا؛ إذ إنه شك في أمرنا، وداخله الريب في رحلتنا، وعندما تنتهي الميرة -أي الطعام يمتاره الإنسان- ونحتاج إلى غيرها فأرسله معنا ليكون معينًا لنا على الكيل، مساعدًا لنا في الرفد.
قال يعقوب: لن آذن لكم بسفره، ولن أستريح لفراقه، وهل ترونني آمنكم عليه كما أمنتكم على أخيه من قبل؟! فاصرفوا عني كيدكم واكفوني شركم.
وفتحوا متاعهم فخفوا إلى أبيهم مسرعين، وتحدثوا إليه مسرورين، وقالوا: يا أبانا: ما كذبناك وما خدعناك حينما طلبنا إليك أن تأذن لنا بأخينا، فهذه بضاعتنا ردت إلينا شاهدة على كرم العزيز ومروءته، فأرسل معنا أخانا وسنفديه بأرواحنا.
وعندما رأى يعقوب أن حاجتهم إلى الميرة ماسة، وعاهدوه أن لا ينقضوا العهد، عند ذلك أذن لابنه بنيامين بالخروج معهم، شرط أن يأتوه به سليمًا مُعافى، فخرجوا، فلما وصلوا إلى يوسف ورأى أخاه بنيامين حنّ عليه ورق قلبه، ولكنه أخفى عواطفه، وستر ما في نفسه، ودعاهم إلى طعامه، وأجلسهم مثنى مثنى، وبقي بنيامين وحيدًا فبكى، وقال: لو كان أخي يوسف حيًّا لجلس معي، فأجلسه معه على مائدته، ثم قال له: لينزل كل اثنين منكم بيتًا، وهذا لا ثاني له يكون معي، فبات عنده وقال له: أتحب أن أكون لك أخاك بدل أخيك الهالك؟! قال: من يجد أخًا مثلك؟! ولكن لم يلدك يعقوب ولا راحيل، فبكى يوسف وقام إليه وعانقه، وأخبره أنه أخوه يوسف، وهذا ما سنذكره -إن شاء الله- في خطبة أخرى.
وصلوا وسلموا -عباد الله- على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي