ونبذوا أحكام التوراة ظهريًا، فقام إلياس -عليه السلام- يوبخهم على ضلالهم، ويدعوهم إلى التوحيد، وحذّرهم من عذاب الله ونقمته، وأنكر عليهم أن يعبدوا صنمهم الذي يسمى بعلاً، أو يطلبوا منه الخير، وهو صنم من أصنام الفينيقيين، أقاموا له ولغيره من الأوثان معابد ومذابح وكهنة يعظمون من شأنهم، ويقيمون لهم المآدب والأعياد الحافلة، ويقدمون لهم ..
الحمد لله القائل: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا *وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا) [مريم:56] ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه أجمعين، وعلى التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله-، فقد أثنى الله -عز وجل- على إدريس -عليه السلام- في هذه الآية الكريمة ووصفه بالنبوة والصديقية، أي بليغ التصديق بما يجب لله من الوحدانية والتنزيه.
ويذكر ابن كثير بأنه: خنوخ، وهو في عمود نسب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على ما ذكره غير واحد من علماء النسب، وكان أول نبي أعطاه الله -عز وجل- النبوة بعد آدم وابنه شيت -عليهما السلام-، وذكر ابن إسحاق أنه أول من خط بالقلم، وقد أدرك من حياة آدم ثلاثمائة وثماني سنوات.
قوله تعالى: (وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا) هو كما ثبت في الصحيحين من حديث الإسراء أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مرّ به وهو في السماء الرابعة، وتفسر بأنها شرف النبوة والزلفى عند الله تعالى.
وقال البخاري: ويذكر عن ابن مسعود -رضي الله عنه- أن إلياس هو إدريس الذي جاء ذكره في سورة الصافات: (وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ * أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ * اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آَبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ * فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ * إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآَخِرِينَ *سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ)[الصافات123 :132].
وفي تفسير القاسمي (8/107) أنه من أنبياء بني إسرائيل من بعد سليمان -عليه السلام-، وأنه يسمى في التوراة إيليا، أرسله الله تعالى لما انتشرت الوثنية في بني إسرائيل، وساعد على انتشارها بينهم ملوكهم، وبنوا لها المذابح وعبدوها من دون الله تعالى.
ونبذوا أحكام التوراة ظهريًا، فقام إلياس -عليه السلام- يوبخهم على ضلالهم، ويدعوهم إلى التوحيد، وحذّرهم من عذاب الله ونقمته، وأنكر عليهم أن يعبدوا صنمهم الذي يسمى بعلاً، أو يطلبوا منه الخير، وهو صنم من أصنام الفينيقيين، أقاموا له ولغيره من الأوثان معابد ومذابح وكهنة يعظمون من شأنهم، ويقيمون لهم المآدب والأعياد الحافلة، ويقدمون لهم ضحايا بشرية، ويتركون عبادة الله أحسن الخالقين، ربهم ورب آبائهم الأولين، فكذبه قومه فقال الله: (فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ) في العذاب، إلا من آمن به واتبعه، وجعل الله له ذكرًا في الأمم التالية، وسيجازيه الله أحسن الجزاء لأنه من المحسنين، وأنه من عباد الله المؤمنين، وهو على هذا القول إلياس غير إدريس -عليهما السلام-.
وإدريس -عليه السلام- أثنى الله عليه مع من أثنى عليهم من الأنبياء والمرسلين بالنبوة والهداية والاصطفاء والاختيار، قال تعالى: (أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آَدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا) [مريم:58].
ونبي آخر نتكلم عنه هو ذو الكفل؛ قال الله تعالى: (وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ * وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ) [الأنبياء85 :86]، وقال تعالى: (وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ) [ص:48]، فقد أثنى الله -عز وجل- في هذه الآيات على عدد من الأنبياء ومنهم ذو الكفل، فأثنى الله عليه بالنبوة، وقال بعض المفسرين: إنه لم يكن نبيًّا، وإنما كان رجلا صالحًا وحكمًا ومقسطًا عادلاً، وتوقف ابن جرير في ذلك، إلا أن المشهور بأنه نبي -عليه السلام-، وذهب بعض المحققين إلى أن ذا الكفل هو حزقيل -عليه السلام- الذي ذكر ابن كثير في كتاب قصص الأنبياء ص380 أنه أنزل الله -عز وجل- فيه قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ) [البقرة:243].
حيث قال ابن كثير: قال محمد بن إسحاق عن وهب بن منبه: إن كالب بن يوفنا لما قبضه الله إليه بعد يوشع خلف في بني إسرائيل حزقيل بن بوذي، وهو ابن العجوز، وهو الذي دعا على القوم الذين ذكرهم الله في كتابه فيما بلغنا، وذكر الآية 243 من سورة البقرة.
وقال ابن إسحاق: فروا من الوباء فنزلوا بصعيد من الأرض، فقال لهم الله: موتوا، فماتوا جميعًا، فحظروا عليهم حظيرة دون السباع، فمضت عليهم دهور طويلة، فمرّ بهم حزقيل -عليه السلام-، فوقف عليهم تفكرًا، فقيل له: أتحب أن يبعثهم الله وأنت تنظر؟! فقال: نعم، فأمر أن يدعو تلك العظام أن تكتسي لحمًا، وأن يتصل العصب بعضه ببعض، فناداهم عن أمر الله له بذلك، فقام القوم جميعًا وكبروا تكبيرة رجل واحد.
وروى ابن مسعود وعن ابن عباس -رضي الله عنهم- وغيرهما أنهم كانوا في قرية يقال لها: (داوردان) قبل (واسط) وقع بها الطاعون، فهرب عامة أهلها، فنزلوا ناحية منها، فهلك من بقي في القرية وسلم الآخرون، فلم يمت منهم كثير، فلما ارتفع الطاعون رجعوا سالمين، فقال الذين بقوا: أصحابنا هؤلاء كانوا أحزم منا لو صنعنا كما صنعوا بقينا، ولئن وقع الطاعون ثانية لنخرجن معهم، فوقع في قابل فهربوا وهم بضع وثلاثون ألفًا حتى نزلوا ذلك المكان وهو وادٍ أفيح، فناداهم ملك من أسفل الوادي وآخر من أعلاه أن موتوا، فماتوا، حتى إذا هلكوا وبقيت أجسادهم مرّ بهم نبي يقال له: حزقيل. وينهي ابن إسماعيل القصة حسب هذه الرواية كسابقتها والله أعلم.
ثم يذكر ابن كثير عن محمد بن إسحاق ص381 أنه لما قبض الله حزقيل إليه نسي بنو إسرائيل عهد الله إليهم، وعظمت فيهم الأحداث، وعبدوا الأوثان، وكان في جملة ما يعبدونه من الأصنام صنم يقال له: بعل، فبعث الله إليهم إلياس بن ياسين الذي يصل نسبه إلى عمران. والله أعلم.
عباد الله: هذه لمحة عن أنبياء الله إدريس وإلياس وذي الكفل، ذكرناها إجمالاً مع بعض التفصيل. أسأل الله أن ينفعنا بهدي كتابه الكريم وسنة خاتم رسله.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه أجمعين، وعلى التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
عباد الله: ذكر الله تعالى اليسع مع الأنبياء في سورة الأنعام آية 86 في قوله: (وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ) [الأنعام:86] ، وفي سورة ص آية 48 قال تعالى: (وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ)[ص:48].
وفيما يقول ابن كثير ص382 قصص الأنبياء بتصرف: أن اليسع كان بعد إلياس، مكث ما شاء الله أن يمكث يدعوهم إلى الله مستمسكًا بمنهاج إلياس وشريعته حتى قبضه الله -عز وجل-، ثم خلف فيهم الخلوف، وعظمت فيهم الأحداث والخطايا، وكثرت الجبابرة وقتلوا الأنبياء، وكان فيهم ملك جبار عنيد طاغٍ يقال: إنه الذي تكفل به ذو الكفل، إن هو تاب ورجع إلى الله دخل الجنة، فسُمِّي ذا الكفل. والله أعلم.
ويقال: هو عم إلياس النبي -عليهما السلام-، ويقال: كان مستخفيًا معه بجبل قاسيون من ملك بعلبك، ثم ذهب معه إليها، فلما رفع إلياس خلفه اليسع في قومه، ونبّأه الله بعده والله أعلم.
عباد الله: أعطينا في هذا اليوم لمحة عن بعض أنبياء الذين ذكرهم في كتابه الكريم، وهم إدريس وإلياس وذو الكفل واليسع.
وأسأل الله أن نكون ممن يذكرهم ويقتدي بهم في الدعوة إلى الله وإخلاص العبادة لله وحده والصدق مع الله -عز وجل-.
وصلوا -عباد الله- وسلموا على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي