سجل يا تاريخ

أحمد بن عبد العزيز الشاوي
عناصر الخطبة
  1. حب الوطن أمر فطري أقر به الإسلام .
  2. ضوابط لكبح جماح عاطفة الوطنية .
  3. مواضع يُذَم فيها حب الوطن .
  4. حرمة الاحتفال باليوم الوطني .
  5. المنكرات المصاحبة للاحتفالات باليوم الوطني .
  6. الحب الحقيقي للوطن .

اقتباس

على دعاة الوطنية أن يدركوا أن حب الوطن والولاء له ليس حبًّا مطلقًا ولا ولاءً محرَّرًا من كل قيد كما يريدون، وعليهم أن يدركوا أن راية المسلم التي يحامي عنها هي عقيدته، ووطنه الذي يجاهد من أجله هو البلد الذي تقام فيه شريعة الله، وأرضه التي يدافع عنها هي دار الإسلام التي تتخذ الإسلام منهجًا للحياة، وكل تصور آخر للوطن ..

الحمد لله الذي أعزنا بالإسلام، وجعلنا من أمة خير الأنام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك القدوس السلام، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله بجهاده وجهده عَزَّ الدين وقام، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه البَرَرَة الكرام، وسلم تسليمًا.

أما بعد:

فيا معشر المسلمين: اتقوا الله ربكم، واعتزوا بدينكم، ومن يتق الله يجعل له فرقانًا.

أما المكانُ فعلى مشارف مكة، وأما الزمانُ فيومُ الهجرة، أما الموقف فمشهدُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يلقي نظرة الوداع على مراتع الصبا وموطن المولد والمنشأ، قائلاً: "والله إنك لَمِن أحب البلاد إليّ! ولولا أن قومك أخرجوني منك ما خرجتُ".

إنها كلمات عبَّر فيها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عما تكنه نفسه لمكة من حب، وما يربطه بها، فهي البلد الحرام، وهي الموطن الذي نشأ فيه وترعرع، فتشده إليه ذكريات وذكريات.

وحينما هاجر المسلمون إلى المدينة أصاب الصحابة من الحمى بلاء ووباء؛ ما جعل بلالاً -رضي الله عنه- يتذمر قائلاً: "اللهم العن عتبة بن ربيعة وأمية بن خلف وشيبة بن ربيعة كما أخرجونا من أرضنا إلى أرض الوباء"، فما كان من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا أن دعا: "اللهم حبِّبْ إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشدّ، اللهم بارك لنا في صاعنا، وفي مُدّنا، وصحِّحْها لنا".

إن ذلك لم يكن إلا تعبيرًا عن شعور فطري يعتري الإنسان تجاه منبته وموطنه والدار التي درج فيها وترعرع في رباها، وهو شعور يجده كل إنسان، ليس فيه ما يعاب أو يذم؛ بل هو من تمام المروءة وتمام الخلُق.

إن الإسلام يُكبِر هذه العاطفة ويقدرها، ولكن ضمن إطار بحيث لا تطغى على العقيدة، وبشروط لابد من وجودها حتى لا يخرج هذا الشعور الفطري من المدح إلى القدح، وهو أن يكون في حجم طبيعي بسيط، أما إذا تضخم هذا الشعور ونُفخ فيه حتى يصل إلى حدود الولاء فإنه يتحول عندئذ إلى خصلة ممقوتة، وصفة مذمومة شرعًا.

إن هذا الشعور المتضخم تجاه الوطن والإقليم وجد في بلاد الإسلام في العصر الحديث، بل إنه صنع وصدر إليها بغرض خبيث، والغرب حينما صنعه وصدره لم يكن ليصدره لو لم تكن عند المسلمين قابلية للاستيراد.

وفي سبيل ترسيخ الشعور بالوطنية في بلاد المسلمين نشط الاستشراق بشكل فعال في بعث التاريخ السابق على الإسلام في كل بلد إسلامي، وأفلح في تأسيس هيئات للإشراف على عمليات التنقيب عن الآثار وإنشاء متاحف وطنية.

وبعد أن ارتفع صوت القومية طويلاً وأدى جزءًا من الأهداف المرسومة له ظهرت دعوةٌ لا تقل خطرًا عن مؤامرة القوميين، تلك هي الدعوة إلى الوطنية، واتخاذ الأوطان أندادًا يحبونها كحب الله، وارتفع صوت الوطنيين في كثير من بلاد الإسلام يدعون إلى مبادئ تخالف دعوة الإسلام، وتدعو إلى الانصهار في بوتقة الوطن، واعتباره رابطًا قوميًا يعلو فوق كل الروابط. ولم يدْرِ أولئك -ولربما علموا- ما يحمل هذا الفكر الخبيث من سموم، وما سيجره على الأمة من مصائب ونكبات.

إننا في الوقت الذي تتداعى فيه أمم الكفر على أمتنا، وتجتمع علينا في إطار عقيدة واحدة، نجد بيننا من يرفع شعارًا يمزقنا، ومبادئ تفرقنا.

إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعث في قوم تحكمهم العصبيات، وتسودهم الوثنيات، فكان السلاح الذي رفعه -صلى الله عليه وسلم- في وجه أولئك هو الإسلام الذي جمعهم بعد تفرق، وذابت فيه كل الفوارق والألوان والجنسيات والطبقات.

وفي ظل الإسلام عقدت أعظم مؤاخاة في التاريخ، جمعت العربي مع الرومي، والفارسي مع الأوسي، والحبشي مع الخزرجي، ولم يكن هناك أي اعتبار لميزان الجنس واللون والوطن.

إن أخطر ما في مثل هذه الدعوة أن بعض المسلمين يتحمس لها ويدافع عنها بحسن نية وسلامة مقصد، بل وتجدهم يرددون ما يزعمون أنه حديث نبوي: "حب الوطن من الإيمان"، وهو حديث موضوع لا يجوز الاحتجاج به، ولا الركون إليه.

إن حب الوطن أمر غريزي جِبِلِّي لا يستطيع الإنسان أن ينكره أو ينفيه، ولكن الخطر والخلل حينما يتخذ حب الوطن صنمًا يعبد من دون الله، ويُتخلَّى به عن المبادئ باسم الوطنية.

نعم، كل إنسان يحب وطنه، ولكن المسلم يجعل هذا الحب في إطاره الصحيح، فهو حب طبعي فطري، ولكنه لا يقدمه على حب الله ورسوله، ولا يساويه بحب الدين؛ بل ولا يرقى حب الوطن إلى حب الوالدين؛ إنه حب يُحْكَم بحب أسمى منه، والعلاقة بالوطن تخضع لعلاقة أقوى منه.

إن حقيقة الدعوة للوطنية تبرز عندما تتعارض مصلحة من مصالح الوطن الموهومة مع مبادئ الإسلام وقيمه الحقيقية، حينها تجد دعاة الوطنية يقدمون تلك المصلحة الظنية على ما يقره الإسلام ويدعو إليه.

إن حب الوطن أمر فطري؛ لكنه مرفوض حينما يراد منه أن يكون مقياسًا للحب والبغض والولاء والبراء.

إن المسلم بإسلامه يقطع حبال الجاهلية، ويخلع على باب الدين كل ماضيه بما فيه من سوءات وظلمات: (لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) [المجادلة:22].

قال -صلى الله عليه وسلم-: "ألا إن آل أبي ليسوا بأولياء، إنما وليي الله وصالح المؤمنين".

وصحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رسموا بمواقفهم صور الولاء والبراء، وقطعوا كل حبال الجاهلية، ومحضوا ولاءهم لله ولرسوله ولجماعة المؤمنين.

حب الوطن مرفوضٌ حينما يحُولُ بين الهجرة والجهاد، وقد ذم اللهُ المنافقين الذين فضلوا البقاء في الأوطان على الخروج للجهاد مع رسول الله: (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ) [النساء:66].

وأخبر -سبحانه- عن النهاية المخزية للذين رفضوا الهجرة وارتدوا عن دينهم إيثارًا لحب أوطانهم: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرًا) [النساء:97].

حب الوطن مرفوض حينما يحول بين الإنسان وبين حياة العز والشرف، تلك الحياة الرفيعة النظيفة الكريمة الحرة الطليقة، ويرضى بحياة الذل والهوان والاستضعاف مستخفيًا بدينه، متنازلاً عن مبادئه.

الإسلام يقر حب الوطن الذي ينبت العز ويهب الحرية الكاملة، فإن استحال على المسلم ذلك فليتحول عن دار الهوان، ولينشد الكرامة في أي مكان.

إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يحب مكة ويحن إليها ولكن ضمن إطار لا يطغى فيه على العقيدة، فحينما تعارض حب الوطن مع القيام بشريعة الله ونصرة دينه فلا مكان للوطن والتراب.

إن الأرض -كل الأرض- هي لله، وهي موطن لعباد الله؛ فاسكن حيث أحببت إذا تيسر لك أن تؤدي واجب العقيدة، فإذا تعارض الأمران فالعقيدة أولاً.

الوطنية ند مع الله حينما يراد منها أن تكون مظلة يتوحد فيها المسلمون والكافرون، وأهل السنة والمبتدعون، ويشترك في المكانة والحب والولاء تحتها مَن يحب الصحابة ويواليهم ومن يكفرهم ويعاديهم.

إن الوطن حق لمن يقيم شريعة الله، ويعمل بسنة رسوله، ومَن عاش مخالفًا لذلك فله حقوق المخالفين من البِرِّ والإحسان، وليس له حق الولاء والحب والتناصر الذي لا يكون إلا للمؤمنين.

الوطنية مبدأ باطل حينما يراد منه بتر المسلم عن إخوانه المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، فلا يتألم لآلامهم، ولا يشاركهم أحزانهم، ولا يسعى في نصرتهم والذب عن أعراضهم: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ) [التوبة:71].

على دعاة الوطنية أن يدركوا أن حب الوطن والولاء له ليس حبًّا مطلقًا ولا ولاءً محرَّرًا من كل قيد كما يريدون، وعليهم أن يدركوا أن راية المسلم التي يحامي عنها هي عقيدته، ووطنه الذي يجاهد من أجله هو البلد الذي تقام فيه شريعة الله، وأرضه التي يدافع عنها هي دار الإسلام التي تتخذ الإسلام منهجًا للحياة، وكل تصور آخر للوطن هو تصور غير إسلامي تنضح به الجاهليات ولا يعرفه الإسلام.

إن الكثيرين يدعون لحب الوطن، ويؤيدون دعاواهم تلك ببراهين أوهى من بيت العنكبوت لا يمكن أن يصدقها إلا الفارغون.

إنَّ الذي يزعم حب الوطن حبًّا مجردًا من مبادئ الإسلام وضوابطه كاذبٌ في زعمه، خائن لوطنه وأمته، وهو أول من يفر من معركة الذَّبِّ عن الوطن والدفاع عن حرماته، وما قصة المنافقين في أُحد إلا برهان للرد على هؤلاء، وفي الأحزاب خير دليل على حقيقة مواقفهم: (وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا) [الأحزاب:13]؛ فاعتبروا يا أولي الأبصار.

أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه وتوبوا إليه؛ إنه هو التواب الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على خير خلقه أجمعين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.

أما بعد:

أيها المسلمون: أساء الكثيرون إدراك الكيفية الحقيقية لحب الوطن، فجعلوها ألحانًا وترانيم، وطقوسًا وشعارات لا تمت إلى الوطنية الصحيحة بصلة، فنشأت أجيالٌ هزيلةٌ في ولاءاتها، ساذجة في مخزونها الفكري؛ بل والعاطفي! إذ سرعان ما تتنكر لأمتها، وتبادر إلى بيع ولاءاتها لمن يدفع أكثر.

إن العلائق الدنيوية، والمصالح المادية، لا يمكن أن تصنع ولاءً صادقًا؛ بل سرعان ما تذوب تلك الولاءات عند أول تيار ساخن يعصف بها.

إنَّ الحب الحقيقي للوطن لا يكون بتخصيص يوم يعلن فيه الحب للوطن، والولاء لقيادته، والطاعة لولاته؛ فإذا مضى زالت كل هذه المشاعر والمواقف، وقد قال العلماء في هذا اليوم قولتهم، وبينوا رأيهم، وقطعوا ببدعيته، وحكموا بحرمته.

ولست مسترسلاً في ذلك، ولكن؛ كم أتمنى أن نملك الشجاعة في الانقياد للحق كما ملكها الملك عبدالعزيز -رحمه الله- عام تسعة وستين وثلاثمائة وألف بعد الهجرة، حينما صدر قرار جاء فيه: "كانت الحكومة قد قررت الاحتفال بالذكرى الذهبية لدخول الملك إلى الرياض منذ خمسين سنة، وقد استفتي علماء الدين في ذلك فأفتوا بأنه ليس من سنن المسلمين، ونزولاً من جلالة الملك على حكم الشريعة أمر بإلغاء المراسم والترتيبات".

إن الحب الحقيقي للوطن هو الذي يُقدس العقيدة ويرسخها في الأجيال، فينشأ عنها حب الوطن، لا لذات الوطن؛ ولكن لإيمان أهله وإسلامهم وخلو أرضهم من مظاهر الشرك والبدعة، لا الحب المُعظم للحجارة والأتربة والمناخ والتضاريس والحدود الجغرافية.

وبعد هذا -أيها التاريخ- فاشهدْ وسجِّلْ! سجِّلْ -يا تاريخ- أن أمتنا تداوي أدواءها بالتي كانت هي الداء، فمظاهر عدم الولاء وصور اهتزاز الوطنية لا تعالج بالمظاهر والشكليات، ولا تحل بالبدع والمهرجانات، ولا تنمَّى الوطنية والولاء بما يزيد الشقاق، ويغضب الخلاَّق.

سجِّل -يا تاريخ- أن أمتنا تتذكَّر نعمة الله عليها باليُمْن والرخاء بعد الخوف والجوع والعناء، فتقابل هذه النعم بما يغضب المنعِم من لهو ولعب ورقص وغناء! فأين الأمة من قول خالقها: (وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [الأنفال: 26]؟!

سجل -يا تاريخ- أن أمتنا تلهو وتلعب وترقص وتطرب وتستمطر غضب ربها حتى بجوار البيت الحرام، وفي الشهر الحرام، وجيران لها يموتون بالآلاف، وأطفالهم يستخرجون من تحت الأنقاض، الجوع ألهبهم، والخوف أفزعهم، والعدو أرعبهم؛ فما هذا الأمن من مكر الله؟! ومن ينصرنا من بأس الله إن جاءنا؟!

سجل -يا تاريخ- أن أمتنا حسبت حب الوطن يُغرَس برفع الأعلام، وتعليق الصور، واختلاط الرجال بالنساء، وبالرقص والغناء؛ ومَن رفض هذه التفاهات، وأبى هذه الشكليات، ومنع نفسه ونأى بنفسه وأولاده من المشاركة فيها تعبدًا لله فهو متهم في ولائه، مشكوك في وطنيته!!

أوما علِمَت الأمة أن الإنسان في أي أرض وتحت كل سماء مفطور على حب بلده والحنين إليه؟! ولكن يضيف إلى الحنين ولاء ونصرة يوم أن يحكم بشريعة الله التي تحقق له الأمن على دينه ونفسه وماله وعرضه، يوم أن يحكمه دين يعيش الناس فيه آمنين على أنفسهم، آمنين على بيوتهم، آمنين على أسرارهم، آمنين على عوراتهم.

سيتحقق الولاء وصدق الانتماء يوم أن يجد الإنسان في وطنه بيتًا يأوي إليه، وعيشًا يكفيه، وعملاً يكفل له الاستغناء عن الناس والعيش بعزة وكرامة.

سنجد الولاء من الأسير والسجين يوم أن يجد من يتعامل معه بلغة: (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا) [النور:22].

وسنجد الولاء من الفقير يوم أن يتعامل الوطن معه بلغة: (وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ) [النور:33].

وسيجد الوطن من المريض ولاءً يوم أن يجد السرير والعلاج بلا مَنٍّ ولا أذى.

وسيجد الوطن من الجميع ولاءً يوم أن يسود بيننا شعار: "القوي فيكم ضعيف حتى آخذ الحق منه، والضعيف قوي حتى آخذ الحق له".

وإننا -بحمد الله- في بلادنا نملك كثيرًا من مقومات الولاء وراحة البال وغرس الوطنية، فلسنا بحاجة إلى استيراد مناهج أخرى.

إن هذا الوطن سفينة، وحكامه ربانها، والناس ركابها، وإن الحب الحقيقي لهذا الوطن يكون بالحفاظ على هذه السفينة وحمايتها من العابثين الذين يريدون خرقها ليغرقوا أهلها.

إن الاحتفال بالوطن لم يعد مجرد يوم تتحدث فيه وسائل الإعلام عن ميلاد أمة، وقيام دولة، وتوحيد كلمة، وعزائم رجال، وتذكر الأمة بنعمة الله عليها لتكون من الشاكرين؛ وإنما تحول إلى عيد عند قوم، وفرصة لدعاة التغريب يستغلونها في تمرير مشاريعهم التغريبية من تشريع الاختلاط، وتهوين المنكرات.

وصارت مجالاً لأفعال سخيفة وحركات مشينة يمارسها فئة من شبابنا وفتياتنا باسم الاحتفال، ومن خلالها تغلق الطرقات، ويؤذى عباد الله بالأصوات والحركات، ويعبث فيها بالأمن، وتحدث الفوضى، وتكثر التجمعات التي تتخللها أفعال يتزلزل منها جبل الحياء، ويتصدع جدار الغيرة.

رقص وغناء وتبرج واختلاط وقلة حياء، نساء يكشفن عن وجوههن وبعض صدورهن وقد لونت بالألوان الخضراء، تحرش ومعاكسات، امتهان لكلمة التوحيد. فهل هذا هو الفرح باجتماع الكلمة وتوحيد البلاد؟!

وختامًا: هذا نداء لكل مسلم في قلبه مثقال ذرة من إيمان، وفي قلبه مثقال حبة من غيرة وحمية لدين الله، هذا نداء لكل من يحب وطنه وينصح لولاة أمره ويغار على حرماته وعورات إخوانه، هذا نداء لكل من يخشى عقاب الله وعذابه، ولكل من يستشعر نعمة الله علينا بالأمن والرخاء، ويدرك أن بقاءها مرهون بالشكر واجتناب العصيان.

إن الواجب علينا النأي بأنفسنا وأهلينا ومحارمنا عن تجمعات وفعاليات يستغضب فيها الله بانتهاك حرماته، ويمجد فيها غير الله، ويرتفع فيها صوت المعازف والغناء، ويختلط فيها الرجال والنساء.

يا رجال الأمة ونساءها! يا كبراءها ومسؤوليها! لا تستجلبوا لأمتكم وبلادكم سخط الله وعقوبته! فلقد رأينا في عام مضى صورًا من المخالفات يندى لها الجبين، فاتقوا الله في الأمة، ولا تزرعوا بذور الإرهاب والقلاقل لتذهبوا بعدها باحثين عن الدواء.

يوم الأحد هو يوم امتحان لدينكم وغيرتكم وحميتكم؛ فإما أن تثبت المشاهد والمواقف أننا أمة واعية، رجالها أغيار، ونساؤها أزهار، وشبابها أخيار، يتسامون على التوافه، ويتمثلون المواطنة الحقة، أو أننا أمة تافهة يحركها الفضول، وتتحطم غيرتها بمعاول السلبية ونصال التبلد وقلة الإحساس.

وإني لأعجب من قوم يسمعون كلام الله وإذا مروا باللغو مروا كرامًا، وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه، ثم هم يرمون بنسائهم في الخطر بدافع الفضول! أفلا يتقي هؤلاء ربهم ويخافونه؟! ألا يغارون؟!

هذا؛ وإن على كل من يملك حسًّا دعويًّا ويحمل هم الاحتساب أن يكون ظهيرًا لرجال الأمن ورجال الهيئات بالنزول إلى الميدان، والتخفيف من سير المنكرات، ومواجهة التجاوزات بالحكمة والموعظة الحسنة.

إن من حق وطننا أن نفرح بكل خير ينزل بساحاته، وأن نعبر عن فرحنا بالشكر وتذكر النعمة، ما أجمل أن نعبر عن فرحنا بوحدة بلادنا بتذكر ما كانت عليه ثم ما آلت إليه! وبالحمد والشكر قولاً وفعلاً لله الخالق! ألم نكن عالة فأغنانا، ومشردين فآوانا، وجياعًا فأطعمنا، وخائفين فأمننا، وأذلة فأعزنا، ومتفرقين فجمعنا؟! (وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ) [الأنفال:26]، تذكير بأن الأمن مربوط بالإيمان.

إننا لا نفهم الوطنية الحقة إلا عقيدة راسخة، ومجتمعًا موحدًا، وشعبًا عفيفًا، وقيادة راشدة؛ ولا نفهم الأمن إلا أمن التوحيد والإيمان، وأمن الأخلاق والشرف، وأمن المال والعرق والدم.

وإنا لمنتظرون، ولربنا سائلون بأن يطهر بلادنا من البدع والمنكرات، وأن يحفظها من موجبات الغضب وأسباب العقوبات: (إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاء) [يوسف:100].

اللهم صل وسلم على مَن بلغ الرسالة، وأدى الأمانة...
 


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي