وتزداد الحاجة لفهم هذا الحديث والعمل بمقتضاه في زمن تزاحمت فيه الواجبات، وتنازعت فيه الأولويات، وصعبت الموازنة، وهذا حال جميع الناس، لأن الواجبات أكثر من الأوقات، فكانت الخطوة الأولى هي: تركيز الاهتمام فيما ينفع، وترك كل ما لا يعني، وهي أولوية تربوية ملحة في ..
أما بعد: فإن في سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- أنواراً هادية إلى الصراط المستقيم، وأضواءً كاشفة عن العوج والإنحراف والنقص والزلل.
وفي كلمة من مشكاة النبوة يرسم النبي -صلى الله عليه وسلم- مَعْلَمَاً من معالم النجاة؛ بل يحدد أمارة للفلاح والسداد يقيس بها المرء نفسه، ويعرف بها مقدار قربه أو بعده عن الجادة، فيقول -عليه الصلاة والسلام-: "مَن حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه" حسنه النووي وابن عبدالبر والألباني وغيرهم.
وتزداد الحاجة لفهم هذا الحديث والعمل بمقتضاه في زمن تزاحمت فيه الواجبات، وتنازعت فيه الأولويات، وصعبت الموازنة، وهذا حال جميع الناس، لأن الواجبات أكثر من الأوقات، فكانت الخطوة الأولى هي: تركيز الاهتمام فيما ينفع، وترك كل ما لا يعني، وهي أولوية تربوية ملحة في تربية الإنسان لنفسه وللآخرين.
عباد الله: إن معايشة مثل هذا الموضوع لتشعر المسلم وتوقفه على سر من أسرار نجاح الأمة؛ إنه اشتغالها بما يعنيها من أمر دينها ودنياها، وتوجهها نحو غايتها، وقيامها برسالتها، فعلماؤها يوجهون إلى ما يعني علماً وعملاً، ويحذرون مما لا يعني، وعامتها يستجيبون ويلتزمون.
من يكثر الشكوى من تزايد الأعباء والأشغال، ومن يتذرع بقلة الأوقات وضيقها عن كثير من الواجبات، ومن يتخذ من أشغاله الخاصة سلماً للتهرب من المسؤولية تجاه دينه والدعوة إليه، ولهؤلاء ونحوهم يقال: "مِن حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه"، فإذا تركتم ما لا يعنيكم، توفر لديكم كثير من الجهد والوقت والمال.
وهذا الحديث -معشر المؤمنين- يشتمل على معانٍ عظيمة لا غنى للمسلم عن فهمها، وامتثالها، وهو من جوامع كلمه -صلى الله عليه وسلم-.
وقد أفصح أهل العلم عن أهمية هذا الحديث ومنزلته: قال الإمام الدارقطني -رحمه الله تعالى-: أصول الأحاديث أربعة: "إنما الأعمال بالنيات"، وحديث: "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه"، وحديث: "إن الحلال بين وإن الحرام بين"، وحديث: "ازهد في الدنيا يحبك الله". وبنحو هذا القول، قال جمع من أهل العلم، رحمهم الله جميعاً.
عباد الله: ما معنى الحديث: "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه"؟ وما المراد به؟ إن معناه: كمال الالتزام بالإسلام، والترقي في مراتب الدين نحو بلوغ مرتبة الإحسان، فإن أخذ الإنسان بما لا يعنيه لا ينقض أصل إسلامه، بل يؤثر في كمال إيمانه، وينقص حسن إسلامه، ويمنعه من الوصول إلى مرتبة الإحسان.
وهناك سؤال: هل لمن عمل به مزيةُ فضل، وعظم أجر على غيره؟ والإجابة: نعم، فأولاً: يناله من الأجر: محبة الله تعالى، فإن الله تعالى قال: (وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) [البقرة:195]. وهذا المعنى داخل في هذه الآية، ومن أحبه الله كان معه في كل أموره يوفقه ويسدده.
وثانياً: زيادة مضاعفة الحسنات، لما روى أبو هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا أحسن أحدكم إسلامه فكل حسنة يعملها تكتب بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، وكل سيئة يعملها تكتب بمثلها حتى يلقى الله" رواه مسلم.
فالمسلمون -إذاً- منقسمون في الإسلام إلى قسمين: المحسن في إسلامه، وهو من انشغل بما يعنيه من أمور الإسلام الظاهرة والباطنة. والمسيء في إسلامه، وهو من لم يترك ما لا يعنيه.
معاشر المؤمنين: أكد النبي -صلى الله عليه وسلم- أيضاً معنى الحديث بحديث آخر إذ يقول: "احرص على ما ينفعك" رواه مسلم.
والشيء الذي لا ينفع كل المحرمات والمشتبهات والمكروهات وفضول المباحات التي لا يحتاج إليها، وهذه يحرص الشيطان دائماً على إيقاع العبد فيها، لكنه يتدرج من الأشد إلى الأخف.
أيها المسلم: ما الشيء الذي لا يعنيك تحديداً وإن كان في أصله ليس محرماً؟ إنه شؤون الآخرين، وخصوصياتهم في كيفيات معايشهم ووجهات ذهابهم وإيابهم، ومقدار تحصيلهم من الدنيا، وتفاصيل أحوالهم في أنفسهم وأولادهم ومشكلاتهم.
وكذا الانشغال بالقصص والوقائع والمشاهدات التي لا تتعلق بقصد صحيح، وقد ورد النهي عن مثل هذا فيما رواه مسلم عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله يرضى لكم ثلاثاً، ويكره لكم ثلاثاً، فيرضى لكم: أن تعبدوه، ولا تشركوا به شيئاً، وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا، ويكره لكم: قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال".
قال الإمام النووي رحمه الله في شرح الحديث: وأما "قيل وقال" فهو الخوض في أخبار الناس وحكايات ما لا يعني من أحوالهم وتصرفاتهم، وأما "كثرة السؤال" فيحتمل أن المراد كثرة السؤال عن أخبار الناس والزمان وما لا يعني، أو يحتمل كثرة سؤال الإنسان غيره عن حاله وتفاصيل أمره، وإحراجه في ذلك، فإن أخبره شق عليه، وإن كذبه في الأخبار أو تكلف التعريض لحقته مشقة وأيضاً إثم، وإن أهمل جواب صاحبه ولم يلتفت إليه فربما يرتكب سوء أدب.
وإذا كان التنفير في شأن سؤال الناس عن أحوالهم العادية، فكيف يكون الحال بالنسبة لتجسس أحوالهم وتتبع عوراتهم وسقطاتهم وزلاتهم، وإشاعتها بين الناس على وجه الإساءة، ونقل كلامهم على وجه الإفساد؟ والله -عز وجل- يقول: (وَلَا تَجَسَّسُوا) [الحجرات:12]، والنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "يا معشر من أسلم بلسانه، ولم يفض الإيمان إلى قلبه، لا تؤذوا المسلمين، ولا تعيروهم، ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من تتبع عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحله" رواه الترمذي وصححه الألباني.
فاتقوا الله -تعالى- عباد الله، وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له، وارتقوا بأخلاقكم وآدابكم إلى المستوى الرفيع الذي يليق بكم، ولا ترضوا بالدون وقد أكرمكم الله.
اللهم اهدنا لأحسن الأقوال والأعمال والنوايا والأخلاق، لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا...
الحمد لله ذي المنة والفضل والعطاء، يؤتي فضله من يشاء، ويحرمه من يشاء، وهو العدل الرحيم، العليم الحكيم، (إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) [يونس:44]، وأشهد أن إلا الله...
أما بعد:
معشر الفضلاء، فمما لا يعني المسلم وهو منهي عنه سؤال الآخرين عن أحوالهم الحسنة التي لا يحبون إظهارها خشية الحسد، مثلاً: نبوغ أولادهم وتفوقهم وذكاؤهم، ودخلهم، وأرباحهم، وإنتاجهم، ونحو ذلك.
ومما لا يعني: أشياء في أصلها والسؤال عنها مباح بل بعضها مما يندب إليه الشرع، لكن التقصي والمبالغة فيها يخرجها عن الحلال، إلى دائرة النهي، ومثل ذلك: الإغراق في تعلم الأنساب إذا زاد على القدر المطلوب الذي يحقق التعارف وصلة الرحم وحفظ الأنساب من دخول الأدعياء.
ومن ذلك: كثرة الحديث عن النساء والزواج والتعدد فيه بما لا يليق بالرجال وأصحاب المروءة، فهذا مما لا يعني وينبغي تركه.
والضابط -عباد الله- في كل ما سبق مما يعني ومما لا يعني هو الشرع المطهر، فلا يجوز أن يكون للهوى دخل فيه، فما كان من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مثلاً فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال فيه: "مَن رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان" رواه مسلم.
فترى أن القيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الإيمان، فهو إذاً مما يحسن به الإسلام ويزداد به الإيمان، وليس داخلاً في مما لا يعني المسلم، وفي هذا قال أحمد بن إبراهيم المقري: كان أبو الحسن النوري قليل الفضول، لا يسأل عما لا يعنيه، ولا يفتش عما لا يحتاج إليه، وكان إذا رأى منكراً غيره. اهـ. وهذا منهج علماء المسلمين الربانيين كلهم.
ومما يعني المسلم بدرجة كبيرة شؤون إخوانه المسلمين وقضاياهم، أينما كانوا، حسب استطاعته، فـ "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً".
ولكي يشتد البنيان ويقوى فإن الأمر يستدعي متابعة أحوال المسلمين وأخبارِهم، وتمحيص الحقائق وتوضيحها، ودفع الشبه والتهم عنهم، والذب عن أعراضهم، فذلك نصرة لهم.
كما أن من نصرتهم الدعاءَ لهم والسعي في إصلاح أحوالهم، والتخفيف عن معاناتهم. ألم يقل الرسول الرحيم -صلى الله عليه وسلم-: "مثَل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى"؟ رواه مسلم.
إخوة الإسلام: نعم، إن للآخرين خصوصياتهم وشؤونهم التي لا يعني الإنسان السؤال عنها، فضلاً عن التدخل فيها بأي شكل كان، نحو الاقتراحات التي تأتي على صورة أمر هو أشبه ما يكون بالإلزام، مع أنها قد تكون في قضايا تتفاوت فيها الآراء والأذواق والعقول، وكأنه يريد حمل كل الناس على رأيه وذوقه وعقله.
ومن تلك الخصوصيات التي لا تعنيك -أيها المسلم- أحوال الآخرين في بيوتهم، ومكاتبهم، ومراكبهم، وأوراقهم، ومتاجرهم، وطرائقهم في العمل والمعيشة، ومقدار مكاسبهم ورواتبهم، ومدخراتهم، أو أرصدتهم.
ولكن -أيها الإخوة- لا ينبغي أن نتجاهل هنا مراعاة حقوق القرابة، كالأب مع ابنه، ومع ذلك ينبه إلى أن استرسال بعض الآباء في التدخل في شؤون أبنائهم، المتزوجين خاصة، صار ينجم عنه مفاسد لا تخفى، وهي بالنسبة للتدخل في شؤون البنت المتزوجة أكثر نكارة، وأشد ضرراً، والموفق من وفقه الله، ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً.
وصلوا وسلموا...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي