إنَّ الجهاد ذروة سنام هذا الدين؛ لأن الصراع بين الحق والباطل سنة ثابتة، والرسول -صلى الله عليه وسلم- نبي الرحمة، وهو نبي الملحمة أيضاً، قال عن نفسه: "وجعل رزقي تحت ظل رمحي"، فنحن -أيها المسلمون- أمة قتال، ولا حياة لنا ولا عزة إلا بالجهاد، وهو مجدنا الذي ..
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضِل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: أيها الناس، في الوقت الذي تتزايد فيه الأوضاع حرَجاً على المسلمين في فلسطين متمثلة في القتل، والتجويع والحصار والإغلاق وتدمير المحاصيل، وهدم البيوت، والانسحاب من مدينة لاحتلال أخرى، ورعب يقض مضاجع السكان نتيجة هدير أصوات الدبابات وقصف المدافع وأزيز الطائرات.
وقل مثل ذلك أو أشد، ما يحدث الآن في أفغانستان في ظل الحملة الصليبية على العالم الإسلامي، في هذه الأجواء تختلط الأوراق عند بعض المسلمين؛ لأن الإعلام الغربي يُظهر مقاومةَ الاحتلال والتصديَ للعدوان والدفاعَ عن النفس إرهاباً! إذ لا تعرف الرحمة والحياء إلى قلوبهم سبيلاً.
هذه الضغوط جعلت بعض المسلمين يصدق مقولاتهم فيخجل من ذكر الجهاد، أو ربما ظن أن فيه تعدّياً على الحريات؛ لأنه يُلزم أعداء المسلمين بالدخول في الإسلام.
والذي يتعين بيانه في مثل هذه الظروف التي يعيشها المسلمون هذه الأيام أن نعلم أن المسلمين أمةُ جهاد، فتاريخهم حافل بالمعارك، لا تكاد تمر سنة في الصدر الأول إلا معركة فاصلة خاضها المسلمون مع أعدائهم، فالرسول -صلى الله عليه وسلم- عاش بالمدينة عشر سنوات، قاد المسلمين خلالها في عشر غزوات أو أكثر، وتوفي -صلى الله عليه وسلم- وهو يجهز جيش أسامة بن زيد لغزو الروم وفتح الشام. هذا عدا السرايا والطلائع التي يبعثها بين وقتٍ وآخر.
وإليكم -معاشر المسلمين- تفصيل شيء مما سبق: وصل الرسول -صلى الله عليه وسلم- المدينة مهاجراً في اليوم الثاني عشر في شهر ربيع الأول في السنة التي سميت فيما بعد بالسنة الأولى للهجرة، وفي شهر رمضان من السنة نفسها عقد أول لواء في الإسلام لحمزة بن عبد المطلب يعترض عيراً لقريش آتية من الشام، وفي شوال من السنة نفسها بعث عبيدة بن الحارث في سرية إلى بطن رابغ.
ثم في شهر ذي القعدة الذي يليه بعث سعداً إلى الخرار، كلهم يعترضون عيراً لقريش، وتلا ذلك على الفور غزوة الأبواء بقيادته -صلى الله عليه وسلم-، وهي أول غزوة غزاها الرسول -صلى الله عليه وسلم-.
وبعد مُضي سنة واحدة فقط على الهجرة، أي في شهر ربيع الأول من السنة الثانية، سجلت العملية العسكرية الخامسة، وهي غزوة أبواط، وبعدها تعقُّب كرزِ بن جابر لما أغار على سرح المدينة، لكن كرزاً فاته. وفي جمادى الثانية كانت غزوة العشيرة.
ثم كانت غزوة بدر الكبرى في شهر رمضان من السنة الثانية، وبعدها سرية عبد الله بن جحش إلى نخلة. ثم بعد سبعة أيام فقط من غزوة بدر نهض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى بني سليم.
ولما رجعت فلول المشركين ووصلت مكة نذر أبو سفيان ألا يمس رأسه ماءٌ حتى يغزو رسول الله -صلى الله عليه وسلم- انتقاماً ليوم بدر، فخرج في مائتي راكب حتى بلغ طرف المدينة، فخرج الرسول -صلى الله عليه وسلم- في طلبه، لكنه هرب وفاته.
ثم غزا الرسول -صلى الله عليه وسلم- نجداً يريد غطفان، فأقام شهر صفر كله هناك، وكانت بعد بدر بأربعة أشهر فقط.
ثم تجدد النشاط بتعقب قريش في ربيع الآخر وجمادى الأولى من السنة الثالثة للهجرة. ثم وقعت غزوة بني قينقاع، ثم عملية اغتيال كعب بن الأشرف اليهودي لنقضه العهد.
وفي شوال من السنة الثالثة دارت غزوة أحد، وفور انتهائها والفرح لا زال يغمر قلوب المشركين بنشوة الانتصار هذه المرة، وإذا بهم يتنادون ثانية للإجهاز على المسلمين، فعلم الرسول -صلى الله عليه وسلم- بذلك فندب المسلمين إلى المسير إليهم، وقال: "لا يخرج معنا إلا من شهد القتال"، يعني قتال أحد.
فاستجاب له المسلمون رغم أنهم مثخنون بجراح أحد، فتبع المسلمون المشركين حتى بلغوا حمراء الأسد خارج المدينة، ولما رأى المشركون قوة المسلمين وقد أعادوا تنظيم صفوفهم بهذه السرعة خافوا أن تقطف زهور نصرهم؛ فولوا الأدبار إلى مكة.
وبقي الرسول -صلى الله عليه وسلم- بقية السنة الثالثة، فلما كان المحرم من السنة الرابعة بعث سرية لتأديب ابني خويلد حينما علم أنهم يهمون بغزو المدينة، فأصابوا منهم إبلاً وشاءً، دون قتال. وبعدها بأيام قلائل وفي نفس الشهر بعث سرية أخرى.
والحاصل -أيها الإخوة- أن الغزوات والسرايا طيلة حياة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وهي تتلاحق وتتابع، وحركة الجهاد لا تهدأ، ورايات الجهاد تُعقد، وطوابير المجاهدين تتقاطر من المدينة متجهة شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً، وآيات القرآن تتنزل من السماء دفعاً لهم، وحضاً على القتال، معاتبة القاعدين، وذماً للكسالى، وفضحاً للمخذلين عنه.
إنَّ الجهاد ذروة سنام هذا الدين؛ لأن الصراع بين الحق والباطل سنة ثابتة، والرسول -صلى الله عليه وسلم- نبي الرحمة، وهو نبي الملحمة أيضاً، قال عن نفسه: "وجعل رزقي تحت ظل رمحي"، فنحن -أيها المسلمون- أمة قتال، ولا حياة لنا ولا عزة إلا بالجهاد، وهو مجدنا الذي نتفاخر به.
وإن الإثخان بالكفار هدف إسلامي، ومطلب شرعي: (مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [الأنفال:67].
وهي ليست تهمة نتبرأ منها، بل هو شرف نفتخر به، ونعتز به، لا شهوةً في الانتقام وحباً لسفك الدماء؛ ولكن لأن الله أمرنا له، فنمتثل، قال الله تعالى: (انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [التوبة:41].
وقال -سبحانه-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ) [التوبة:38].
ولما همَّ بعض المسلمين في المدينة أن يتفرغ لحرثه ودنياه بعد خوض معارك كثيرة مع الرسول -صلى الله عليه وسلم- جاء العتاب من الله تعالى.
أخرج الترمذي وأبو داود والنسائي وغيرهم عن أسلم بن عمر أبي عمران، قال: حمل رجل من المهاجرين بالقسطنطينية على صف العدو حتى خرقه، ومعنا أبو أيوب الأنصاري، فقال أناس ألقي بيده إلى التهلكة، فقال أبو أيوب: نحن أعلم بهذه الآية؛ إنما نزلت فينا، صحبنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وشهدنا معه المشاهد، ونصرناه، فلما فشا الإسلام وظهر، اجتمعنا -معشرَ الأنصار- نجياً، -أي: يتناجون-.
فقلنا: قد أكرمنا بصحبة نبيه -صلى الله عليه وسلم-، ونصره، حتى فشا الإسلام وكثر أهله، وكنا قد آثرناه على الأهلين والأموال والأولاد، وقد وضعت الحرب أوزارها، فنرجع إلى أهلينا وأولادنا، فنقيم فيهما، فنزل فينا: (وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلى التَّهْلُكَةِ) [البقرة:195]، فكانت التهلكة الإقامة في الأهل والمال وترك الجهاد.
أيها المؤمنون بالله تعالى: إن المبادئ والأديان أياً كانت على حق أو على باطل لا تحيا ولا تنهض إلا بالمغالبة والمدافعة؛ ولقد فهم هذا المعنى أحد رؤساء الوزارة في دولة اليهود وصنف كتاباً سماه التمرد، يحكي فيه فصولاً من المواقف التي مرَّ بها أيام كان يسعى ويقاتل من أجل إيجاد دولتهم، وعقد باباً في كتابه سماه: [نريد أن نحيا فلنقاتل إذاً]. فاعتبر القتال هو طريق الحياة.
وإن أمة أو شعباً يتهرب أو يتبرأ من ذلك لن يقوم ولن ينهض، فإما أن يتقدم بالجهاد ويعلو، وإلا فالتأخر والذل والهوان، ويذبح كما تذبح الخرفان.
ومصداق ذلكم قول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "إذا ضن الناس بالدينار والدرهم، وتبايعوا بالعينة، واتّبعوا أذناب البقر، وتركوا الجهاد في سبيل الله، أنزل الله بهم بلاء، فلم يرفعه عنهم حتى يراجعوا دينهم" رواه أحمد ورجاله ثقات وصححه ابن القطان.
وقال -صلى الله عليه وسلم-: "مَن لم يغز أو يجهز غازياً أو يخلف غازياً في أهله بخير أصابه الله بقارعة قبل يوم القيامة" أخرجه أبو داود وابن ماجة والدارمي وسنده قوي.
وترك الجهاد -عباد الله- سبب لعذاب الله وبطشهن قال -تعالى-: (إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [التوبة:39].
وهنا نجد أن العذاب الذي يتهدد من يتركون الجهاد ليس عذاب الآخرة وحده؛ وإنما معه أيضاً عذاب الدنيا: عذاب الذلة والهوان والخسران؛ فيخسرون من الأموال والأنفس أضعاف ما يخسرون فيما لو أقاموا علم الجهاد.
وتأملوا حال البلاد الإسلامية كافة، كم تخسر من الأموال والأنفس الآن، ومن مظاهر ذلك: الجهود الطائلة في ضبط الأمن، ومكافحة الإرهاب، والضرائب الباهظة، والديون، والديون المجدولة عليها للدول الغربية، ولا تنسوا حوادث السيارات، والحروب الأهلية، والتهديدات من الدول المجاورة، وحركات التمرد، وعصابات المخدرات...
كل ذلكم أعباءٌ ثقيلة تنوء بحملها ميزانيات الدول الإسلامية، فما يقدمونه على مذابح الذل أَضعاف ما يتطلبه الجهاد لو أخذوا به.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [الصف:10-12].
اللهم انفعنا بالقرآن العظيم، وبسنة سيد المرسلين.
الحمد لله الذي فضل أمة محمد على سائر الأمم، وجعل ذروة سنام دينها الجهاد.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، المتفرد بالملك والعزة والقهر إلى يوم التناد، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله قاتل في سبيل الله، فما كلَّ ولا ملّ، وأقسم قائلاً: "والذي نفسي بيده! لولا أن رجالاً من المؤمنين لا تطيب أنفسهم أن يتخلفوا عني، ولا أجد ما أحملهم عليه، ما تخلفت عن سرية تغزو في سبيل الله، والذي نفسي بيده! لوددت أني أُقتَل في سبيل الله، ثم أحيا، ثم أقتل، ثم أحيا، ثم أقتل، ثم أحيا ثم أقتل" رواه البخاري، أربع مرات تمنى -صلى الله عليه وسلم- أن يقتل في سبيل الله!.
أما بعد: أيها المسلمون، (وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [آل عمران:139]؛ لأنكم تسجدون لله الواحد الأحد، وغيركم يسجد لمخلوق، وأنتم -أيها المسلمون- تسيرون وفق نهج وضعه الله العليم الحكيم، وغيركم يعيش على زبالات أفكار البشر.
إنكم -أيها المسلمون- أوصياء الله على البشرية كافة، وأنتم هداتها، تقودونهم إلى الجنة، وتنقذونهم من النار، كل هذا إذا كنتم مؤمنين، فإذا أنتم كذلك فلا تهنوا ولا تحزنوا، وإنما هي سنة الله أن تصابوا وتُصيبوا، على أن تكون العقبى لكم بعد الجهاد والابتلاء والتمحيص.
ولقد نزلت هذه الآية -معاشر المسلمين- عقيب غزوة أحد، حين هُزم المسلمون، ومسهم القرح، فطمأنهم الله تعالى أنهم وإن هزموا في هذه المعركة وهذه الجولة إلا أنهم الأعلون، لكن نهاهم أن يهنوا أي يضعفوا، بل عليهم أن يبقوا شامخةً قلوبهم، واثقةً بنصر الله ووعده.
ونحن المسلمين؛ مأمورون بجهاد الكفار، وقتالهم، والإثخان فيهم، وليسموا ذلك ما شاؤا: صراع حضارات، أو وحشية وهمجية، فلسنا بحاجة أن نتلقى قيمنا وأخلاقنا من مجلس الأمن أو منظمات حقوق الإنسان أو من أمريكا أو غيرها من قلاع الكفر والشرك وحصونه، هذا من جانب.
ومن جانب آخر، فإن الأعداء لا يفتأون يعلنون ويصرحون بذلك، ففي إعلان الحرب القائمة الآن قال الرئيس الأمريكي: اليوم نركز أنظارنا على أفغانستان، ولكن المعركة أوسع، هناك خيار أمام كل أمة، ليس هناك منطقة محايدة في هذا النزاع.
وتبعه وزير دفاعه قائلاً: في حين أن غاراتنا تركز على أفغانستان، فإن هدفنا أوسع بكثير. وقال: وهذه لن تكون حرباً نظيفة، وآسف بأن أقول ذلك، وستكون حرباً عسيرة محفوفة بالمخاطر، وهناك ترجيح بأن عدداً أكبر من الناس سيفقدون. اهـ.
اللهم ارفع البأس والضراء عن المسلمين، وردهم إليك رداً جميلاً، اللهم مَن أرادهم بسوء فأشغله بنفسه.
اللهم ...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي