حجة الوداع وتربية الأمة

حسان أحمد العماري
عناصر الخطبة
  1. خطبة النبي الكريم في حجة الوداع .
  2. مبادئ رسختها الخطبة .
  3. دروسٌ مستفادةٌ من الخطبة .
  4. فضل العشر من ذي الحجة .
  5. بعضُ أعمال العشر .

اقتباس

لقد ظهر من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبة حجة الوداع مدى حرصه ورحمته وشفقته بأمته رجالاً ونساءً، صغارًا وكبارًا، حكامًا ومحكومين، وكان يخاف أن يبدلوا أو يغيروا شيئًا من دينه، أو يتركوا شيئًا من شريعته، فيسقطوا من عين الله، ولا يستطيع بعد ذلك أن يدافع عنهم عند الله، أو يشفع لهم، فخاطبهم بقوله ..

الحمد لله الذي بنعمته اهتدى المهتدون، وبعدله ضل الضالون، لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون، أحمدهُ -سبحانه- حمد عبدٍ نزَّه ربه عما يقول الظالمون. 

وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، وسبحان الله رب العرش عما يصفون، الإله المحبوب، الذي بطاعته تنفرج الكروب، وبالتوبة إليه تغفر الذنوب.

وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله ذو المقام الموهوب، باتباع سنته تتسع الأرزاق، والأمر بحبه على الوجوب، من أطاعه فقد أطاع الله، ومن عصاه ففي النار مكبوب، صاحب الشفاعة العظمى، والمقام الأسمى، واسمه على أبواب الجنة مكتوب.

اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه عدد الرمال والحصى، وكلما أطاعه عبد أو عصى، ونوِّرْ بصلاتنا عليه بصائرنا والقلوب.

أما بعد:

عباد الله: لقد وقف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمام أصحابه خطيبًا في حجة الوداع في مثل هذه الأيام من أيام الحج، فتكلم في خطبة عظيمة عن الكثير من الأمور التي تهم المسلم في دينه ودنياه وآخرته، فكانت هذه التعاليم بمثابة خطة العمل ودستور الحياة لأمته؛ لتستأنف الحياة من جديد من بعده، والتي تضمن لها الحياة الطيبة، والراحة النفسية، والتمكين في الأرض.

كيف لا؛ ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان أحرص على المسلمين والمؤمنين من أنفسهم؟! كان يخاف عليهم بعد أن يودع هذه الحياة وينتقل إلى ربه من الوقوع فيما حذّر منه، قال -سبحانه-: (لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ) [التوبة: 128].

ولقد أجيبت دعوة أبي الأنبياء إبراهيم -عليه السلام- حين هتف وهو يبني البيت العتيق: (رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ) [البقرة:129]؛ فبعث الله محمدًا -صلى الله عليه وسلم- رحمة لهذه الأمة، ورحمةً للعالمين.

فما أحوجنا في المحن والشدائد، وفي الرخاء، وعند نزول الفتن والمصائب، وفي اليسر والعسر، إلى توجيهات هذا الرسول العظيم، والنبي الكريم؛ لتستقيم الحياة، ويسعد الإنسان، ويعم الخير على المجتمع.

وقف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يخطب وقد تجمع حوله في ذلك الزمان مائة ألف أو يزيدون في صعيدٍ واحد يسمعون هذه التوجيهات.

ومن المعجزات التي حصلت أن الخطبة سمعها جميع من كان في الحج بدون مكبر صوت، فعن عبد الرحمن بن معاذ التيمي قال: "خطبَنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بمنى، ففتحت أسماعنا حتى كنا نسمع ما يقول، ونحن في منازلنا". رواه أبو داود وصححه الألباني.

فكان مما قاله: "أيها الناس: اسمعوا قولي فإني لا أدري لعلِّي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبدًا. أيها الناس: إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربكم، كحرمة يومكم هذا، وكحرمة شهركم هذا، وإنكم ستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم، وقد بلغت، فمن كانت عنده أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها.


وإنَّ كل ربًا موضوع، ولكن لكم رؤوس أموالكم، لا تَظلمون ولا تُظلمون، قضى الله أنه لا ربا، وإن ربا العباس بن عبد المطلب موضوع كله.


أيها الناس: إن الشيطان قد يئس أن يعبد في أرضكم هذه أبدًا، ولكنه إن يُطع فيما سوى ذلك فقد رضي به مما تحقرون من أعمالكم، فاحذروه على دينكم.


أيها الناس:
(إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُوإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرًا، منها أربعة حرم، ثلاثة متوالية، ورجب -الذي بين جمادى وشعبان". رواه الترمذي وأحمد وابن ماجه. وهو حديث صححه الألباني وغيره.

ثم أخذ -صلى الله عليه وسلم- يوصي بحسن معاملة النساء وحسن معاشرتهن بالمعروف، وعدم غمط شيءٍ من حقوقهن، وأوصى بهن خيرًا.

وعند ابن ماجه أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "ألا وإني فرطكم على الحوض، وأُكاثر بكم الأمم. فلا تسوّدوا وجهي، ألا وإني مستنقِذ أناسًا، ومستنقَذ مني أناس، فأقول: يا رب: أصحابي! فيقول: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك". رواه ابن ماجه وصححه الألباني.

وفي رواية: "ألا هل بلغت؟!"، فقالوا: نعم. قال: "اللهم اشهد، فليبلغ الشاهد الغائب، فرُبَّ مبلَّغ أوعى من سامع، فلا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض". رواه البخاري.

أيها المؤمنون، عباد الله: ما أعظم هذه المبادئ التي أرساها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأمته! فكان أول ما تكلم به حرمة الدماء والأعراض والأموال، وخطورة أن يكون فعل المسلم أو عمله أو قوله سببًا لسفك دم إنسان من أي بلاد أو جنس أو لون بدون حق، والله -تعالى- قد حذَّر من ذلك فقال: (وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا) [النساء:93].

وجعل -سبحانه- التعدي على حياة هذا الإنسان من أكبر الكبائر، وأعظم الجرائم والذنوب التي تورد صاحبها المهالك في الدنيا والآخرة؛ يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دمًا حرامًا"، وقال ابن عمر: "إن من ورطات الأمور التي لا مخرج لمن أوقع نفسه فيها سفك الدم الحرام بغير حله". رواه البخاري. ويقول -عليه الصلاة والسلام-: "كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا الرجل يموت كافرًا أو الرجل يقتل مؤمنًا متعمدًا". رواه أحمد وصححه الألباني.

بل جعل -سبحانه وتعالى- قتل المسلم وسفك دمه من عظائم الأمور، يقول -عليه الصلاة والسلام-: "قتل المؤمن أعظم عند الله من زوال الدنيا". رواه النسائي وصححه الألباني. وقال -تعالى-: (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا بِالبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ) [المائدة:32].

وما نراه اليوم ونسمعه ونشاهده من جرأة الناس على الدماء المعصومة في الحارات والشوارع والمدن بسبب الخلافات والصراعات بين الأفراد والمجتمعات والدول لينذر بالخطر الداهم على سلامة وأمن المجتمعات والأمم والدول، وهو سبب لذهاب البركة والرزق والراحة وطمأنينة النفس، وهو سبب لنزول سخط الله ومقته وعذابه في الدنيا والآخرة.

واستمعوا إلى هذا الحديث البليغ العجيب لمشهد القتيل مع قاتله في أرض المحشر، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "يجيء المقتول متعلقًا بالقاتل يوم القيامة وأوداجه تشخب دمًا بين يدي الله، فيقول: يا رب: سل هذا فيمَ قتلني؟! حتى يدنيه من العرش". أخرجه أحمد في المسند وصححه الألباني.

ماذا ستكون الإجابة؟! أمن أجل دنيا فانية ولذة عابرة وهوى متبع يقع المسلم في مثل هذه الجريمة؟! قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: "قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ: ثَبَتَ النَّهْي عَنْ قَتْلِ الْبَهِيمَة بِغَيْرِ حَقّ، وَالْوَعِيد فِي ذَلِكَ، فَكَيْف بِقَتْلِ الآدَمِيّ؟!". اهـ. ألا فلنتقِ الله، ولنحذر سخطه وعقوبته؛ بحفظ دمائنا وأعراضنا وأموالنا.

عباد الله: ثم تحدّث -صلى الله عليه وسلم- عن الربا وتحريمه وخطورته على الأفراد والأمة في المجال الاقتصادي والمعاملات المالية، ولقد أجمع الخبراء الاقتصاديون المسلمون وغير المسلمين على أن من أهم أسباب الأزمة المالية التي ضربت بنوك العالم وشركاته ومؤسساته وسببت الخسائر المالية الفادحة هو الربا، وأن البركة المنزوعة من أموالنا وأعمالنا سببها الربا الذي يؤدي إلى الظلم والجشع والطمع، ويغيب القرض الحسن بين الناس، ويكون المال بسبب الربا متداولاً بين فئة من أفراد المجتمع، فيظهر الفقر المنسِي، والغنى المطغي.

والربا سبب في تعطيل الأعمال والمشاريع والصناعات؛ لأن صاحب المال أصبح يعتمد على البنوك وفوائدها الربوية في تحصيل الربح، فتتعطل مصالح الناس، وتظهر البطالة، وغير ذلك، والله -عز وجل- يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ) [البقرة:278-279].

فاللهم ردنا إلى دينك ردًا جميلاً...

قلتُ ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.

الخطبة الثانية:

عباد الله: لقد ظهر من كلام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في خطبة حجة الوداع مدى حرصه ورحمته وشفقته بأمته رجالاً ونساءً، صغارًا وكبارًا، حكامًا ومحكومين، وكان يخاف أن يبدلوا أو يغيروا شيئًا من دينه، أو يتركوا شيئًا من شريعته، فيسقطوا من عين الله، ولا يستطيع بعد ذلك أن يدافع عنهم عند الله، أو يشفع لهم، فخاطبهم بقوله: "ألا وإني فرطكم على الحوض، وأكاثِرُ بكم الأمم؛ فلا تسودوا وجهي".

يا لله! ما أعظمها من كلمة! يا لله! ما أشدها من كلمة! ماذا نقول لرسول الله وهذه أعمالنا تشهد علينا بالتقصير والتفريط في عبادتنا وسلوكنا ومعاملاتنا؟! تخيلوا الموقف العجيب والمنظر الرهيب والرسول -صلى الله عليه وسلم- يدعونا إلى حوضه الشريف لنشرب منه، وإذا بالملائكة تدفع أناسًا وتمنعهم، فيقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يا رب: أصحابي، فيقول: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك" صحيح ابن ماجه.

لا تدري ما أحدثوا بعدك! تركوا الدين وغرتهم الدنيا، وتركوا الطاعات والعبادات وانشغلوا بالشهوات واللذات، وتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ورضوا بالسكوت ومداهنة الباطل إيثارًا للسلامة الزائفة، وقصّروا في واجباتهم الدينية والدنيوية فأصبحوا عالة على أمم الأرض بعد أن كانوا سادة الأمم وأساتذة الحضارة، وتركوا الكثير من أوامر الشرع واستبدلوها باتباع الهوى وطاعة الشيطان واتباع خطواته وتزيينه للباطل والحرام والمنكر في كل شؤون حياتنا.

فقال -صلى الله عليه وسلم-: "أيها الناس: إن الشيطان قد يئس أن يعبد في أرضكم هذه أبدًا، ولكنه إن يُطع فيما سوى ذلك، فقد رضي به مما تحقرون من أعمالكم، فاحذروه على دينكم"، والله -تعالى- يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ) [النور:21].

عباد الله: إنه ينبغي لمن أراد الحياة الطيبة والسعادة في الآخرة أن يأخذ هذه التوجيهات النبوية قولاً وعملاً وسلوكًا؛ لتستقيم الحياة، وتصلح الأحوال، ويعم الأمن، وتسود الألفة، وتنتشر المحبة بين أفراد المجتمع؛ ولنتُب إلى الله من الذنوب والمعاصي، والتقصير في الواجبات؛ ولنستغل ما تبقى من أيام العشر من ذي الحجة في الأعمال الصالحة من صلاة وصيام وصدقة ودعاء وقراءة قرآن، وإصلاح ذات البين، وصلة الأرحام، والعفو، والتسامح، وبر الوالدين، وغيرها من الأعمال، فقد روى أبو داود وغيره، وصححه الألباني، قال -صلى الله عليه وسلم-: "ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام، يعني أيام العشر"، قالوا: يا رسول الله: ولا الجهاد في سبيل الله؟! قال: "ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء".

وأذكّر نفسي وإياكم بصيام يوم عرفة، هذا اليوم العظيم الذي تكفَّل الله لمن صامه أن يغفر به ذنوب سنتين من عمره: سنة ماضية وسنة مقبلة.

ولنتعاون جميعًا في إدخال الفرح والسرور على الأهل والجيران والفقراء والأيتام في هذا العيد، ومَن ضَحَّى فلا ينسَ جيرانه وأقاربه، ومن لم يضحِّ فليس عليه شيء، فالأضحية سُنَّةٌ وليست بواجبة.

ولنكثر من الدعاء لأنفسنا وأهلينا وبلادنا، ولحجاج بيت الله بالتوفيق والقبول، وأن يردهم الله إلى أوطانهم غانمين سالمين.

اللهم حكّم فينا كتابك وسنة نبيك، واجعلنا من عبادك الصالحين، واحفظنا واحفظ بلادنا من كل سوء ومكروه، وجنِّبْنا الفتن، ما ظهر منها وما بطن، وألِّفْ بين قلوبنا، وأَصْلِحْ فساد ذات بيننا، واجعلنا من الراشدين.

هذا؛ وصلِّ اللهمَّ وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين، والحمد لله رب العالمين.
 


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي