فالأعمال الصالحة في هذه الأيام لا يعدلها في الأجر والمثوبة عند الله أعمالٌ في أيام أُخَرَ على الإطلاق، ففي الحديث: "ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام"، يعني أيام العشر، قالوا: يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: "ولا الجهاد في سبيل الله، إلَّا رجلٌ خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء" رواه أبو داود وغيره.
الحمدُ لله فاطرِ الأرض والسماوات، عالم الأسرار والخفيات، المطلع على الضمائر والنيات، أحاط بكل شيء علماً، ووسع كل شيء رحمة وحلماً، وقهر كل مخلوق عزة وحكماً، يعلم ما بين أيديهم وما خلفَهم ولا يحيطون به علماً.
لا تدركه الأبصار، ولا تغيره الدهور والأعصار، ولا تتوهّمه الظنون والأفكار، وكل شيء عنده بمقدار، أتقن كلَّ ما صنعه وأحكمه، وأحصى كلَّ شيء وقدّره، وخلق الإنسان وعلّمه.
يا أيُّها الإنسـانُ مَهْـلَاً ما الَّـذِي *** بالله جَـلَّ جـلالُـهُ أغْـرَاكَـا؟
فاسجـُدْ لِمَـوْلَاكَ القديـرِ فإنَّمَـا *** لا بُـدَّ يومـاً تنتـهـي دنيـاكـا
وتكون في يـوم القيامـة ماثـلاً *** تُجزَى بمـا قـد قدَّمَتْـهُ يداكـا
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةَ من عرف الحق والتزمه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أفضل من صدع بالحق وأسمعه، اللهم صل على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه وسائر من نصره وكرمه. وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعــــد: عبـاد الله: ما أعظم حِلم الله على العباد! وما أعظم رحمته بهم مع جرأتهم على معصيته ومخالفة أمره وعدم شكر نعمه! ولو عاملهم بما كسبوا لَهَلَكَ كُلُّ مَن على هذه الأرض من إنسٍ وجانٍّ وحيوان؛ لِعِظَم وفداحة المعصية، قال -تعالى-: (وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا) [فاطر:45]، وقال -تعالى-: (وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ) [النحل:61].
ولكن الله -عز وجل- رحيم بعباده، لا يعاجلهم بالعقوبة؛ بل يمهلهم ويترك لهم الفرصة تلو الأخرى ليتوبوا إليه، ويعودوا إلى طاعته والتزام شرعه.
بل الأعظم من ذلك أنْ جعل لهم اللهُ مِن المحطَّاتِ الإيمانية، ومن الأعمال والطاعات والقربات ما يرفع الله به درجاتهم، ويغفر ذنوبهم، وتزكو نفوسهم؛ فالإنسان مطالَبٌ بتربية نفسه وتزكيتها لتستقيم على الحقِّ حتى تلقى ربها الذي خلقها.
ومن هذه المحطات الإيمانية والنفحات الربانية العشر من ذي الحجة، لما لها وللأعمال الصالحة فيها من بركة وأجر ومثوبة عند الله، والتي ينبغي للمسلم أن يستثمرها في بناء نفسه، قال -تعالى-: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) [الشمس:9-10].
والنفس تحتاج إلى تزكية في جانب الإيمان والعقيدة، وفي جانب العبادات والطاعات، وفي جانب الأخلاق ومعاملة الخلق.
فالعقيدة السليمة، والعبادة الصحيحة، والمعاملة الحسنة، من أعظم ركائز بناء النفس المسلمة السوية؛ وفي العشر من ذي الحجة، بما فيها من فضائل وعبادات وأحداث وتوجيهات ربانية يجد المسلم بغيته من الزاد الإيماني والروحي الذي يؤهله للقيام بذلك.
أيهـا المؤمنون عبــــاد الله: لقد حرص الإسلام في جميع أحكامه وتشريعاته إلى بناء الإنسان عقيدة وسلوكاً وجسداً وروحاً، وإعداده للحياة ليعمرها بالخير والصلاح. والمحطات الإيمانية وسيلة من وسائل تربية الإنسان، وصقل شخصيته، ففي العشر من ذي الحجة، وبالذات يوم عرفه، أخذ الله الميثاق من بني آدم على توحيده، وتعظيمه، وطاعته؛ فعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله أخذ الميثاق من ظهر آدم بِنَعْمان-يعني عرفة- وأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها، فنثرهم بين يديه كالذّرّ، ثم كلمهم قِبَلا، قال: (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ) [الأعراف:172-173]" رواه أحمد وصححه الألباني.
فما أعظمه من يوم! وما أعظمه من ميثاق! ومن هنا ينبغي للمسلم أن يجدد إيمانه، وأن يحافظ على عهد الله وميثاقه، فلا يعبد إلا الله، ولا يدعو إلا إياه، ولا يتوكل إلا عليه، وأن يعمل على رضا ربه بأقواله وأعماله؛ بل حتى بنيّته ومقصده، قال -تعالى-: (إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ) [المائدة:72].
ولذلك؛ وقف عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أيام الحج أمام الحجر الأسود قائلاً: "والله إني لَأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع! ولولا أني رأيت رسول الله يقبلك ما قبلتك".
والإيمان يغرس في النفوس الراحة والطمأنينة، والشجاعة وقول كلمة الحق، وبذل المعروف والأمر به والنهي عن المنكر؛ ابتغاء رضوان الله، والطمع في جنته، والخوف من ناره.
واليوم؛ عندما ضعف الإيمان فسدت القلوب، وكثرت الذنوب، وظهر الشرك بالله، والظلم، والجشع، وتعدَّى الإنسانُ على أخيه الإنسان، وأصبح المرء لا ينظر إلا إلى مصلحته دون غيره، وأصبحت الغاية تبرر الوسيلة، والتعامل المادي بين البشر شعار الوقت ودستور الزمان، وأصبح الناس في غفلةٍ لن يدركوا خطرها حتى يداهمهم الموت، وعندها لا ينفع الندم؛ قال -تعالى-: (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ * مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ ) [الأنبياء:1-2].
فجدِّدوا إيمانكم، وتعاهدوا، وادعوا كُلَّ يومٍ صباحاً ومساء بما علمنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن نقوله: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أُشْرِكَ بِكَ وَأَنَا أَعْلَمُ، وَأَسْتَغْفِرُكَ لِمَا لا أَعْلَمُ" رواه البخاري في الأدب المفرد، وصححه الألباني في صحيح الأدب المفرد.
عبــــاد الله: وفي العشر من ذي الحجة يجد المسلم أنواعاً من العبادات والطاعات والقربات لها كبيرٌ من فضل وأجرٍ عند الله، فيؤدي ما فرضه الله عليه، ويتزود من النوافل بما يرفع درجته، ويهذب نفسه.
فالأعمال الصالحة في هذه الأيام لا يعدلها في الأجر والمثوبة عند الله أعمالٌ في أيام أُخَرَ على الإطلاق، ففي الحديث: "ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام"، يعني أيام العشر، قالوا: يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: "ولا الجهاد في سبيل الله، إلَّا رجلٌ خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء" رواه أبو داود وغيره.
قال ابن حجر -رحمه الله- في فتح الباري: "وفي الحديث تعظيم قدر الجهاد، وتفاوت درجاته، وأن الغاية القصوى فيه بذل النفس لله، وفيه تفضيل بعض الأزمنة على بعض، كالأمكنة، وفضل أيام عشر ذي الحجة على غيرها من أيام السنة".
وعن ابن عباس أنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما من أيام العمل فيهن أفضل من عشر ذي الحجة". قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: "ولا الجهاد في سبيل الله، إلا من عقر جواده وأهريق دمه" صححه الألباني.
فأين المشمرون لطاعة ربهم وجنته؟ وأين المتنافسون على الأعمال الصالحة في زمن تنافس فيه كثير من الناس على المعاصي والسيئات وغرتهم الحياة الدنيا؛ فساءت أحوالهم، وتكدر عيشهم، وكثرت مشاكلهم، وذهبت البركة من حياتهم؟ قال -تعالى-: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِين َ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا) [نوح:10-12].
وفي هذه العشر من ذي الحجة الكثير من العبادات، كالمحافظة على الصلاة جماعة، والصيام، والذكر، وقراءة القرآن، والصدقة، والدعاء، والحج إلى بيت الله العتيق، ففي صحيح مسلم عن عائشة -رضي الله عنها- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدا من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة فيقول: ما أراد هؤلاء؟".
وعن ابن عمر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الله -تعالى- يباهي ملائكته عشية عرفة بأهل عرفة، فيقول: انظروا إلى عبادي! أتوني شُعْثَاً غُبْرَاً" رواه أحمد وصححه الألباني.
وعند مسلم، قال صلى الله عليه وسلم-: "صيام عرفة يكفر سنتين"، وفي رواية عند ابن أبي شيبة في مصنفه: "سنة ماضية وسنة مقبلة".
إن النفوس التي تتربى على الطاعة وتجتهد في العبادة لا تضرها فتنة، ولا تستهويها شهوة، ولا تفزعها مصيبة؛ لأنها نفوس متصلة بالله الذي بيده الأمر كله.
اللهم زكِّ نفوسنا أنت خيرُ مَن زكَّاها، أنت وليُّها ومولاها.
قلت ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.
الخطـبة الثانية:
عبـاد الله: وفي العشر من ذي الحجة يتعلم المسلم من خلال التوجيهات الربانية الكثير من القيم والأخلاق ليتعامل معاملة حسنة مع مَن حوله؛ فيرحم الصغير، ويوقر الكبير، ويساعد المحتاج، ويبر والديه، ويصل رحمه، ويعفو عن مَن ظلمه وأساء إليه؛ يبتغي بذلك وجه الله، فيحبه الله، ويحبه الناس، ويكتب له القبول في الأرض.
وإذا نظر المسلم إلى فريضة الحج استشعر نعمة الإسلام وعظمة الدين، وإذا نظر إلى حجاج بيت الله في صعيد واحد ولباس واحد تذكر أن هذا الدين دين العدل والمساواة، فلا فضل لعربي على عجمي، ولا لأبيض على أسود، ولا لغني على فقير، إلا بالتقوى، وعلمها عند الله، فيدرك هذا المرء حتى لا تطغى نفسه، وتسوء أخلاقه، ويتبع هواه، ويرد الشرع، ولا يلتزم بالحق، فيخسر دينه ودنياه وآخرته.
فبعض الناس يتصور أن الرجوع إلى الحق ضعف، وأن العودة عن قوله أو فعله الخاطئ اهتزاز في شخصيته، ويأتي الشيطان لينفخ فيه فيقول له: إذا تراجعتَ فأنت ضعيف شخصية، بينما الحقيقة بخلاف ذلك.
كان جبلة بن الأيهم ملكاً من ملوك غسان، دخل إلى قلبه الإيمان، فأسلم، ثم كتب إلى الخليفة عمر -رضي الله عنه- يستأذنه في القدوم عليه، سُرَّ عمرُ والمسلمون لذلك سروراً عظيماً، وكتب إليه عمر: أن أقدم إلينا، ولك ما لنا وعليك ما علينا.
فأقبَل جبلة في خمسمائة فارس من قومه، فلما دنا من المدينة لبس ثياباً منسوجة بالذهب، ووضع على رأسه تاجاً مرصعاً بالجواهر، وألبس جنوده ثياباً فاخرة، ثم دخل المدينة، فلم يبق أحد إلا خرج ينظر إليه، حتى النساء والصبيان. فلما دخل على عمر رحَّب به، وأدنى مجلسه.
فلما دخل موسم الحج حج عمر وخرج معه جبلة، فبينا هو يطوف بالبيت إذ وطئ على إزاره رجل فقير من بني فزارة، فالتفت إليه جبلة مغضباً فلطمه فهشم أنفه، فغضب الفزاري، واشتكاه إلى عمر بن الخطاب، فبعث إليه فقال: ما دعاك يا جبلة إلى أن لطمت أخاك في الطواف فهشمت أنفه؟! فقال: إنه وطئ إزاري؛ ولولا حرمة البيت لضربت عنقه. فقال له عمر: أما الآن فقد أقررتَ، فإما أن ترضيه، وإلَّا؛ اقتَصَّ منك ولطمك على وجهك. قال: يقتصُّ مني وأنا ملك وهو سوقة؟! قال عمر: يا جبلة، إن الإسلام قد ساوى بينك وبينه، فما تفضله بشيء إلا بالتقوى. قال جبلة: إذن؛ أتنصَّر. قال عمر: من بدَّلَ دينه فاقتلوه؛ فإن تنصَّرْتَ ضربتُ عنُقُكَ. فقال: أخِّرْنِي إلى غدٍ يا أمير المؤمنين. قال: لك ذلك.
فلما كان الليل خرج جبلةُ وأصحابُه من مكة وسار إلى القسطنطينية فتنصّر، فلما مضى عليه زمانٌ هناك ذهبت اللذات، وبقيت الحسرات، فتذكر أيام إسلامه، ولذة صلاته وصيامه، فندم على ترك الدين، والشرك برب العالمين، فجعل يبكي ويقول:
تنصَّرتِ الأشرافُ مِن عارِ لَطْمَةٍ *** وما كان فيها لو صَبَرْتُ لها ضَرَرْ
تكنَّفَنِي منها لجاجٌ ونخوةٌ *** وبِعْتُ لها العينَ الصحيحةَ بالعَوَرْ
فيا ليت أمِّي لم تلِدْني وليتني *** رجعتُ إلى القول الذي قالَ لي عُمَرْ
ويا ليتني أرعَى المخاضَ بقَفْرَةٍ *** وكنتُ أسيراً في ربيعةَ أو مُضَرْ
ويا ليتَ لي بالشام أدنى معيشةٍ *** أجالسُ قومي ذاهبَ السمعِ والبَصَرْ
ثم ما زال على نصرانيته حتى مات، نعم، مات على الكفر؛ لأنه تكبر عن قبول الحق، والإذعان لشرع رب العالمين!.
عبـــاد الله: لنستغل هذه الأيام من العشر من ذي الحجة في طاعة الله بما شرع من الأعمال الصالحة؛ لعل الله أن يغفر ذنوبنا، ويستر عيوبنا، ويرفع درجتنا، ويدفع عنا الفتن، ما ظهر منها وما بطن، ويصلح ما فسد من أحوالنا، إنه على كل شيء قدير، وبعباده رؤوفٌ رحيم.
هذا؛ وصلى الله وسلَّمَ على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين، والحمد لله رب العالمين.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي