هل التفتَّ إلى نفسك أيها المذنب، وتفكَّرْتَ في خطايا لو عوقبْتَ ببعضها لهلكت سريعاً، ولو كُشف للناس بعضها لا ستحييت من قبحها وشناعتها؟ أمَا لو كانت للذنوب روائح لما جلس أحد منا في هذا المسجد، فأفٍ ثم أفٍ لنفس مريضة انسلخ عنها شهر رمضان وما انسلخت ..
الحمد لله معيد الخيرات، ومنزل البركات، ومضاعف الحسنات، ومكفر السيئات، أحمده سبحانه وأشكره، وأستعينه وأستهديه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، كتب للمؤمنين الرحمة والمغفرة بصيام شهر رمضان وقيامه.
وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله الهادي إلى رضوانه، -صلى الله عليه وسلم- وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى قيام الساعة.
أما بعد: أيها الناس، فاتقوا الله تعالى، فإن تقواه مفتاحُ كل مُغلق، ونجاةٌ من كل هلكة، وتفريج من كل كربة، وأنسٌ من كل وحشة.
[إن الأيام تمر مر السحاب، عشية تمضى وتأتي بُكرة، وحساب يأتي على مثقال الذرة، وإن في كرِّ الليالي والأيام لعبرة، وإن الناس منذ خلقوا لم يزالوا مسافرين، وليس لهم حطٌّ عن رحالهم إلا في الجنة أو النار].
عباد الله: قريباً جداً نودع شهر رمضان بما أودعنا فيه، والزمن يجري بسرعة مدهشة، حتى إن الناس ليتساءلون على مختلف أعمارهم؛ الشاب والكهل والشيخ، عن أيام عاشوها وليالٍ قضوها وأمضوها وكأنها تُنهب من بين أيديهم نهباً! (قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ) [المؤمنون:112-113].
وصدق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حيث قال: "اغتنم خمساً قبل خمس: حياتك قبل موتك، وصحتك قبل سقمك، وفراغك قبل شغلك، وشبابك قبل هرمك، وغناك قبل فقرك" أخرجه البيهقي والحاكم.
إن هذا الحديث المنبعث من مشكاة النبوة يمثل حياة الإنسان بأنها حبلٌ ممدود لا يدري متى ينقطع؛ ولأجل ذا كان لزاماً على المؤمن ألا يلتفت إلى الماضي لينفجع عليه فيقنط، أو يحزن عليه فيكسل، ولا يتلهف إلى المستقبل يريد أن يعرفه قبل أوانه، ومن كانت هذه حاله فهو سلطان ولو عاش في زي المملوكين، فهو -إذاً- ليس بينه وبين عظماء الدنيا إلا يوم واحد؛ لأن الأمس لا يجدون لذته، وهو لا يجد شدته، وأما الغد فإنه وإياهم منه على خطر، فسهام الموت مصوّبة نحوه ونحوهم، ولن تخطئهم، فلم يبق إلا اليوم، فما عسى أن يكون؟!.
إنه لعجبٌ غاية العجب؛ لأن ما مضى فات، والمؤمل غيب، فما لك إلا الساعة التي أنت فيها!.
وهذه الحال يعيها الناس تماماً يوم القيامة، قال -تعالى- مبيناً حال المجرمين المفرطين وهم يترجمون هذه المعاني: (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ) [الروم:55]، وقال -سبحانه-: (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ) [يونس:45]، وقال -جل شأنه-:( كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا) [النازعات:46].
معاشر الصائمين: إن هذه الأيام القلائل الباقية فرصةٌ لذوي البصائر أن يفعلوا الخير، ويتوبوا توبة نصوحاً، وفيه ساعة لا يوافقها عبدٌ مؤمن يسأل ربه إلا أعطاه؛ فالتمسوها واغتنموها، فلعلها لا تعود لك أيها الإنسان.
إن في الزمان لعبرة، وفي التاريخ عظة، وإن تتبع آيات الله، وتدبر أحوال الأمم كيف تقوم وتنهض وتتطاول عزاً يصل الثريا، ثم تجري في جسدها عوامل الانهيار والانحدار حتى تهوي كجلمود صخر حطه السيل من عل.
إن التطواف في ذلكم والتأمل يعود بثروة لا تقدر من العبر والعظات تزيد العبد معرفة بربه، ويقيناً بقدرته وعظمته -سبحانه-.
إن من يعش يكبر، ومن يكبر يمت، والمنايا لا تبالي ما أتت، وكل اجتماع إلى افتراق، والدهر فتح وإغلاق، وكم من أمة سوف يكون غيرها، وسوف يفنى شرها وخيرها، ويقف الجميع أمام الله -تعالى- لا تخفى منهم خافية، وسيعرضون على ميزان يزن مثاقيل الذر، فاتق الله أيها الظالم، وارفع الظلم عمن ظلمت قبل أن لا ينفع دينار ولا درهم، واجعل من هذه الأيام العظيمة أيام تحوّل وأوبة وتوبة، قبل أن يدركك الأجل.
اتق الله أيها الغاش، وأنت أيها المخادع، وأنت أيها السارق قبل الفضيحة والندم.
يا مَن همّه أذية المسلمين، وتتبع عوراتهم، وملاحقة أعراضهم هذه الأيام، تهتف بك فلعلك تجيب قبل أن تفلت الفرصة من بين يديك، وتقف أما خالقك بأسوأ فعل، وأقبح عمل.
أيها المماطل العمال حقوقهم، أي قلب بين جنبيك يرضى أن يتردد العامل مرات ومرات إلى بيتك في شدة الحر أو شدة البرد يطلب أجرة عمله، وفي كل مرة تعتذر وتسوّف وتعد، ألا تخشى على نفسك من دعوته؟.
أيها العامل أو الموظف الغاش، كيف ترضى أن تقبض أجرتك موفورة وأنت تعلم أنك لم تؤد عملك على الوجه المطلوب؟ ألا تخشى من محق بركة مالك الذي تكتسب، أو لعل قلة البركة فيه الذي تتضايق وتتبرم منها دائماً سببها عدم النصح في الأداء، ألا تخاف أن يسلط الله عليك جائحة تأتي على كل ما حصلت؟ حاسب نفسك، وتب إلى ربك.
عباد الله: إن شهر رمضان قد أوشك تمامه، وإسدال ستاره قاب قوسين أو أدنى، بعد أن ظل المسلمون أيامَه ينالون من نفحات ربهم، فما أسرع ما انقضت الأيام! فقد تلاشت الذكريات وكأنها أوراق الخريف عصفت بها ريح القدر.
فيا أيها المذنب، بَدِّل اهتمامك لك باهتمامك بك، واسرق منك لك، فالعمر قليل، تظلَّم إلى ربك منك، واستنصر خالقك عليك، أترومُ حصاداً في هذا الشهر المبارك، وأنت لم تبذر بعد؟ (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى) [النازعات:40-41].
هل التفتَّ إلى نفسك أيها المذنب، وتفكَّرْتَ في خطايا لو عوقبْتَ ببعضها لهلكت سريعاً، ولو كُشف للناس بعضها لا ستحييت من قبحها وشناعتها؟ أمَا لو كانت للذنوب روائح لما جلس أحد منا في هذا المسجد، فأفٍ ثم أفٍ لنفس مريضة انسلخ عنها شهر رمضان وما انسلخت عن قبيح عاداتها!.
ألا وإن قلة التوفيق من قلة الاعتراف بالذنب، ورحم الله ابن سيرين، فقد حُمل ديناً فسئل فقال: إني لأعرف الذنب حُمل علي به الدين ما هو؛ قلت لرجل منذ أربعين سنة: يا مفلس!.
سبحان الله! قلّت ذنوبهم فعرفوا من أين يؤتون، وكثرت ذنوبنا فليس ندري من أين نؤتى، والجزاء من جنس العمل.
أولئك قوم جعلوا رضاء الله فوق أهوائهم فأذعنوا لكل صغيرة وكبيرة، وسلموا تسليماً، وأحبوا لقاء الله تعالى.
فيا مؤخراً توبته بمطل التسويف، لأي يوم أجلت توبتك؟.
كنت تقول: إذا شبت تبت، أو تقول: إذا دخل رمضان تبت وأنبت، فهذه أيام رمضان عناقد انقضت، كنت في كل يوم منه تضع قاعدة الإنابة لنفسك ولكن على شفا جرف هار، ويحك!.
تعطَّر بالتوبة والاستغفار فقد أزكمتك روائح ذنوبك، ولا تقنع في توبتك إلا بمكابدة حزن يعقوب، أو بصبر يوسف عن الهوى، فإن لم تُطق فبذلِّ إخوته يوم أن قالوا: (إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ) [يوسف:97].
ثم اعلم أن التائب من الذنب إذا صدق في توبته أحبه الله وأحياه، قال -سبحانه-: (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [الأنعام:122].
ألا إن مَن خاف الله أخاف الله عنه كل شيء، ومن خاف الناس أخافه الله من كل شيء.
وهكذا -أيها المسلمون- تنطوي صحيفة رمضان، وتُقوَّض سوقٌ كانت عامرة بالخيرات والحسنات، ربح فيها من ربح، وخسر فيها من خسر، وحُرم من حرم، على تفاوت كبير في درجات الربح أو الخسران أو الحرمان.
بارك الله لنا في القرآن الكريم، وبهدي وسنة سيد المرسلين...
الحمد لله الذي منَّ علينا بصيام شهر رمضان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- وعلى آله وأصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليماً.
وسلام الله على شهر القدر والنور والسلام، لقد كان -ولا زال- نوراً للمتقين، وحدائق للذاكرين، وروضة للعابدين، وحلبة سباق للأبرار والمحسنين.
أما بعد: أيها المسلمون، تذكر وأنتم تودعون سيد الشهور وأعظم الليالي وأفضل الأوقات والمناسبات، أن أمامكم عند الموت وفي القبر ويوم القيامة وعند تطاير الصحف في المحشر وعند الميزان يوم الحساب وعلى الصراط بين الجنة والنار تذكروا أن من الأهوال ما يشيب له الوليد، وأنكم لا محالة شاهدوا ذلك وحاضروه.
ألا وإن لربكم نفحات من رحمته يصيب بها من يشاء من عباده، فمن أصابته سَعِدَ سعادة لا يشقى بعدها أبداً.
ينظر الله إلى عباده بعين الرضى والعطف والرحمة فيغفر لهم جميعاً إلا المصرين على كبائر الذنوب، فإنهم يؤخرون إلى أن يتوبوا منها.
والله -سبحانه- يحب الخير للعبد أكثر مما يحب العبد الخير لنفسه، وأرحمُ بعبده الصالح من الوالدة الرؤوم بولدها.
ففي آخر ليلة ويومٍ من رمضان يجود الله على الصائمين أكثر مما جاد عليهم في أول الشهر، فقد ورد في السنة أن الله تعالى يعتق في آخر هذا الشهر من النار بفضله مثل ما اعتق في ليالي الشهر كله.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي