سلفنا الصالح رحمهم الله استخدموا الحوار في الدعوة إلى الله -تعالى-، خاصة في دعوة أصحاب البدع والفرق المخرفة، وفي دفع الشبه التي تُلقى في المجتمعات الإسلامية، إدراكاً منهم أن تلك إنما نشأت من شُبَهٍ وفهمٍ مخلوطٍ للنصوص الشرعية، وخير وسيلة للعلاج هي ..
أما بعد: فإن الدعوة إلى الله -تعالى- هي عمل الأنبياء، ووظيفتهم، وهمهم ومهمتهم -عليهم الصلاة والسلام-، وتتعدد أساليبهم فيها، وتأخذ مظاهر مختلفة حسب الحال والمكان والزمان وطبيعةِ المخاطبين.
ومن أساليب الدعوة: القدوةُ الحسنة، وإبرازُ وعرض محاسن الإسلام بأي طريقة مشروعة، ومنها السمتُ الحسن، والالتزام بالسنة، وممارسة التكاليف الشرعية بعفوية وإقبال نفسٍ وقناعة وثقة.
ومنها الحوار، وهو من أمضى الأساليب وأنجعها، وبه يمكن تحقيق مكاسب عظيمةٍ؛ لاعتماده على القناعات الداخلية الذاتية.
والقرآن الكريم والسنة المطهرة زاخران بالحوارات التي جرت بين الأنبياء وأقوامهم؛ حاور نوحٌ قومه طويلاً، وكذا إبراهيم ولوط وشعيب وهود وصالح وموسى وعيسى، واستخدمه خاتمهم محمد -صلى الله عليه وسلم- في دعوته للناس، مشركين ويهود ونصارى ومنافقين.
بل في تعليمه وإرشاده لأصحابه كان يسلك مسلك الحوار، ترسيخاً لمفاهيم الشرع، ونزعاً لما قد يعلق في نفوسهم من تصورات لا تتوافق وروحُ الإسلام.
ومن ذلك ما علق في نفوس الأنصار رضي الله عنهم بعد غزوة حنين التي تلت فتح مكة، حين قسّم النبي -صلى الله عليه وسلم- الغنائم على مَن أسلموا بعد الفتح تأليفاً لقلوبهم، ولم يعط الأنصار شيئاً، فوجدوا في نفوسهم.
روى البخاري في صحيحه عن عبد الله بن زيد بن عاصم قال: لما أفاء الله على رسوله -صلى الله عليه وسلم- يوم حنين، قَسَم في الناس في المؤلفة قلوبهم، ولم يعط الأنصار شيئاً، فكأنهم وجدوا إذ لم يصبهم ما أصاب الناس.
فخطبهم، فقال: "يا معشر الأنصار، ألم أجدكم ضُلّالاً فهداكم الله بي؟ وكنتم متفرقين فألفكم الله بي؟ وعالةً فأغناكم الله بي؟" كلما قال شيئاً قالوا: الله ورسوله أمَنّ.
قال: "ما يمنعكم أن تجيبوا رسول الله؟ لو شئتم قلتم -وفي غير البخاري- أما والله لو شئتم لقلتم ولصدقتم: أتيتَنا مُكَذّباً فصدقناك، ومخذولاً فنصرناك، وطريداً فآويناك، وعائلاً فواسيناك".
ثم قال -صلى الله عليه وسلم، كما في البخاري-: "ألا ترضون أن يذهب الناس بالشاة والبعير، وتذهبون بالنبي إلى رحالكم؟ لولا الهجرة لكنت امرءاً من الأنصار، ولو سلك الناس وادياً وشعباً لسلكت وادي الأنصار وشِعبها، الأنصار شعار، والناس دثار، إنكم ستلقون بعدي أثرة، فاصبروا حتى تلقوني على الحوض".
بهذا الحوار الهادئ اللطيف الساخن الذي لامس القلوب، وركز على الجانب العاطفي وذِكر مآثرهم -رضي الله عنهم- استطاع النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يعالج مشكلة كبيرة لها أثرها وتداعياتها في المجتمع المسلم وتماسِكهِ، مما يؤكد جدوى الحوار وثمرتَه ونفعَه.
واستعمل النبي -صلى الله عليه وسلم- الحوار أيضاَ في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقد جاء شاب إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال:يا رسول الله، إئذن لي في الزنا. فأقبل عليه الناس يزجرونه، فأدناه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مجلسه، ثم قال له: "أتُحبه لأمك؟" قال:لا، جعلني الله فداك، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ولا الناس يحبونه لأمهاتهم"، قال: "أفتحبه لابنتك؟". قال: لا، قال: "ولا الناس يحبونه لبناتهم".
ولم يزل النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول للفتى: "أتحبه لأختك؟ أتحبه لعمتك؟ أتحبه لخالتك؟"،كل ذلك والفتى يقول:لا، جعلني الله فداك.
فوضع النبي -صلى الله عليه وسلم- يده عليه، وقال: "اللهم اغفر ذنبه، وطهِّر قلبه، وحصن فرجه"، فلم يكن بعد ذلك يلتفت إلى شيء. رواه الإمام أحمد في مسنده.
فانظروا -رحمكم الله- كيف تم صرف ذلك الشاب عن الوقوع في الحرام وقد بلغت به الشهوة الجنسية مبلغها، حتى همّ بتفريغها في الزنا، لولا أن ألم المعصية، ووحشة الخطيئة، ساقَتَاه إلى استئذان النبي -صلى الله عليه وسلم- في ذلك ظناً منه أنه سينال مطلوبه، وحين حاوره النبي -صلى الله عليه وسلم- في شناعة الزنا وعاره اقتنع الشاب أن هذا الطريق لا يصلح أبداً لقضاء الوطر، مما يعني أهمية فتح الحوار مع الشباب والأولاد، وأنه الأسلوب الأمثل لدعوتهم لمكارم وفضائل الأخلاق، وصرفهم عن سيئها. اللهم...
الحمد لله يوفق من شاء من عباده لطاعته، ويهدي من يشاء لسلوك طريق هدايته، يشرح صدور الراغبين في التزام السنة، الخائفين من لقاء ربهم إلى مرضاته وجنته، ويصرف عن الحق مَن لا يؤمن به ولا يسعى إليه، فله -سبحانه- الحكمة البالغة، وهو الحكيم العليم...
معشر المؤمنين: سلفنا الصالح رحمهم الله استخدموا الحوار في الدعوة إلى الله -تعالى-، خاصة في دعوة أصحاب البدع والفرق المخرفة، وفي دفع الشبه التي تُلقى في المجتمعات الإسلامية، إدراكاً منهم أن تلك إنما نشأت من شُبَهٍ وفهمٍ مخلوطٍ للنصوص الشرعية، وخير وسيلة للعلاج هي محاورة أصحابها ومن تأثر بها.
أيها المؤمنون: ثمة آدابٌ للحوار يتعين الأخذ بها والتخلق فيها ليؤتي الحوار ثماره، أبرزها: إخلاص النية لله -تعالى-؛ لأن الإخلاص قوة دافعة إلى القول الصريح... المطلق الذي لا يقيده خوف رقابة الناس، والحوار الذي يخلو من الإخلاص يدفع المتحاورين للرياء وحب الظهور على الخصم أو الانتصار للنفس، وحينذاك ينحرف مسار الحوار عن هدفه النبيل، وتسوء النتيجة.
ومن آداب الحوارِ توفُّرُ العلم في المحاور، فمن ليس عنده علم بموضوع المحاورة فلا يحسن الدخول به، لأن فاقد الشيء لا يعطيه، وقد ذم الله -تعالى- من فعل ذلك في قوله سبحانه: (هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) [آل عمران:66]. قال القرطبي -رحمه الله-:" في الآية دليل على المنع من الجدال لمن لا علم له، والحظرِ على من لا تحقيق عنده". اهـ
ومن آداب الحوار صدق المحاور؛ لأن الكذب يفقد طرفي المحاورة أمانتهم، وتتسلل الشكوك إلى نفوسهم، فيضعف تأثيره، وإقناعه.
وعلى المحاور أن يلتزم بالحلم والصبر، سواء كان صبراً على الحوار ومواصلته، أو صبرا على الخصم سيء الخلق إن سخر واستهزأ وتلفظ بألفاظ لا تليق، أو صبر على شهوة النفس في الانتصار على الخصم.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي