ليلة القدر يفرق فيها كل أمر حكيم؛ يعني يفصل من اللوح المكتوب إلى الكتبة ما هو كائن من أمر الله -سبحانه- في تلك السنة من الأرزاق والآجال والخير والشر وكل ما سيحدث من أوامر الله المحكمة المتقنة ليس فيها خلل ولا نقص ولا سفه، ولا باطل، لأن معنى ..
الحمد لله المتفرد بالجلال والبقاء، والعظمة والكبرياء، والعز الذي لا يرام، الواحد الأحد، الرب الصمد، غفر وعفى، وستر وكفى.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، عز من اعتز به، وذل من تكبر عن طاعته، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، قام بعبادة ربه وتزود، واختاره الله على البشر واصطفاه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين.
أما بعد: للعشر الأواخر من رمضان مزية على غيرها، ومزيد فضلٍ على سائر الليالي قبلها، وصفت أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- نبينا محمداً -صلى الله عليه وسلم- بأربع صفات في قولها: "كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيره" رواه مسلم.
وفي الصحيحين عنها، قالت: "كان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا دخل العشر شد مئزره، وأحيا ليله، وأيقظ أهله".
وفي المسند عنها قالت: "كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يخلط العشرين بصلاة ونوم، فإذا كان العشر شمر وشد المئزر".
ومعنى: أحيا ليله: سهره، فأحياه بالطاعة تعبداً لله رب العالمين، ليس وحده -صلى الله عليه وسلم-، بل كان يوقظ زوجاته الطاهرات أمهات المؤمنين ليشاركنه اغتنام الخير والذكر والعبادة في هذه الأوقات المباركة.
وكان -صلى الله عليه وسلم- يجتهد في العبادة زيادة على ما كان يفعله في العشرين ليلةً الأولى من رمضان، حتى إنه كان يطوي فراشه، ويعتزل نساءه، ويعتكف في مسجده، كل ذلك لفضل هذه الأيام ولياليهن، ورغبة في إصابة ليلة القدر، فهي ليلةٌ مباركة، كثيرة الخير، والبركة.
أخي الصائم: اصبر على التكاليف الشرعية، وجاهد نفسك على القيام بها، واحملها على فعل الطاعات، وترك وهجر الهزل واقتراف المعاصي، وخاصة هذه الأيام، فهي فرصة العمر، وغنيمة الدهر لمن وفقه الله تعالى، لعلك تحظى بنفحة من نفحات المولى الكريم سبحانه، تسعد بها في دنياك وأخراك.
إن المؤمن يجتمع له في رمضان جهادان لنفسه: جهاد بالنهار على الصيام، وجهاد بالليل على القيام، فمن جمع لنفسه بينهما، ووفى بحقوقهما، فهو من الصابرين الذين يوفون أجرهم بغير حساب.
إن هذه العشر هي ختام الشهر، والأعمال بخواتيمها، ولعلك -أيها المؤمن- تدرك ليلة القدر وأنت قائم لرب العالمين؛ فيغفر لك ما تقدم من ذنبك.
معشر الصائمين: توبوا إلى الله تعالى، فقد كان نبيكم -صلى الله عليه وسلم- يتوب في اليوم مائة مرة، كما ثبت ذلك عنه في صحيح مسلم.
والمسلم لا يخلو من معصية، أو تقصير في طاعة، فالتوبة كما تكون من فعل السيئات، تكون أيضاً من ترك الحسنات المأمور بها.
وإن التوبة واجبة على الفور، لا يجوز تأخيرها، مهما كانت المعصية؛ لأنك -أيها العبد- لا تدري متى يفجؤك الموت، ولأن السيئة -بطبيعتها- تقسي القلب، وتورث ضعف الإيمان.
ولا تسوِّف، أو تلتمس لنفسك أعذاراً لمخالفات شرعية وقعت فيها، ثم تتكلف البحث عن مخرج شرعي لها، وأنت في حقيقة الأمر تعلم أنك مخطئ، بدليل أنك لو خلوت مع نفسك جاداً، وساءلتها: هل تحب أن تلقى الله تعالى وأنت متلبس بذلك الفعل الذي توهم نفسك أنه صحيح أو مباح؟ لكان الجواب: لا، ولتمنيت أن بينك وبينه أمد ا بعيدا.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ) [آل عمران:30].
اللهم بارك...
الحمد لله، أنشأ الخلائق بقدرته، وأظهر فيهم عجائب حكمته، ودل بآياته على ثبوت وحدانيته. قضى على العاصي بالعقوبة لمخالفته، ثم دعاه إلى التوبة ومنّ عليه بقبول توبته، فأجيبوا داعي الله وسابقوا إلى جنته، يغفر لكم ذنوبكم ويؤتكم كفلين من رحمته.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أرسله الله بشيراً ونذيراً، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على سنته وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: ليلة القدر -عباد الله- ابتدأ فيها نزول القرآن على محمد -صلى الله عليه وسلم-، جعل الله تعالى فيها من القدر والشرف والبركة ما تنبهر منه العقول السليمة المؤمنة، والقلوب المشفقة المخبتة، ولذا قال الله تعالى: (وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ) [القدر:2]، تنويهاً بأن إدراك كنهها ليس بالسهل؛ لما ينطوي عليه من جلائل الأعمال والفضائل، وما يقدر فيها للعباد من الأقدار، وما ينزل فيها من الملائكة بمن فيهم أمين الموحي جبريل -عليهم السلام-، وما يجري فيها من التقدير والتدبير.
معشر الصائمين: ليلة القدر يفرق فيها كل أمر حكيم؛ يعني يفصل من اللوح المكتوب إلى الكتبة ما هو كائن من أمر الله -سبحانه- في تلك السنة من الأرزاق والآجال والخير والشر وكل ما سيحدث من أوامر الله المحكمة المتقنة ليس فيها خلل ولا نقص ولا سفه، ولا باطل، لأن معنى قوله تعالى: (مِنْ كُلِّ أَمْرٍ) [القدر:4]، أي بكل أمر، وكلمة: (كل) تستعمل في معنى الكثرة للأهمية.
ليلة القدر سلام للمؤمنين من كل مخوف؛ لكثرة من يعتق فيها من النار، ويسلم من عذابها. ويظل هذا الفضل حتى يطلع الفجر.
وفي ليلة القدر ما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه". وإيماناً واحتساباً، أي: إيماناً بالله وبما أعده من الثواب للقائمين فيها، واحتساباً للأجر ولطلب الثواب.
قال العلماء: وهذا يحصل للمؤمن القائم فيها مَن علم بها ومن لم يعلم؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يشترط العلم بها في نيل هذا الأجر.
ليلة القدر -أيها الإخوة- أخفى الله -سبحانه- علمها عن العباد رحمة بهم ليكثر عملهم في طلبها في ليالي العشر، صلاةً وذكراً، ودعاءً، وتلاوةَ قرآن، فيزدادوا قربة من الله وثواباً، وأخفاها اختباراً لهم أيضاً ليتبين بذلك من كان جاداً في طلبها، حريصاً عليها، ممن كان كسلاناً متهاوناً؛ فإن مَن حرص على شيءٍ جد في طلبه، وهان عليه التعب في سبيل الوصول إليه، والظفر به.
اللهم وفقنا لطاعتك، وافتح لنا أبواب دعائك، ووفقنا لاغتنام الفرص والأوقات، واعف عنا واغفر لنا وارحمنا، وتقبل منا يا كريم.
وصلوا وسلموا...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي