ومن محاسن هذا الدين التي تُبرز جانب الرحمة والواقعية فيه أحكام السفر، وكيف راعى الشارع الحكيم حاجة المسافر إلى أن يظل المكلف عاملاً بأحكام الشرع، متصلاً بالله، وبمصدر القوة والسعادة، في الوقت الذي هو بحاجة أيضاً إلى التخفيف، نظراً لما يجلبه السفر من مشقة غالبة، والبعد عن الأهل والوطن، وكل هذه مدعاة إلى تشريع يجمع بين هذه المعاني، ويوازن بينها؛ لتغرز مشاعر ..
الحمد لله المحسن العليم، المنعم العظيم، ذي الجود والكرم، البَر الرحيم، شرع الشرائع، وأبدع البدائع، وأجزل الصنائع، وأودع كتابه وشرعه الودائع، من خفيات الأسرار، وكامن الأنوار، رضي الإسلام لنا ديناً، وفرض الاستسلام له إيماناً ويقيناً، فتبارك الله أحسن الخالقين، وهو رب العالمين، وأرحم الراحمين، وخير الغافرين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصَفِيُّهُ ومُجْتَبَاه، وحبيبه وخليله ومصطفاه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: أيها الناس، نظر أصحاب الأفكار البريئة والعقول السليمة في أحكام الإسلام فاعتنقوه، وتأملوا في حِكَمِه الجليلة فأحبوه، وملكت قلوبهم مبادئه الحكيمة فعظموه.
[تأمَّلوا فيما يدعو إليه هذا الدين القويم فوجدوه يدعو إلى مكارم الأخلاق، يدعو إلى الصدق والعفاف والعدل، وحفظ العهود، وأداء الأمانات، والإحسان إلى اليتيم والمسكين، وحسن الجوار، وإكرام الضيف، والتحلي بمكارم الأخلاق، يدعو إلى تحصيل التمتع بلذائذ الحياة في قصد واعتدال، يدعو إلى البر والتقوى، وينهى عن الفحشاء والمنكر، والإثم والعدوان، لا يأمر إلا بما يعود على العالَمِ بالسعادة والفلاح، ولا ينهى إلا عما يجلب الشقاء والمضرة للعباد].
أيها المؤمنون: ومن محاسن هذا الدين التي تُبرز جانب الرحمة والواقعية فيه أحكام السفر، وكيف راعى الشارع الحكيم حاجة المسافر إلى أن يظل المكلف عاملاً بأحكام الشرع، متصلاً بالله، وبمصدر القوة والسعادة، في الوقت الذي هو بحاجة أيضاً إلى التخفيف، نظراً لما يجلبه السفر من مشقة غالبة، والبعد عن الأهل والوطن، وكل هذه مدعاة إلى تشريع يجمع بين هذه المعاني، ويوازن بينها؛ لتغرز مشاعر الإعجاب والحب والتعلق بهذا الدين.
ومن ذلكم -عباد الله- أحكام الطهارة، والأذان، والإقامة، واستقبال القبلة، وجمع الصلوات، وقصرها، والصوم، والمسح على الخفين والجوربين، ونحوها.
ففي باب الطهارة للمسافر -مثلاً- وسع مدة المسح بدلاً من يوم وليلة للمقيم فجعلها ثلاثة أيام بلياليهن للمسافر، وإذا مسح المسلم في سفر ثم أقام أتم مسح مقيم، إن بقي من المدة شيء، وكذا الأمر إذا مسح في إقامة ثم سافر فإنه يتم مسح مسافر.
كما شُرع للمسلم إذا عدم الماء أو تقذر استعماله أن يتيمم لصلاة من صعيد الأرض، وهو كل ما تصاعد على وجه الأرض كالتراب والرمل والحجر، فلا يشترط أن يكون تراباً فقط، كما لا يشترط أن يكون له غبار.
فإنْ تيمَّم المسلم للصلاة ثم وجد الماء بطل تيمُّمُه ولو كان داخلاً في صلاته، كما يقطع التيمم أيضاً كل مبطل للوضوء بالماء، إلا أنه إذا لم يجد الماء إلا بعد فراغه من الصلاة فلا يعيد.
ومما يفتي به أهل العلم في هذا العصر جواز استعمال المرأة لحبوب منع الحيض، إذا تم بعد ذلك استشارة طبيب مختص، فإذا عزمت على حج أو عمرة أو رغبت في إتمام صيام شهر رمضان وكانت تخاف من نزول دم الحيض فلا مانع شرعاً من تناول ما يمنعه بالشرط السابق ذكره.
ومن الآداب التي يتعين مراعاتها للمسافر -عباد الله-، وتتأكد في حقه، حرمة قضاء الحاجة من بول أو غائط في طريق المسلمين أو تحت الجسور التي يعلم أن ظلها قد ينتفع به المسافرون، وكذا يحرم تحت شجرة مثمرة، أو يستظل بها الناس.
معشر المؤمنين: إذا جمع المسافر الصلاتين، فيؤذِّن للأولى، ويقيم لكل فريضة، إلا إذا كان داخل البلد فيكفي أذان البلد، وحينئذ يقيم لكل فريضة إذا كان معذوراً من ترك الجماعة، وإلا فالواجب عليه إذا كان بين المسلمين في بلد، وحضرت الصلاة أن يصلي معهم في مساجدهم.
ومن الأحكام المتعلقة بالسفر أنه لا يلزم المسافر استقبال القبلة في صلاة النفل إذا كان راكباً وفي حالة السير، وإن كان الأفضل له أن يتجه إلى القبلة ابتداء، ثم يتجه حيث كان وجهه.
وأما صلاة الفريضة فيتعين عليه استقبال القبلة، إلا في الحال التي يتعذر فيها ذلك كأن يكون في طائرة مثلاً ولم يجد وسيلة ترشده إلى اتجاه القبلة، لكن عليه أن يجتهد في الأمر، فإذا فعل فصلاته صحيحة، سواء أصاب أم أخطأ، ولا إعادة عليه؛ لأنه اتقى الله ما استطاع.
عباد الله: يكثر الجدل في حد مسافة السفر، كم تكون؟ والجواب على ذلك: إنما يرجع فيه إلى العرف السائد، فما عده العقلاء سفراً، أخذ أحكام السفر، فإن أشكل هل هذا سفر عرفاً أو لا؟ فالاحتياط أن يُتم؛ لأن الأصل هو الإقامة حتى يتحقق السفر.
اللهم فَقِّهْنا في دينك، وحبِّبْ إلينا الإيمان، وزيِّنْه في قلوبنا، وكَرِّهْ وبغِّضْ إلينا الكفر والفسوق والعصيان.
بارك الله لي ولكم في الكتاب والسنة، ونفعنا بما نقول ونسمع. وأستغفر الله لي ولكم...
الحمد لله الواحد الأحد، الفرد الصمد، وأشهد أن لا إله إلا الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد...
أما بعد: يشرع للمسافر الترخص والأخذ بأحكام السفر من حين مفارقته للبيان العامرة، وليتنبه المسلم إلى أن الله تعالى يجب أن تؤتى رخصه، كما يجب -سبحانه- أن تؤتى عزائمه وتجتنب محارمه، فقصر الصلاة في السفر سنة؛ بل ذهب بعض العلماء إلا أنها واجب، وإتمامها مكروه، وإن كان مجزياً.
والمسافر إنما يقصر الصلاة الرباعية فقط وهي الظهر والعصر والعشاء، إلا إذا صلى خلف إمام يتم فيلزمه الإتمام؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "إنما جعل الإمام ليؤتم به".
وإذا صلى المسافر المغرب، ثم أراد صلاة العشاء، فدخل المسجد ووجد جماعة يصلون المغرب، فليدخل معهم بِنِيَّةِ العشاء، فإذا قام الإمام للثالثة أكمل الداخل التشهد، وسلم من ركعتين، وله أن يقوم معه في الثالثة ويتم العشاء أربعاً، وهذا الأخير أحوط؛ لكونه أتم مع إمامه.
وإذا كنت أيها المسلم في بلدك ولم تخرج، وأردت أن تسافر بعد صلاة المغرب مباشرة، فلا تجمع العشاء، لأنه ليس لك سبب يبيح الجمع، إذ إنك لم تغادر بلدك.
أما إذا كنت في بلد قد سافرت إليه ثم أردت أن تسافر بين المغرب والعشاء، فلا بأس إذا صلى الإمام المغرب أن تصلي بعده العشاء مقصورة، ثم تخرج إلى سفرك.
ولتتنبه -أيها الأخ الفاضل- أن العبرة بفعل الصلاة، وليس بدخول الوقت، فمَن سافَرَ من بلده بعد أذان الظهر، لكنه لم يصلها إلا بعد خروجه من البلد فإنه يباح له القصر، وأما إذا رجع من السفر ودخل عليه وقت الظهر -مثلاً- وهو في السفر ثم وصل بلده ولم يصلها بعد فيتعين عليه أداؤها أربعاً ولا يقصر.
فاتقوا الله عباد الله، وقدروا نعم الله عليكم، وأدْرِكوا محاسن دينكم، والتمسوا حكمة الله في تشريعه، يزدد تعلقكم بهذا الدين والإعجاب به ومحبته.
وصلوا وسلموا...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي