وإذا كان الأمر كذلك، فمخالفة هذا الأصل أوقع الكثير من الناس في الجماعات والمجتمعات الإسلامية؛ بل وأوقع أمة الإسلام في الدواهي العظام، والموبقات، والضلال، والظلام، وانتشر من جرَّاء هذه المخالفة، والبدع، والمنكرات، وطمست معالم هذا الدين من الفضائل، والأخلاقيات؛ فقد قدم الكثير من الناس الهوى على الشرع، والبدع على السنن، والرذائل على ..
الحمد لله الذي جعل من أفضل أعمال القلوب التقرب إلى الله بالمحبة، وجعل اتباعه -عز وجل- دليلاً على القرب منه وحبِّه، أحمده -سبحانه- حمْد مُخلِص يرجو رحمة ربه.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةَ إخلاص أرجو بها النجاة، وأتوسل بها لحبِّه وقربه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الموصوف بالعبودية، والذي عرج به إلى السماء فكان قاب قوسين أو أدنى من ربِّه، صلى الله عليه وآله والطيبين الطاهرين من صحبه، وعلى التابعين ومن تبعهم بإحسان وسار على نهجه ودربه، وسلم تسليماً.
أما بعد: أيها الناس، (اتَّقُوا اللَّهَ وَآَمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [الحديد:28].
عباد الله: إخوة الإيمان، لا يخفى عليكم أن من أفضل أعمال القلوب التقرب إلى الله بمحبته، فلا تتم العقيدة، ولا يكتمل إيمان العبد إلا بحبه -تعالى-، ولا يؤمن الإنسان الإيمان القوي الصحيح حتى يحب ما أحبَّه الله ورسوله، ويبغض ما أبغضه الله ورسوله، ولا يكون المؤمن مؤمناً حقاً حتى يُقدم محبة الله ومحبة رسوله على ما سواهما.
فالمحبة عمل من أعمال القلوب، يتوصل به العبد إلى التقرب إلى ربه، وهي دافع قوي، وباعث للقلوب على الاستقامة، والصلاح، والعبودية، والإخلاص، والفلاح تنعكس آثارُها على أعمال العباد، ومجريات حياتهم.
لذا يجب على العبد صرف المحبة لله -سبحانه- من دون أن يشوبها شائب، ولذا أثنى الله على المؤمنين، وبين أن من أعظم أوصافهم محبته سبحانه-، وأنهم بهذا الوصف قائمين بأمر الله وشرعه، يجاهدون في سبيله، ولا يخافون في الله لومة لائم، قال -سبحانه-: (فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) [المائدة:54].
إخوة الإيمان: من أعظم ما ينال العبد من كرم الله ولطفه وفضله أن يضفي محبته على عبده المؤمن، فإن الله -سبحانه- أثبت لنفسه هذه المحبة، وهي من صفاته العظيمة التي يجب على المؤمنين إثباتها له -سبحانه-، على وجه يليق بجلاله، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تمثيل ولا تشبيه.
فهو -سبحانه- يحب عباده المؤمنين، ويحب التوابين، ويحب المتطهرين، ويجب المحسنين، ويحب المقسطين، ومن آثار محبة الله لعبده أن يجزل له الثواب، وأن يقبل منه إذا تاب وأناب، وأن يتولاه وأن يعينه، وأن ييسر له أموره، ويسعده في حياته وبعد مماته، فآثار محبته لعبده عظيمة جليله، لا تعد بالحسبان، ولا تخطر على بال.
فالواجب على المؤمن بالله واليوم الآخر أن يثبت المحبة لله -تعالى- على وجه يليق بجلاله، يثبتها من جانب الرب، ومن جانب العبد، فالله - سبحانه - يُحِبُّ ويُحَب، فأثبتوا ذلك - عباد الله - تحظوا بكرم الله ولطفه وفضله .
ثم اعلموا -عباد الله- أن محبة العباد لله لا تتم ولا تنفع إلا إذا استكمل العبد مقتضياتها، وعمل بذلك بصدق وإخلاص .
إنَّ أول مقتضيات المحبة الصحيحة الصادقة المتابعة والموافقة في حُب المحبوبات، وبغض المكروهات؛ وذلك بتقديم محبة الله ورسوله على الأبناء والآباء والإخوان والعشيرة، وعوارض الدنيا من الأموال والمساكن، والتجارة والاكتساب، والشهوات والملذات، قال -سبحانه-: (قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) [التوبة:24].
ومنها: اتباع ما جاء به النبي -صلى الله عليه وسلم-، والعمل به، قال -سبحانه-: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ...) [آل عمران:31]، وهذه الآيات من أعظم العلامات على محبة الله، فقد قال أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: يا رسول الله: إنا نحب ربنا حباً شديداً، فأحبَّ الله أن يجعل لحبِّه علَماً، فأنزل الله هذه الآية.
ومنها: أن يقدم محابّ الله ومراضيه، ويكره ما يكره الله ورسوله، وفي الصحيحين أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "ثلاث من كنَّ فيه وجد بهنَّ حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إن أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار".
وبهذه المقتضيات تتحقق محبة الله، فمن أحب الله ورسوله محبةً صحيحة صادقة من قلبه أوجب له ذلك بقلبه ما يحبه الله ورسوله، ويكره ما يكرهه الله ورسوله، وأن يعمل بجوارحه بمقتضى هذا الحب والبغض .
أيها المؤمنون: إن مخالفة هذا؛ وأعني به: عدم تقديم محبة الله المحبة الواجبة ينشأ عنه أمور وعظائم وموبقات تزل بالعبد، وتهوي به في مهوى سحيق، فجيمع المعاصي تنشأ من تقديم هوى الإنسان ونفسه على محبة الله ورسوله، وكذلك البدع كلُّها إنما تنشأ من تقديم الهوى على الشرع الحنيف، وكذلك المعاصي إنما تقع من تقديم الهوى على محبة الله ورسوله، ومحبة ما يحبه.
وإذا كان الأمر كذلك، فمخالفة هذا الأصل أوقع الكثير من الناس في الجماعات والمجتمعات الإسلامية؛ بل وأوقع أمة الإسلام في الدواهي العظام، والموبقات، والضلال، والظلام، وانتشر من جرَّاء هذه المخالفة، والبدع، والمنكرات، وطمست معالم هذا الدين من الفضائل، والأخلاقيات؛ فقد قدم الكثير من الناس الهوى على الشرع، والبدع على السنن، والرذائل على الفضائل.
فكانت المجتمعات الإسلامية يعمها الفوضى والتخبط، واستبيحت بيضتها ودولها بالشروط والتسلط، وأصبح الناس في دوامة من التفكير والارتجاج، تعلوهم الشبهات والتيارات من كل الفجاج.
فانظر -رعاك الله- إلى ما يقام من الشرع، والعدل، والسنة في معظم البلدان، وما يشاع من البدع، وزخرف القول، وما تبدل به الحقائق، وما يجعل فيه المعروف منكراً، والمنكر معروفاً، ثم قارن بين ذلك، وهل طبق فيها أصل المحبة؟!.
أسائلكم عباد الله: هل تنال محبة الله ومحبة رسوله -صلى الله عليه وسلم- بالإعراض عن هديه وسنته؟ أم هل تنال محبة النبي -صلى الله عليه وسلم- بمحبة غيره، ومساواته بالأشخاص؟ أم هل تنال محبة النبي -صلى الله عليه وسلم- بطمس معالم سنته، وإبدالها بمعالم شيطانية؟ أم هل تنال محبة النبي -صلى الله عليه وسلم- بالإطراءات، والشعارات، والاحتفالات، والطنين وهز الرؤوس، وأخذ المكوس؟ أم هل تنال محبة النبي -صلى الله عليه وسلم- بالاحتفالات بالموالد، ووضع الموائد؟.
إن محبة الرسول -صلى الله عليه وسلم- لا تُنال بشيء من ذلك، وإنما هو خلط وتهريج، (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ...) [الرعد:17]، (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [آل عمران:31].
وفقني الله وإياكم إلى هدي كتابه، وسلك بنا طريق أحبابه، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، ولكافة المسلمين من كل ذنب فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم .
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي