إن بعض الناس لم يعر هذه الآداب أي اهتمام؛ فيأتي الواحد منهم إلى بيت قريبه، وهو أجنبي بالنسبة لمن في البيت من النساء، والبعض منهن يتحجبن منه، فيدخل لمجرد أن الباب مفتوح، أو بمجرد أن يأذن له أحد الصغار الذين لا يعقلون، ولربما بدأ يستأذن وهو يدخل حتى يتغلغل في البيت، وهذا أمر ..
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله تعالى، واعلموا أنه أمركم بآداب شرعية؛ في التزامها تسود المحبة وتحفظ الحقوق، وفي تركها تصبح الحياة فوضى، والحقوق مهدرة، والبغضاء منتشرة.
ومن تلك الآداب: الاستئذان، ولا شك أن الذي يرغب في دخول بيت غيره لا يخلو إما أن يكون أجنبيًا أو من محارمه؛ فإن كان أجنبيًا فلا يحل له الدخول فيه من غير استئذان؛ لقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا) [النور: 27]، ومعنى (تَسْتَأْنِسُوا)، أي: تستأذنوا؛ سواء كان الساكن في البيت أم لم يكن؛ لقوله تعالى: (فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَداً فَلا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ) [النور: 28].
وهذا يدل على أن الاستئذان ليس للسكان أنفسهم فقط، بل لأنفسهم ولأموالهم؛ لأن الإنسان كما يتخذ البيت سترًا لنفسه يتخذه سترًا لأمواله، وكما يكره اطلاع غيره على نفسه يكره اطلاعه على أمواله.
وسمي الاستئذان استئناسًا؛ لأنه إذا استأذن أو سلم؛ أنس أهل البيت بذلك، ولو دخل عليهم بغير إذن؛ لاستوحشوا وشق عليهم. وأمر مع الاستئذان بالسلام.
والاستئذان ثلاث: فإن أذن للمستأذن، وإلا فليرجع؛ فعن أبي سعيد الخدري؛ قال: كنت جالسًا في مجلس من مجالس الأنصار، فجاء أبو موسى فزعًا مذعورًا، فقال: استأذنت على عمر ثلاثًا، فلم يأذن لي، فرجعت، فقال: ما منعك؟! قلت: استأذنت ثلاثًا، فلم يؤذن لي، فرجعت، وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إذا استأذن أحدكم ثلاثًا، فلم يؤذن له فليرجع". فقال: والله لتقيمن عليه بينة، أمنكم أحد سمعه من النبي؟! قال: فقال أبيّ بن كعب: والله لا يقوم معك إلا أصغر القوم، فكنت أصغر القوم، فقمت معه فأخبرت عمر أن النبي قاله. وفي بعض الروايات أن عمر قال لأبي موسى: "إني لم أتهمك، ولكن الحديث على رسول الله شديد". وفي بعضها الآخر: "ولكني خشيت أن يتقول الناس على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-".
عباد الله: الاستئذان ثلاثًا هو سنة رسول الله لنفسه؛ فعن قيس بن سعد بن عبادة؛ قال: زارنا رسول الله في منزلنا، فقال: "السلام عليكم ورحمة الله". فرد سعد ردًّا خفيًّا. قال قيس: فقلت: ألا تأذن لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟! فقال: ذره يكثر علينا من السلام. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "السلام عليكم ورحمه الله". فرد سعد ردًّا خفيًّا، ثم قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "السلام عليكم ورحمه الله". ثم رجع، واتبعه سعد، فقال: يا رسول الله: إني كنت أسمع تسليمك، وأرد عليك ردًّا خفيًّا لتكثر علينا من السلام. قال: فانصرف معه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
وينبغي لمن يستأذن أن لا يستقبل الباب تلقاء وجهه، وإن كان الباب كاشفًا لعورة رده وصرف بصره عنها حتى لا يقع نظره على ما يكره أهل البيت.
فعن سهل بن سعد؛ قال: اطلع رجل في حجرة من حجر النبي -صلى الله عليه وسلم-، ومع النبي مدرى يحك به رأسه، فقال: "لو أعلم أنك تنظر؛ لطعنت به في عينك، إنما جعل الاستئذان من أجل البصر".
وعلى المستأذن أن يذكر اسمه صريحًا إذا سأل عنه المستأذن عليه؛ فعن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: استأذنت على النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال: "من هذا؟!". فقلت: أنا. فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أنا، أنا". كأنه كره ذلك.
قال العلماء: وإنما كره النبي ذلك؛ لأن قوله: أنا! لا يحصل بها التعريف، وإنما الحكم في ذلك أن يذكر اسمه؛ كما فعل عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- وأبو موسى الأشعري -رضي الله عنهما-.
ولا يجوز دخول بيوت الغير إلا بعد الإذن والتسليم، فإن أذن له دخل، وإلا فليرجع؛ كما فعل مع سعد، وأبو موسى مع عمر -رضي الله عنهما-.
قال قتادة: قال رجل من المهاجرين: لقد طلبت عمري كله هذه الآية فما أدركتها، يقصد: (وَإِنْ قِيلَ لَكُمْ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ) [النور: 28]، وإني لأستأذن بعض إخواني، وأرجو أن يقول: ارجع! فأرجع وأنا مغتبط؛ لقوله تعالى: (هُوَ أَزْكَى لَكُمْ).
إن بعض الناس يقرأ هذه الآية، ولكنه يغفل عن عظيم معناها؛ فإذا طرق الباب على أخيه، وكان أخوه مشغولاً، وطلب منه الرجوع؛ غضب، وانتفخت أوداجه، وربما اغتاب أخاه، ولم يعده مرة أخرى، وما علم أن الرجوع خير له من الدخول.
عباد الله: وسواء على الإنسان أكان الباب مغلقًا أم مفتوحًا؛ لأن الشرع قد أغلقه بالتحريم للدخول حتى يفتحه بإذن صاحبه.
وأما إن كان البيت غير مسكون، ودعت الحاجة إلى دخوله؛ فيجوز دخوله؛ قال تعالى: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ) [النور: 29].
قال ابن كثير -رحمه الله-: "هذه الآية تقتضي جواز الدخول إلى البيوت التي ليس فيها أحد إذا كان له متاع فيها بغير إذن؛ كالمعد للضيف، إذا أذن له فيه أول مرة؛ كفى".
فإن كان الداخل هو صاحب البيت، ومن فيه محارم له؛ فلا إذن عليهم؛ إلا أنه يسلم إذا دخل.
قال قتادة: "إذا دخلت بيتك؛ فسلم على أهلك؛ فهم أحق من سلمت عليهم".
فإن كان البيت يسكن فيه مع صاحبه أمه أو أخته؛ فقد قال العلماء: "يتنحنح، أو يضرب برجله؛ حتى تتنبها لدخوله؛ فقد تكونان على حالة لا يحب أن يراهما فيها".
وروى ابن جرير عن زينب امرأة عبد الله بن مسعود؛ قالت: "كان عبد الله إذا جاء من حاجة، فانتهى إلى الباب؛ نحنح، وبزق؛ كراهة أن يهجم منا على أمر يكرهه".
وعن أبي هريرة؛ قال: "كان عبد الله إذا دخل الدار؛ استأنس؛ تكلم ورفع صوته".
وقال الإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله-: "إذا دخل الرجل بيته؛ استحب له أن يتنحنح أو يحرك نعليه".
ولهذا جاء في الصحيح عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ أنه" نهى أن يطرق الرجل أهله طروقًا". وفي راوية: "ليلاً؛ يخونهم".
إن بعض الناس لم يعر هذه الآداب أي اهتمام؛ فيأتي الواحد منهم إلى بيت قريبه، وهو أجنبي بالنسبة لمن في البيت من النساء، والبعض منهن يتحجبن منه، فيدخل لمجرد أن الباب مفتوح، أو بمجرد أن يأذن له أحد الصغار الذين لا يعقلون، ولربما بدأ يستأذن وهو يدخل حتى يتغلغل في البيت، وهذا أمر لا يجوز لعاقل أن يعمله؛ فلربما كان الرجل غير موجود، ولربما كانت النساء متبذلات في بيوتهن، فتقع عينه على ما حرم نظره!!
ولكن بعض أصحاب البيوت هم الذين يجرئون من يفعل ذلك على فعله، وذلك لأنهم لا ينبهون من وقع في مثل هذا، ولا ينهونه عن غيه، بل ربما يفعلون ذلك هم أنفسهم مع غيرهم.
وليعلم الرجل الذي يسمح للأجانب بدخول بيته بغير إذن، وإن كانوا من أقربائه، لكنهم أجانب عن محارمه؛ ليعلم أنه يجعل بيته كالشارع من حيث حرمته، بل إن الفتنة فيه أعظم من الشارع؛ لتحقق الخلوة.
فاتقوا الله -عباد الله- وتأدبوا بما أمركم به، ومن لم يرضَ بما أمر الله؛ فلا بارك الله فيه.
أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب؛ فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
أما بعد:
أيها المسلمون: اتقوا الله حق التقوى، واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى، واعلموا أن خير الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-.
عباد الله: قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمْ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنْ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) [النور: 58].
هذه الآيات بينت استئذان الأقارب بعضهم على بعض؛ قال أكثر أهل العلم: إنها آية محكمة واجبة على الرجال والنساء؛ فقد أدب الله -عز وجل- عباده في هذه الآيات بأن على العبيد والأطفال الذين لم يبلغوا الحلم إلا أنهم يعقلون ما يرون أن يستأذنوا على أهلهم في هذه الأوقات الثلاثة، وهي الأوقات التي هي عرضة للانكشاف:
أولها: من قبل صلاة الفجر؛ لأن الناس إذ ذاك يكونون نيامًا في فرشهم، وهو أيضًا وقت انتهاء النوم ووقت الخروج عن ثياب النوم ولبس ثياب النهار.
الثاني: وقت القيلولة، حين تضعون ثيابكم من الظهيرة؛ لأن الإنسان قد يضع ثيابه في تلك الحال مع أهله.
الثالث: من بعد صلاة العشاء؛ لأنه وقت النوم، فيؤمر الأطفال والخدم أن لا يهجموا على أهل البيت في هذه الأحوال؛ لما يخشى أن تقع أبصارهم على أمر يجب ستره.
أما في غير هذه الأوقات؛ فمسموح لهم الدخول بغير إذن؛ لأن العورات بعدها تكون مستورة، وعن ابن عباس أن رجلين سألاه عن الاستئذان في ثلاث عورات التي أمر الله بها في القرآن، فقال ابن عباس: "إن الله ستير يحب الستر، كان الناس ليس لهم ستور على أبوابهم، ولا حجال في بيوتهم، فربما فاجأ الرجل خادمه أو ولده أو يتيمه في حجره وهو على أهله، فأمرهم الله أن يستأذنوا في تلك العورات التي سمى الله، ثم جاء الله بعد بالستور، فبسط الله عليهم الرزق، فاتخذوا الستور والحجال، فرأى الناس أن ذلك قد كفاهم من الاستئذان الذي أمروا به".
وأما إذا بلغ الأطفال الحلم؛ فيجب عليهم الاستئذان على كل حال، وإن لم يكن في الأحوال الثلاثة؛ قال تعالى: (وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنْكُمْ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) [النور: 59].
قال الأوزاعي: "إن كان الغلام رباعيًا؛ فإنه يستأذن في العورات الثلاث على أبويه؛ فإذا بلغ؛ فليستأذن على كل حال".
وأما الصغير الذي لا يميز بين العورة وغيرها؛ فيدخل في الأوقات كلها.
وأما إن كان أهلاً للتمييز بأن قرب البلوغ؛ فعلى والديه أن يمنعاه من الدخول في الأوقات الثلاثة؛ تأديبًا وتعظيمًا لأمور الدين؛ كما في الأمر بالصلاة إذا بلغ سبعًا وضربه إذا بلغ عشرًا.
وقد أشير في الآية إلى علة الأمر، وهي بلوغ الأطفال الحلم؛ أي: نشأة شعور الجنس في نفوسهم.
عباد الله: إن بعض الناس قد تهاونوا بهذا الأب مع أولادهم بدافع الدلال المفرط أو عدم المبالاة؛ فنجد أن بعض الناس يكون أولاده مدركين، ثم لا يأمرهم بالاستئذان في هذه الأوقات الثلاثة، بل إن البعض قد زاد هذا الأمر بجمعه معهم مضجع واحد، وظنوا أنه من مصلحتهم، ولكنهم مخطئون؛ فهم يدركون ما يرون، وربما وقعت أنظارهم على عورات أهليهم أو غيرها، وربما بدأ الشعور الجنسي عندهم مبكرًا، ثم يشغل بالهم ما رأوه.
وقد ينتبه لهم الأبوان بعد هذه الحال، فيعزلونهم، ولكنهم لا يفرقون بين الذكور والإناث في المضاجع؛ فقد يقع فساد كبير، وفي ذلك الأدب حفظ لهم ولسلامة فطرهم.
فاتقوا الله -عباد الله- وتأدبوا بآداب الإسلام، وألزموا أنفسكم وأولادكم بهذا الأدب الرفيع وغيره، وأبعدوهم عن كل ما يثير غرائزهم من أفلام وصور خليعة؛ لئلا تحطم أخلاق الناشئة كما حطمت أخلاق منتجيها، فأصبحوا كالحيوانات في حظائرها، تنزو بعضها على بعض.
عباد الله: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [النحل: 90].
فاذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي