وإن مما بيّن الإسلام آدابه وأحكامه البيوت التي يسكنها الناس؛ ليعيش الناس داخلها في أمن واستقرار، ولتكون سترًا حقيقيًّا لعوراتهم وشؤونهم الخاصة. فمن النصوص التي بيّنت أحكام البيوت وآدابها قول الله -عز وجل-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى ..
أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله-، فالتقوى أعظم عمل وأجمل أدب تُزيّن بها البيوت، فلا يوجد بيت أعظم من بيت عَمَرَهُ أهلُه بطاعة الله -عز وجل-.
أيها المسلمون: إن الإسلام لم يترك شاردة ولا واردة إلا وبيّن أحكامها، ولا شأنًا من شؤون الناس في حياتهم إلا نظمها، وبيّن لهم حسنها ورغبهم فيه وحثهم عليه، ونهاهم عن مساوئها وما يؤول منها إلى الأضرار والخلافات والعداوات.
وإن مما بيّن الإسلام آدابه وأحكامه البيوت التي يسكنها الناس؛ ليعيش الناس داخلها في أمن واستقرار، ولتكون سترًا حقيقيًّا لعوراتهم وشؤونهم الخاصة.
فمن النصوص التي بيّنت أحكام البيوت وآدابها قول الله -عز وجل-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمْ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ * لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ) [النور: 27 - 29].
فمن آداب البيوت في هذه الآيات: الاستئذان، ويختلف حكم الاستئذان باختلاف البيت المراد دخوله.
والبيوت تنقسم إلى قسمين:
القسم الأول: بيوت غير المحارم، وهذه البيوت يجب على البالغ العاقل أن يستأذن عند دخولها، ويحرم عليه دخولها دون إذن أهلها؛ لما يترتب على ذلك من المفاسد العظيمة؛ ودليل الوجوب قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)، وعن سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ الأَنْصَارِي أَنَّ رَجُلاً اطَّلَعَ مِنْ جُحْرٍ فِي بَابِ رَسُولِ اللَّهِ، وَمَعَ رَسُولِ اللَّهِ مِدْرًى يُرَجِّلُ بِهِ رَأْسَهُ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "لَوْ أَعْلَمُ أَنَّكَ تَنْظُرُ طَعَنْتُ بِهِ فِي عَيْنِكَ، إِنَّمَا جَعَلَ اللَّهُ الإِذْنَ مِنْ أَجْلِ الْبَصَرِ". أخرجاه في الصحيحين.
القسم الثاني من البيوت: بيوت المحارم؛ وهذه البيوت يجب أيضًا فيها الاستئذان عند الدخول على المحارم، إلا الزوجة؛ فإنه يجوز الدخول عليها دون استئذان، ولكن يستحب أن يستأذن الزوج على زوجته؛ لما في الصحيحين عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ فِي غَزَاةٍ، فَلَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ ذَهَبْنَا لِنَدْخُلَ، فَقَالَ: "أَمْهِلُوا حَتَّى نَدْخُلَ لَيْلاً -أَي عِشَاءً- كَي تَمْتَشِطَ الشَّعِثَةُ، وَتَسْتَحِدَّ الْمُغِيبَةُ".
أما غير الزوجة فيجب الاستئذان قبل الدخول؛ لما روى مالك في الموطأ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ سَأَلَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَسْتَأْذِنُ عَلَى أُمِّي؟! فَقَالَ: "نَعَمْ"، قَالَ الرَّجُلُ: إِنِّي مَعَهَا فِي الْبَيْتِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "اسْتَأْذِنْ عَلَيْهَا"، فَقَالَ الرَّجُلُ: إِنِّي خَادِمُهَا، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "اسْتَأْذِنْ عَلَيْهَا؛ أَتُحِبُّ أَنْ تَرَاهَا عُرْيَانَةً"، قَالَ: لا، قَالَ: "فَاسْتَأْذِنْ عَلَيْهَا".
وفي قوله -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّمَا جَعَلَ اللَّهُ الإِذْنَ مِنْ أَجْلِ الْبَصَرِ"، دليل على أنه يُشرع الاستئذان على كل أحد حتى المحارم؛ لئلا تكون منكشفة العورة.
أما الأعمى فقد ذهب بعض العلماء إلى وجوب استئذانه؛ لأن من العورات ما يُدرك بالسمع، فقد يسمع الأعمى حديثًا أو كلامًا لا يريد أهلُ البيت كشفه لأحد غيرهم، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّمَا جَعَلَ اللَّهُ الإِذْنَ مِنْ أَجْلِ الْبَصَرِ"، فهو محمول على الغالب، ولا يُقصد منه الحصر.
ومن التربية على الآداب المنزلية التي تغيب عن كثير من الناس: تربية الأطفال المميّزِين على الاستئذان في أوقات العورات الثلاث، وهي: قبل صلاة الفجر، وعند القيلولة، وبعد صلاة العشاء؛ لقول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمْ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنْ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) [النور: 58]. وعن ابن عمر أنه "كان إذا بلغ بعض ولده الحُلُم عزله فلم يدخل عليه إلا بإذن". رواه البخاري في الأدب المفرد.
عباد الله: اعلموا أنه يقترن بالاستئذان أمران:
الأول: إلقاء السلام، فالسلام سنة مستحبة، عَنْ رِبْعِي قَالَ: حَدَّثَنَا رَجُلٌ مِنْ بَنِي عَامِرٍ أَنَّهُ اسْتَأْذَنَ عَلَى النَّبِي وَهُوَ فِي بَيْتٍ، فَقَالَ: أَلِجُ؟! فَقَالَ النَّبِي لِخَادِمِهِ: "اخْرُجْ إِلَى هَذَا فَعَلِّمْهُ الاِسْتِئْذَانَ، فَقُلْ لَهُ: قُلِ: السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ، أَأَدْخُلُ؟!"، فَسَمِعَهُ الرَّجُلُ فَقَالَ: السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ، أَأَدْخُلُ؟! فَأَذِنَ لَهُ النَّبِي فَدَخَلَ.
وعن أبي هريرة أنه سُئل عمن يستأذن قبل أن يسلم، فقال: "لا يؤذن له حتى يبدأ بالسلام". رواه البخاري في الأدب المفرد وصححه الألباني.
الأمر الثاني: عدم الإلحاح في الاستئذان والاكتفاء بثلاث مرات؛ فالإلحاح في الاستئذان مكروه؛ لما فيه من إحراجٍ لصاحب البيت؛ فإنما شُرع الاستئذان ليكون لصاحب البيت الخيارُ في إعطاء الإذن لمن شاء ومنعه عمن شاء. ولما روى مسلم عن أبي موسى الأشعري قال: سمعت رسول اللَّه يقول: "الاِسْتِئْذَانُ ثَلاَثٌ، فَإِنْ أُذِنَ لَكَ وَإِلاَّ فَارْجِعْ". ويُستثنى من ذلك من جاء يستأذن لضرورة، ومن عَلِمَ أن صاحب البيت لم يسمعه، فهذان لا بأس أن يزيدا عن الثلاث.
وعلى من قيل له: ارجع أن يرجع بنفس راضية مطمئنة؛ لقول الله تعالى: (وَإِنْ قِيلَ لَكُمْ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) [النور: 28].
أسأل الله -عز وجل- أن يرزقنا العلم النافع والعمل الصالح، وأن يرينا الحق حقًّا ويرزقنا اتباعه، ويرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه.
أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
أما بعد: فاتقوا الله -أيها المسلمون- حق تقواه، (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا) [الطلاق: 5].
عباد الله: ومن آداب الاستئذان: أن لا يقف المستأذن عند استئذانه أمام الباب، ولكن يتنحى يمينًا أو شمالاً؛ لما أخرجه أبو داود عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ إِذَا أَتَى بَابَ قَوْمٍ لَمْ يَسْتَقْبِلِ الْبَابَ مِنْ تِلْقَاءِ وَجْهِهِ، وَلَكِنْ مِنْ رُكْنِهِ الأَيْمَنِ أَوِ الأَيْسَرِ، وَيَقُولُ: "السَّلاَمُ عَلَيْكُمُ، السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ".
كذلك على المستأذِن أن يدق الباب برفق ولين، ويدخل في ذلك الأجراس في وقتنا الحاضر؛ لئلا يزعج مريضًا أو يوقظ نائمًا. فعَنْ أَنَسٍ أَنَّ أَبْوَابَ النَّبِيِّ كَانَتْ تُقْرَعُ بِالأَظَافِرِ. رواه البيهقي في شعب الإيمان.
كذلك ينبغي على المستأذن أن يُفصح عن اسمه أو كنيته عند سؤاله عن ذلك، عن جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: اسْتَأْذَنْتُ عَلَى النَّبِيِّ فَقَالَ: "مَنْ هَذَا؟!"، فَقُلْتُ: أَنَا، فَقَالَ: "أَنَا! أَنَا!"، كَأَنَّهُ كَرِهَ ذَلِكَ.
ومن دخل مكانًا بغير إذن أهله فمن حق صاحب المكان أن يخرجه حتى يستأذن، فإن أذن له دخل وإلا فلا يدخل؛ لما جاء عَنْ كَلَدَةَ بْنِ حَنْبَلٍ أَنَّ صَفْوَانَ بْنَ أُمَيَّةَ بَعَثَهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ بِلَبَنٍ وَجِدَايَةٍ وَضَغَابِيسَ قال: فَدَخَلْتُ وَلَمْ أُسَلِّمْ، فَقَالَ: "ارْجِعْ فَقُلِ: السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ". والجداية: أولاد الظباء مما بلغ ستة أشهر أو سبعة أشهر، والضغابيس: صغار القثاء، واحدها ضغبوس.
واعلموا -عباد الله- أنه يجوز دخول بيوتِ الآخرين بغير إذنهم في حالة الضرورة؛ كأن يحدث حريقٌ في المنزل، أو يسمع صوتَ استغاثةٍ، أو هجوم لصٍ، أو ما شابه ذلك.
فيجب على المسلمين أن يتأدبوا بهذه الآداب، وأن يتقوا الله في كل وقت وحين.
هذا، وصلوا وسلموا على رسول الله...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي