عام جديد

أحمد بن عبد العزيز الشاوي
عناصر الخطبة
  1. سقوط الورقة الأخيرة من العام .
  2. دروس مستفادة من أحداث العام الماضي .
  3. الحزن والفرح شعوران طبيعيان .
  4. الاستسلام لأمر الله من لوازم العبودية .
  5. من حكم الابتلاء .
  6. لا تُدفع الشرور بالكلام .
  7. بدع متعلقة ببداية العام الهجري .

اقتباس

اللحظات الماضية شهدت سقوط الورقة الأخيرة، معلنة طي صفحة من صفحات الزمن كانت حافلة بالآلام والآمال، عامرة بالمنح والمحن. ينتهي عام من عمر هذه الدنيا ويبدأ عام آخر، واقتربت الساعة، وهكذا يقلب الله الليل والنهار، إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار. يمضى على الأمة عام كما مضى أعوام، وما زالت الأمة في زمن الوهن، قد تداعت ..

الحمد لله الواحد القهار، العزيز الغفار، يقلب الليل والنهار، وفي ذلك عبرة لأولي الأبصار، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، فالق الإصباح وجعل الليل سكنًا والشمس والقمر حسبانًا وكل شيء عنده بمقدار، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله المصطفى المختار، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه البررة الأطهار وسلم تسليمًا. 

أما بعد: فاتقوا الله يا أمة خير الأنام، وراقبوه في السر والعلانية فإنه يعلم سركم ونجواكم ويعلم ما تكسبون.

اللحظات الماضية شهدت سقوط الورقة الأخيرة، معلنة طي صفحة من صفحات الزمن كانت حافلة بالآلام والآمال، عامرة بالمنح والمحن.

ينتهي عام من عمر هذه الدنيا ويبدأ عام آخر، واقتربت الساعة، وهكذا يقلب الله الليل والنهار، إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار.

يمضى على الأمة عام كما مضى أعوام، وما زالت الأمة في زمن الوهن، قد تداعت عليها الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، وكل يريد حصته دينًا أو مالاً أو عرضًا أو دمًا.

يمضى عام، وفيه رأينا مآسي المسلمين قائمة دائمة، وليس لها من دون الله كاشفة.

يمضى عام شهدنا فيه سنة من سنن الله التي لا تتخلف بأنه ليس بغافل عما يعمل الظالمون، وأنه يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، فها هي عروش الظلم تتهاوى، وها هم سدنتها يتساقطون، فكلاً أخذ اللهُ بذنبه، فمنهم الطريد والشريد، ومنهم القتيل ومنهم السجين، كذلك كانوا من قبل يمكرون بالمسلمين ليثبتوهم أو يقتلوهم أو يخرجوهم، (وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) [الأنفال: 30]، (وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا) [محمد: 10]، (وَمَا هِيَ مِنْ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ) [هود: 83]، ومن يدري فلربما أن هؤلاء صاروا إلى ما صاروا إليه بدعوة من مظلوم سرت بليل وهم عنها غافلون، فيا أيها الظالمون: تذكروا أن دعوة المظلوم ليس بينها وبين الله حجاب، وقد أقسم لينصرنه ولو بعد حين، فلنتحلل ممن ظلمناهم اليوم قبل أن يأتي يوم لا درهم فيه ولا متاع، وحينها لا ينفع الظالمين معذرتهم ولا هم يستعتبون.

مضى عام تعلمنا فيه أن من اعتز بغير الله ذل، ومن أرضى الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس.

ذل قوم بعد عز، وخمدت نار بريقهم حينما نشدوا العزة في غير موطنها، ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين.

وإن العزيز في الدنيا والآخرة هو من أعزه الله: (قُلِ اللهُمَّ مَالِكَ المُلْكِ تُؤْتِي المُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ المُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [آل عمران: 26].

وإن العزة في طاعة الله، والسعي إلى مرضاته ونصرة دينه والثبات على مبادئ الشريعة ولو كره الكافرون والمنافقون: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ العِزَّةَ فَللهِ العِزَّةُ جَمِيعًا) [فاطر: 10].

وإن من يطلب العزة والمكانة بإرضاء الكافرين وموالاتهم فإنما يطلب سرابًا بقيعة: (الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ المُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ العِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ للهِ جَمِيعًا) [النساء: 139]، فليعتبر أولو الأبصار.

يمضي عام بدت فيه بحمد الله بشائر الزوال لدولة عاد الأخرى التي طغت في البلاد فأكثرت فيها الفساد، رافعة شعار: من أشد منا قوة!! فظهرت أمارات السقوط من انهيار في الاقتصاد وتراكم للديون وتذمر من العاطلين، مع أعاصير وفيضانات مدمرة وربك لا يخلف الميعاد.

يمضي عام استبانت فيه سبيل المجرمين، وأفصح العدو الرافضي عن عدوانه، وأبان عن كيده ومكره، وأظهر العداء للسنة وأهلها، وتبيّن لمن ولاؤهم الحقيقي، وتجلت حقائق القرآن: (وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ) [البقرة: 14]، فهل تعود الأمة إلى وعيها وتدرك أن كل عداوة باعثها دين أو مبدأ لا يمكن أن تتغير، وأن العداء النفاقي أشد ضراوة من عداوة الكفار الظاهرين!!

يمضى عام وفيه ارتفعت أصوات النفاق يبغونكم الفتنة، ويريدون أن تميلوا ميلاً عظيمًا في خطوات تغريبية ودعوات إفسادية، فتارة تستهدف المرأة وحياءها وحجابها، وتارة تستهدف معالم الإصلاح من حلقات ومراكز وهيئات وغيرها، وما تخفي صدورهم أكبر.

وتلك الخطوات الآثمة وربي لا يوقفها إلا غيرة صادقة ووقفة حازمة وتربية جادة وتوعية للأمة مستمرة، وإعلان صريح برفض هذه الخطوات الماكرة، ومقاومتها بسلاح الدعوة واجتماع الكلمة وتوحيد الجهود والاشتغال بالبناء بدلاً من النقد والتلاوم ومحاولة إسقاط الآخرين والتهوين من جهودهم.

مضى عام، وفيه ظهر الدجال بصورة قنوات إعلامية متنوعة تنشر الأكاذيب وتزيف الحقائق وتضلل الأفهام، وتسفّه الأحلام وتفتري الكذب وتنشر الفسوق والعصيان.

يمضي عام أظهرت أحداثه كيد المنافقين، ومحاولاتهم وأد كل معالم الفضيلة والتميز الأخلاقي في مجتمعنا، وأنهم ورب السماء والأرض يبغونكم الفتنة، ويحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، يحسبون كل صيحة عليهم، يهولون التوافه، ويهونون العظائم والموبقات، برامجهم ومطالبهم لا تتجاوز حدود شهواتهم الدنيئة، يستثمرون المحن والمصائب لا للمطالبة بما يفيد الناس وما يصلح حالهم دينًا ودنيا، وإنما بما يحقق أهدافهم القذرة ومساعيهم السافلة.

قارنوا بين موقفهم من حريق تافه في مدرسة قبل سنوات وبين حريق حادث خلف جراحًا ووفيات، تابعوا ردود أفعالهم وبرودتها وسماجتها لتدركوا أنه ليس بالقوم غيرة على الوطن والمواطن، وإنما حماس لأفكارهم الدنسة، فالمتهمة هي العباءة، والمسؤول هو السواتر والحواجز التي تحمي طالباتنا، تأملوا في مواقفهم وأسلوب طرحهم حينما يكون الطرف في الحدث قاضيًا أو رجل هيئة أو عالمًا، وحينما يكون واحدًا من المنتسبين إلى مستنقعهم والعاملين في تحقيق أهدافهم، وحقًّا قد نبأنا الله من أخبارهم فقال -وهو أصدق القائلين-: (إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ * وَإِنْ يَكُنْ لَهُمْ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ * أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمْ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ) [النور: 48-50].

يا مسلمون: الساعات القادمة تنهي عامًا هجريًّا بما فيه من سعادة وشقاء، وقحط ورخاء، وظلمة وضياء، والأيام والسنون تمر، والأحداث والخطوب تتوالى، والجراح تنزف والمآسي تترى، والظلمة تشتد، والأعداء يتكالبون. فكيف -يا ترى- سيكون عامنا الجديد؟! هل ستتواصل الهموم وتتوالى الأحزان؟! أم سيشهد عامنا هذا بشريات فرح وسرور فتقر أعين المؤمنين وتسعد نفوسهم!!

وقبل هذا، هل ما مضى كان مدعاة حزن وهموم، أم أن هناك نظرة تلقى على ما مضى من أحداث؟!

لا بد أن تعلم -أخي المسلم- قبل هذا أن الحزن والفرح -كالخوف والرجاء والحب والكره- شعوران إنسانيان طبيعيان، لا ينقصان من إيمان المسلم ما داما في حدودهما الطبيعية، وما دام الحزن لم يتحول إلى جزع أو يأس أو تسخط، ولم يتحول الفرح إلى بطر أو كبر وخيلاء.

لا سيما إن كان هذا الحزن أو الفرح لله وفي الله، وعلى محارم الله أو محابه، فأنبياء الله ورسله وعباده الصالحون عرض عليهم هذان الشعوران من غير أن ينتقص ذلك من منزلتهم ودرجتهم: (وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ) [هود: 9]، (قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآَيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ) [الأنعام: 33].

ولا بد أن نعلم أن الفرح والحزن باعتبارهما شعورين إنسانيين ليسا متلازمين للخير والشر باعتبار علم الله سبحانه وقدره؛ فقد يفرح الإنسان لأمر ويكون شرًّا له، وقد يحزن على أمر ويكون مآله خيرًا له: (وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) [البقرة: 216].

ولكن القاعدة أن المسلم متى استقام على أمر الله فإن أمره كله يكون خيرًا: "عجبًا لأمر المؤمن، إن أمره كله له خير".

ولا بد أن نعلم أن كل ذلك مرتبط بحقيقة العبودية لله -عز وجل- وبحكمة الابتلاء، فالمسلم مستسلم لأمر الله الشرعي، راضٍ بأمره القدري، مؤمن بأنه لا يكون أمر في الكون إلا بعلم الله وقدره، وأن هذا الكون وما يجري فيه لم يخلق عبثًا، بل لحكمة علمها من علمها وجهلها من جهلها.

كل إنسان في تجاربه يستطيع حين يتأمل أن يجد في حياته مكروهات كثيرة كان من ورائها الخير العميم، ولذاتٍ كثيرة كان من ورائها الشر العظيم، وكم من مطلوب يكاد الإنسان يُذهب نفسه حسرات على فواته، ثم تبين له بعد فترة أنه كان إنقاذًا من الله أن فوّت عليه هذا المطلوب في حينه، وكم من محنة تجرعها الإنسان لاهثًا يكاد يتقطع لفظاظتها، ثم نظر بعد فترة فإذا هي تنشئ له في حياته من الخير ما لم ينشئه الرخاء الطويل.

إن الإنسان لا يعلم، والله وحده يعلم، فماذا على الإنسان لو يستسلم، إذن فلماذا الامتحان والابتلاء؟!

إن في الابتلاء استخراج عبودية المؤمنين وذلهم لله وانكسارهم له وافتقارهم إليه وسؤاله النصر على أعدائهم، وفيه يتميز المؤمن الصادق من المنافق الكاذب: (مَا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ المُؤْمِنينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) [آل عمران: 179].

إن الشدة بعد الرخاء، والرخاء بعد الشدة هما اللذان يكشفان عن معادن النفوس وطبائع القلوب، ودرجة الثقة بالله، أو القنوط، ودرجة الاستسلام لقدر الله، عندئذ يتميز الصف وينكشف عن مؤمنين ومنافقين، ويظهر هؤلاء وهؤلاء على حقيقتهم.

ومن حكمة الابتلاء: أن النفوس تكتسب من العافية الدائمة والنصر والغنى طغيانًا وركونًا إلى العاجلة، وذلك داء يعوقها عن جدها في سيرها إلى الله والدار الآخرة، فيقيض الله برحمته من الابتلاء ما يكون دواءً لذلك الداء.

وفي ضوء كل هذا يمكن النظر إلى الأحداث الماضية والجارية بمنظور مختلف، فرغم مرارتها وآلامها فقد أفاقت كثيرًا من المسلمين وأرجعتهم إلى ربهم بعد طول غفلة وسبات، وبعثت في الأمة من جديد روحًا كانت قد خبت أو كادت منذ زمن، روح العزة والكرامة والتحدي رغم الصعاب والاستضعاف.

هذه الأحداث استحثت في الأمة يقظتها، واستفزت انتباهها إلى الإحساس بخطورة مخططات الأعداء في مجالات لم تعطها حقها من الاهتمام، رغم أهميتها ورغم استهداف الأعداء لها كقضايا الأسرة والمرأة ومناهج التعليم.

هذه الأحداث أظهرت أن بإمكان المستضعفين في أي مكان مواجهة قوى التجبر والطغيان متى كانوا صادقين في إيمانهم بقضيتهم مستعدين للبذل والتضحية من أجلها؛ ما كشف دعاوى المنهزمين والمخذلين.

هذه الأحداث نزعت عن الأعداء وجه الزيف الذي كانوا يتقنعون به وكشفت وجههم الحقيقي، وجه عداء سافر، واستهداف لرموز الدين وقيم الأمة وخصائصها، ورغبة عارمة في نهب ثرواتها ومحاصرتها واحتلالها بشتى الأشكال، كما بينت حقيقة القيم التي يتشدقون بها، وأنها قيم انتقائية ودعائية وزائفة لا تصمد أمام الحقائق والتحديات.

هذه الأحداث أظهرت خبايا المنافقين وما كانوا يضمرونه للأمة ودينها، وكشفتهم على حقيقتهم، وأبانت عمالتهم وخيانتهم لكل ذي بصيرة.

وفي ضوء الآلام والأحزان ومع مضي عام وبدء عام، لا بد أن تعلم أن من هدي الرسول -صلى الله عليه وسلم- الاستبشار بالجديد القادم والاحتفاء به والدعاء ببركته، فعند رؤية الهلال كان يقول: هلال خير ورشد، وعند نزول المطر يحسر عن ثوبه حتى يصيبه المطر ويقول: لأنه حديث عهد بربه تعالى، وكان إذا أتي بالباكورة بأول الثمرة قال: "اللهم بارك لنا في مدينتنا وفي ثمرتنا وفي مُدنا وفي صاعنا، بركة مع بركة.

إن ارتباط المسلم بربه ويقينه بأن كل قادم مجهول لا يخرج عن قدرته سبحانه وقدره، وأنه لا بد له -عز وجل- فيه حكمة بالغة، وثقة المسلم بوعد الله تعالى لعباده المؤمنين: (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ) [غافر: 51]، (وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ المُؤْمِنِينَ) [الروم: 47]، كل ذلك يجعل المؤمن مستبشرًا بعامه الجديد، مطمئنًا إلى مستقبله، متوكلاً على ربه، راضيًا بقدره، شاحذًا همته، مستبعدًا شبح اليأس والتثبيط: (إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا القَوْمُ الكَافِرُونَ) [يوسف: 87].

أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.

الخطبة الثانية:

أما بعد:

إذا أدركنا ما سبق، وآمنا به، فلنعلم أن ذلك لا يعني عدم الاستعداد وبذل الجهد والأخذ بالأسباب ودفع كيد الأعداء ومواجهتهم، فالتوكل على الله عبودية القلب، والأخذ بالأسباب عبودية الجوارح، ومن أضل بأحدهما فقد قصر في مأمور به، بل إن استقامة المسلم على أمر ربه تلزمه أن يجتهد ويبذل ما يستطيع لإقامة دين الله ورفعته ودفع فساد المفسدين في الأرض أيًّا كانوا وأينما كانوا، إبراءً لذمته، وإعذارًا إلى ربه: (وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) [الأعراف:164]، (وَلَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) [الحج:40].

لقد أدرك العدو الكافر والمنافق مكمن الخلل فينا، وهو أننا أمة سلاحها الكلام، فواجهوا أقوالنا بالأفعال، وما عاقهم الاستنكار عن الاستمرار، يتراجعون خطوة ويتقدمون خطوتين، وما يضيرهم السب والتنديد إذا هم ساروا بالإبل.

فوَربِّ السماء والأرض لن يوقف الخلل إلا العمل، ولن يواجه التغريب إلا بالتنظيم لا بالتنظير، ولن يغيض العدو إلا التلاحم لا التلاؤم، وما بلينا بداء أضر من السلبية والغثائية والهمة الدنيئة.

إذا كنت -يا أخي- ممن يهمه أمر الأمة ودينها فاطعن العدو بريال تبذله في سبيل الله، أو بكتاب وشريط توزعه، أو بحلقة تدرس فيها أو تدعمها، أو بكلمة نصح تلقيها، وأغظ العدو بشباب حائر تقوده إلى ظل الاستقامة، أو بفتاة تنقذها من الفساد وتعيدها إلى حصن الفضيلة واقهر العدو بمناصرة المحتسبين والدفاع عن أعراضهم، ولأن تزرع شجرة خير من أن تسب الحر، ولأن توقد شمعة خير من أن تلعن الظلام.

أيها المسلمون: قد مضى عام وأفل، وفيه تساقط على الطريق أقوام واهتزت مناهج وتبدلت قناعات وظهرت تناقضات، فأصبح الحلماء حيارى، ولذا فنحن بحاجة إلى التواصي بالتمسك بثوابتنا، والدفاع عن مبادئنا، والعيش في ظل شريعة ربنا، وتحصين بيوتنا وأسرنا، والالتحام حول الربانيين العاملين من علمائنا ودعاتنا.

مضى عام، ولا يجدي الحديث عما مضى، فما مضى فات، والمؤمل غيب، ولك الساعة التي أنت فيها، ولن نعيش في بحر اليأس مكبلين بقيد القنوط والإحباط، فلنعمل ليومنا وغدنا، مستشعرين أن النصر آتٍ لا محالة، وأن الله لا يصلح عمل المفسدين، وأنه لا يحيق المكر السيئ إلا بأهله.

لنعمل بتخطيط وتنفيذ سائرين على مركب التفاؤل، بأن ما يجري هو إيذان بقرب فجر النصر، ومن الآلام تبزغ الآمال، والرجال تصنعهم المحن، وابتسامة الفجر الوليد تبزغ من أشد ظلمة في الدياجي، ولنستشعر أن كيد الشيطان كان ضعيفًا، وأن المفسدين ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله، فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون، وإن الحق منتصر، وإن الباطل كان زهوقًا، ومن أجل دين الله فليعمل العاملون، وليتنافس المتنافسون، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

وأخيرًا فلنتذكر، أن ليس في شريعتنا مناسبة اسمها توديع عام أو استقبال عام، أو احتفال بهجرة أو عيد ميلاد أو عيد وطني أو غيرها، فتلك بدع محدثة لا أصل لها في شريعتنا.

وليس لتوديع عام واستقبال آخر عمل يختص به، فهو كسائر الأيام، وليس استقبال العام عيدًا فيبارك بعض الناس لبعض، وإنما تحديد المحرم كبداية للعام اجتهاد من الصحابة -رضي الله تعالى عنهم-.

ومن البدع ما تشيعه وسائل التواصل والتراسل من أن الأعمال ترفع، والصحف تطوى في نهاية العام، فهذا مما لأصل له، ولا تطوى الصحف إلا إذا طويت صفحة العمر. والله المستعان.

إن نهاية عام وبدء آخر يعني عند العقلاء أن الله متعك بما يزيد عن ثمانية آلاف ساعة، وكم في هذه الساعات من نبضات قلب ما كان له أن يخفق لو أن الله أوقفها لحظة من الزمن، وكم صعد خلالها من نفس ما كان له أن يعيش لو أن الله كتمه لحظة من الزمن.

إنه يعني امتلاء السجلات بما كسبت أيدينا وسطره الكرام الكاتبون، وغدًا سيكشف عن المخبوء وتبلى السرائر، فاملأ صحيفتك بما يسعدك غدًا.

إن مضي عام يعني سقوط ورقة من أوراق الشجرة ذات الأوراق المحدودة، وبها يتناقص الموجود ويزداد الذابل المفقود، ولربما كانت الورقة ما قبل الأخيرة، أو كان بعدها أوراق أخرى: (وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى الله يَسِيرٌ) [فاطر:11].

وحينما تذكر بهذا -يا أخي- فلا يطل أملك، ولا تنس مفاجأة الموت لك، فالموت يأتي بغتة:

وكم من صحيح مات من غير علة *** وكم من عليل عاش حينًا من الدهر
وكم من فـتى يمسي ويصبح لاهيًا *** وقد نسجت أكفانه وهو لا يدري

استثمر كل ساعة بقيت من حياتك، فقد يكون اليوم الذي تحياه هو يومك الأخير، وقد تكون ساعتك التي أنت فيها هي الساعة الأخيرة، وإن لك يومًا أخيرًا وساعة أخيرة، فما يدريك متى تحين.

إنني أدعوك لأن تعمل في يومك عمل من أيقن أن شمسه آذنت بالمغيب، فهو يودع دار الفناء ويستقبل دار البقاء.

أخي: لا ألفينك وقد انقضت حياتك وحان حينك وولت عنك الدنيا مدبرة، ونظرت إلى ماضي أيامك، فإذا بك تشاهد ماضيًا أليمًا وأيامًا سوداء قاتمة قضيتها في عصيان رب العالمين، وقد خدعك من الحياة مظهرها وزخرفها، فعند ذلك تقول باكيًا حين تبلغ الروح الحلقوم والناس إليك ينظرون: رب أمهلون، وإلى الدنيا ارجعون، لعلي أعمل صالحًا فيما تركت، فيأتي الجواب: كلا؛ فقد انتهت الحياة، ومضت فترة الابتلاء.

أسأل الله لكم حياة سعيدة، وأعوامًا في طاعة الله مديدة، وأسأله توفيقًا للأعمال الرشيدة، أو الخاتمة الحسنة.

اللهم صلِّ وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
 


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي