إن تهاوُن الناس -ولا سيَّما الفِتيان والفَتيات- مما ينعتُونَه بالثَّرثَرة الجماعيَّة من خلال المجامِيع التي يُنظِّمُونها أو ينتظِمون فيها في هواتِفهم وأجهزتهم؛ بل يتسارَعون لإحراز قصَب السَّبْق في نشر المعلومات أو تلقِّيها، بقطع النَّظر عن صحَّتِها أو دقَّتِها أو خطرِها، بل الخطرُ فيما تؤولُ إليها من نتائج خطيرة على الدين والعقيدة، وعلى البلاد وأهلها، وعلى الأمن والاستِقرار، ما ينشرُ الإرباك والاضطِراب، بل الخوفَ والإرهابَ. ويزدادُ الخطرُ والخوفُ وسوءُ العواقِب حين ..
الحمد لله، الحمد لله ذي العزِّ القاهِر، والسلطان الظاهر، سبحانه عزَّ مجدُه، وعلا سلطانُه، علِمَ فستَر، وقدَّر فغفَر، أحمدُه -سبحانه- وأشكرُه، أسبغَ النعمة، وأجزلَ المنَّة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً تقودُ إلى رِضوانه والجنَّة، وأشهد أن سيدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسوله أفضلُ خلق الله وأهداهم إليه سبيلاً، وأدلُّهم عليه طريقًا، صلَّى الله وسلَم وبارَك عليه وعلى آله السادة الأبرار، وأصحابه الميامين الأخيار، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ ما تعاقَبَ الليلُ والنهار، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فأُوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله -رحمكم الله-؛ فالكيِّسُ من دانَ نفسَه وعمِلَ لما بعد الموت، والعاجِزُ من أتبَعَ نفسَه هواها وتمنَّى على الله الأماني.
في مُرور الأعوام تصرُّم الأعمار، فما أسرعَ انقِضاء الليالي والأيام، (فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [الحجر: 92، 93]. جعلَنا الله وإياكم ممن طالَ عُمرُه، وحسُنَ عملُه، وغُفِر ذنبُه، وثقُلَ ميزانُه.
أيها المسلمون: وإن من أعظم ما يستوقِفُ الناظِر، ويبعثُ على المُحاسَبة الجادَّة: قولُ نبيِّنا -صلى الله عليه وسلم- كما في الحديث الصحيح: "كفَى بالمرء إثمًا أن يُحدِّثَ بكلِّ ما سمِع". رواه مسلم من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-. إنها المُحاسبةُ الجادَّة، والفحصُ الدقيق.
معاشر المسلمين: للكلمة أثرُها، وللصورة مفعولُها في أي وسيلةٍ، في خُطبةٍ أو مقالةٍ، أو مُحاضرةٍ أو تغريدةٍ، من خطيبٍ أو مُتحدِّث، أو كاتبٍ أو داعيةٍ، أو مُعلِّقٍ أو مُتابِعٍ، وفي أي وسيلةٍ من وسائل الإعلام والتواصُل.
وفي هذا الزمن بتِقنِيَّاته واتصالاته، وتدويناته وتغريداته، ومواقعه وشبكاته، وإعلامه وقنواته، ومواقعه وتدويناته وسيلتُها كلُّها: الكلمةُ والصورةُ؛ فويلٌ للمُتهاوِنين من المُغرِّدين والمُتابِعين!
كم هي العواقِبُ التي تُكلِّفُ الكثيرَ والكثيرَ من الأنفُس والأموال والجهود؟!
معاشر الأحِبَّة: إن تهاوُن الناس -ولا سيَّما الفِتيان والفَتيات- مما ينعتُونَه بالثَّرثَرة الجماعيَّة من خلال المجامِيع التي يُنظِّمُونها أو ينتظِمون فيها في هواتِفهم وأجهزتهم؛ بل يتسارَعون لإحراز قصَب السَّبْق في نشر المعلومات أو تلقِّيها، بقطع النَّظر عن صحَّتِها أو دقَّتِها أو خطرِها، بل الخطرُ فيما تؤولُ إليها من نتائج خطيرة على الدين والعقيدة، وعلى البلاد وأهلها، وعلى الأمن والاستِقرار، ما ينشرُ الإرباك والاضطِراب، بل الخوفَ والإرهابَ.
ويزدادُ الخطرُ والخوفُ وسوءُ العواقِب حين لا تُعرفُ مصادرُ هذه الأخبار والشائعات، ولا أغراض مَنْ نَشَرَها وأهدافهم، فلا مِصداقيَّةَ ولا موثوقيَّة، "كفَى بالمرء إثمًا أن يُحدِّثَ بكلِّ ما سمِع".
هذه الوسائلُ والمواقعُ وسطٌ خصبٌ، وبيئةٌ للشائعات والأخبار المُختلفة والمُختلَقَة والآراء والرُّؤَى غير المسؤولة، ناهِيكم بأنَّ كثيرًا ممن يشتغِلُ بنقلِ هذه الكلِمات والصُّور والأخبار الخطيرة هم الفارِغون البطَّالون الذين ليس لديهم ما يشغلون به أوقاتَهم من الخير والنفع لهم ولدينهم وأمتهم وأوطانهم.
ويعلمُ المُتابِعُ العاقلُ -فضلاً عن المُتخصِّص- أنهم لا في العِير ولا في النَّفير، الواحدُ منهم مُتَّكِئٌ على أريكته، ومُلازِمٌ للوحته، وعاكِفٌ على جِهازه، يُلقِي الكلامَ على عواهِنه هنا وهناك.
كم كلمةٍ أو تغريدةٍ قالت لصاحبِها: دعني! وكم تدوينةٍ تهوي بقائلِها في نار جهنَّم أبعدَ ما بين المشرق والمغرب!
كلماتٌ تخرجُ كالسِّهام من أفواه البنادِق يقتلُ بها نفسَه، ويُهلِكُ أهلَه، ويُفسِدُ بلدَه، ويُجرِّئُ الأعداءَ، ويُمكِّنُ للخُصوم، ويبذُرُ بُذورَ الفُرقة، وينفَخُ في أبواق الفتنة. زاحمَ البَنانُ عنده اللسان ليُوغِلَ في التعقيبِ والتصنيفِ، والهدمِ والإفساد.
في كلماتٍ وصورٍ ومقاطع تستهزِئُ وتسخرُ من مُكوِّنات مُجتمعه، وكأنَّه قد تطوَّعَ ليُسوِّدَ صُورتَه أمام الآخرين، ويُوثِّقَها صوتًا وصورةً، وكأنه مأجورٌ ليُدمِّرَ نفسَه، ويهدِمَ بيتَه، ويتنكَّرَ لهويَّته.
إذا سمِعَ خبرًا طارَ به كلَّ مطارٍ، ينشُرُه ويبُثُّه يُفاخِرُ بأنه حازَ السَّبْقَ في نشره، والكلمةُ تبلغُ الآفاق مُتخطِّيةً حواجِز الزمان والمكان في أجزاء من الثواني بلمسة بَنان أو غمزة أزرار. بل حقُّه أن يُحاسِبَ نفسَه قبل أن يُطلِقَ لسانَه، أو يغمِزَ بنانَه، أو يخُطَّ مقالَه، أو يُغرِّدَ تغريدتَه.
أين الحقيقة؟! وأين المصلحة؟! وأين الديانة؟! وأين الأمانة؟!
يا تُرى هل هؤلاء يُوسِّعون الآفاق أو يحفُرون الأنفاق؟! هل هم يَبنُون أو يهدِمون؟! هل هم يجمَعون أو يُفرِّقون؟! هل يزرَعون الأمل أو يقودون لليأس؟! هل يرفعون من مقام أهلِهم وأوطانهم أو يُحقِّرون الذّوات ويسحَقون النفوسَ؟!
إن ما يُفسِدُه هؤلاء المساكينُ الأغرار في لحظاتٍ قد لا يُمكنُ علاجُه في سنواتٍ، وقد يُكلِّفُ أموالاً ونفوسًا، وقد يستعصِي على العلاج. فلا حول ولا قوة إلا بالله!
معاشر المسلمين: "كفَى بالمرء إثمًا أن يُحدِّثَ بكلِّ ما سمِع"، "ولا يزالُ الرجلُ يصدُقُ ويتحرَّى الصدقَ حتى يُكتبَ عند الله صدِّيقًا، ولا يزالُ الرجلُ يكذِبُ ويتحرَّى الكذِب حتى يُكتبَ عند الله كذَّابًا".
وقد أخبَرَنا نبيُّنا محمد -صلى الله عليه وآله وسلم- كما في الحديث الصحيح فيما رآه من أحوال الآخرة أنه: "يرَى الرجلَ يكذِبُ الكِذبَة فتبلغُ الآفاق، فيُنشرُ شِدقُه ومِنخَرُه وعينُه إلى قَفاه". فما أشدَّه من عذابٍ، وما أطولَه من زمانٍ!!
معاشِرَ الأحبَّة: هذه قضيةٌ، وثمَّة قضيَّةٌ أخرى مُرتبطةٌ بها، وهي أكبرُ وأخطرُ؛ بل قد تكونُ أثرًا من آثارها، أو هدفًا من أهدافها، إنها: أمنُ المعلومات؛ بل الأمنُ على الدين وثوابتِه وأصُوله، والأمنُ على الأوطان ووحدتها وتماسُكها.
هذه التِّقنيَّاتُ والآلاتُ والوسائطُ والمواقعُ جعلَت المسؤوليَّةَ أعظمَ، وجعلَت مفهوم الحرية أدقَّ، فالحرُّ هو المُسيطرُ على نفسه، الضابطُ لها بضوابط العقل والدين والعلم. الحريةُ هي التخلُّص من قيود الشهوات، وسجون الرَّغَبات. الحرُّ هو المسؤولُ الذي يُفكِّرُ بانضِباطٍ لا بانفِلاتٍ.
إن هذه التِّقنيَّات فضَحَت بعضَ الذين يودُّون التفلُّتَ من عيون الرَّقيب، ناهِيكم برقيبِ الدين والضمير والأخلاق والمبادِئ.
الإيمانُ دينٌ صحيحٌ، والمُواطَنةُ عقلٌ راشِدٌ، والمسؤوليَّةُ أمانةٌ وثباتٌ وسعيٌ في المصالحِ العُليا والدُّنيا، وسيرٌ في دُروبِ الخير والرشاد، والحثّ عليها.
أيها العُقلاء: الهدمُ سهلٌ، والانحِدارُ إلى الهاوِية لا يُكلِّفُ -عياذًا بالله-، تأمَّلُوا في بعضِ جيرانِنا الذي يُصبِحون على العبوَّات الناسِفة، ويُمسُون على قذائِف مُدمِّرة تستهدِفُ المنازِلَ والمتاجِرَ والمعابِدَ والمكاتِبَ والطوائِف.
إن المُراقِبَ لبعض القُوى الإقليمية والدولية الذين يُحاوِلون أن يُذكُوا الصراعات الطائِفيَّة القَبَلِيَّة والمذهبيَّة والمناطِقيَّة في منطقتنا يُحاوِلون أن يُذكُوا الصراع، ثم يُوظِّفُوه ليُقطِّعوا الدولَ، ويُبعثِروا الشُّعوبَ، ويُشرِّدوا الناسَ، ليتوزَّعوا الغنائِمَ، ولا يُهِمُّهم البَتَّة ولا يكترِثون لمصالح شعوب المنطقة وأهلِها أماتُوا جوعًا، أو تفرَّقُوا شِيَعًا، أو تناثَرُوا طوائِفَ، أو تقطَّعُوا أحزابًا!!
والسعيدُ الحكيمُ من وُعِظَ بغيره.
معاشر الإخوة والأحِبَّة: نحن في هذه البلاد الطاهرة لقد تركَ لنا الآباءُ والأجدادُ وطنًا مُوحَّدًا وآمِنًا، بلدًا كريمًا عريضًا واسعًا مُترامِيَ الأطراف، عليه وُلاةُ أمرٍ جادُّون حازِمون في المُحافَظة على هذه الوحدة وعلى هذه الأمة تحت راية: (لا إله إلا الله، محمدٌ رسولُ الله) وخدمة الحرمين الشريفين ورعايتهما.
فيجبُ أن تُقدَّر هذه النعمةُ الكُبرى، وأن يُحافَظَ عليها وتُورَّثَ للأبناء ثم الأجيال من بعدِهم -بإذن الله-؛ لينعَموا بما ننعَمُ به من أمنٍ وإيمانٍ وخيرٍ وفضلٍ.
الحَذَرَ ثم الحَذَرَ من خُطباء الفتنةِ والتحريضِ، دُعاة تمزيق الأوطان، والعبَث بوحدتها، السُّعاة إلى تأجيج الفتنة وإثارة الفُرقة، في تُهمٍ باطلةٍ، وطعونٍ ظالمةٍ، وناصيةٍ كاذِبةٍ خاطِئةٍ، يصِفون أوطانَهم وأهلِيهم ورجالَهم بأقبَح الأوصافِ، في أسلوبٍ فجٍّ، وسوءٍ من القولِ.
يقومُ قائمٌ مأفونٌ هو الأغشُّ للأمة والأئمة، والأشدُّ على جماعة المسلمين ليهدِم الشوكة، ويُضعِف القوة، ويخدِم الأعداء، يزعُمُ أنه يُطالِبُ بحقوقٍ، ولن يكون نَيلُ الحقوق بفُحش القول، والتحريض، وامتِطاء مطيَّة العُنصريَّة والطائفيَّة، والاستِقواء بالسمَّاعين والدول الأجنبيَّة وأعداء الأمة، يُثيرُ الفتن، ويجرُّ الأغراب، ويتقوَّى بالخارجِ، وهذه خيانةٌ ظاهرةٌ، وتفريطٌ بالبلاد ومُقدَّراتها وأهلِها، ومثلُ هذا لا بُدَّ من الحَزم معه وأطرِه على الحقِّ وإلزامِه جادَّة الصواب، وحفظِ أمن البلاد والعباد، ووحدة الصفِّ والكلمة.
أيها المسلمون: إن من مسؤولية الدولة وواجبِها أن تضرِبَ بيدٍ من حديدٍ على كل من يقتربُ من هذه الثوابِت ليهُزَّها أو ينالَ منها، إنه عبثٌ غيرُ مسؤولٍ ينالُ من الدين والوطن، الدولة مسؤولةٌ عن أمن الناس وحمايتهم وصيانة حقوقِهم ومُمتلكاتهم، وتنظيم شؤونهم في أسواقهم وبيوتهم ومرافِقهم.
الدولةُ بأجهزتها القضائيَّة والتنظيميَّة والتنفيذيَّة مسؤولةٌ عن أمن الناس واستِقرارهم، وتحقيق العيش الكريم لهم، مسؤولةٌ عن تحقيق العدل وتهيِئةٍ أسباب الحياة الطيِّبة.
وبعد:
عباد الله: فالحقوقُ مُتكافِئة، والحياةُ مُنظَّمة، والمصالِحُ مُعتبَرة، ولا يتحقَّقُ ذلك إلا في وطنٍ قويٍّ هادئٍ، مُستقرٍّ آمنٍ، تحكمُها دولةٌ قويةٌ مُهيمِنةٌ بقضائِها وأجهزتها وعدالتها.
وليحذَر المُسلمُ أن يكون مطيَّةً للإفساد وبثِّ روح الفُرقة، والخذلان لدينه، والخيانة لوطنه ولسائر أهله.
الحَذَر ثم الحَذَر أن يكون الإنسان -من حيث يشعُر أو لا يشعُر- وقودًا أو حطَبًا لمثلِ هذه الدعوات الفئويَّة الضيِّقة التي لا تأخُذُ حسابًا لأهلها وبلدِها وأمنِها وسلامتها، والضررُ سيلحقُ بالجميع، والنارُ ستُحرِقُ الجميع، ومن يتقاعسُ عن التصدِّي لهؤلاء الشُّذَّاذ والمُرجِفين والمُتطرِّفين، أو يُحاوِلُ إيجادَ أعذارٍ أو مُسوِّغاتٍ أو ينقُدهم بضعفٍ أو استِحياءٍ فهو شريكٌ في إضعاف الوطن وهزِّ كِيانه.
ووحدةُ الأوطان وسلامتُها والحفاظُ على دينها وأمنِها لا يجوزُ المِساسُ به أو العبَثُ به، بأي حالٍ وتحت أي مُسوِّغ.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ * وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [الأنفال: 25، 26].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئةٍ، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله، أنارَ بالإيمان قلوبَ أهل السعادة، فأقبَلَت على طاعة ربِّها مُنقادَة، أحمدُه -سبحانه- وأشكرُه وعَدَ على الشُّكر بزيادة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له أعظِم بها من شهادةٍ، وأشهد أن سيدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه المخصوصُ بالاصطِفاء والاجتِباء والسيادة، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه وعلى آله وأصحابه، صدَقوا في الإيمان وأحسَنوا العبادة، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ ما بقِيَت أعلامُ الدين مرفوعة وراياتُه مُشادَة، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فيا أيها المسلمون: المُطالبةُ بالحقوق حقٌّ، وبابُ التناصُح مشروعٌ ومُشرَعٌ، وللناس حقوقُهم ومطالِبُهم، والنقصُ يجبُ أن يُسدَّد، والمطالِبُ تُرفَعُ وتُسمَعُ، ومسالِكُ النقد والمُطالبة بالإصلاح حقوقٌ مشروعةٌ إذا سُلِك بها المسالِكُ الصحيحةُ.
حقُّ النقد والتعبير والرأي كلُّ ذلك مشروعٌ مكفولٌ، ويجبُ أن يكون مبذولاً ومُتاحًا ما دام مُلتزِمًا بالثوابت من المُحافَظة على الدين بأُصوله، والوطن بوحدته، والأمة بمُكوناتها.
من المقبول أن يقسُو الناقِدُ والمُصلِحُ بعضَ القسوة في ألفاظه وعرضِه، ولكن لا يُمكنُ أن يُقبَل الاستِقواء بالأغراب، واستِعداء الأعداء، وامتِطاء مطيَّة الكذِب والتلبيس والتدليس.
إن في أوطاننا وبُلداننا كُتَّابًا وخُطباء ونُقَّادًا يكتُبون وينتقِدون بجُرأةٍ وقوَّةٍ وعقلٍ ويُطالِبون، لكنَّهم لا يتجاوَزون ثوابِتَ دينهم ومصالحَ بُلدانهم، ولاؤُهم لأهلهم لا يُساوِمون، ولا يُدارُون، والقُصورُ وارِدٌ، والكمالُ عزيزٌ، والاجتِهاداتُ تُخطئُ وتُصيبُ.
يجبُ أن يكون الفرقُ واضِحًا بين حرية التعبير وحرية الرأي، وبين التحريض والتحريش ودقِّ معاوِل الهَدم والتفريق. فرقٌ بين النقد البنَّاء والدعوة للإصلاح، وبين زرع بُذور الفتن الطائفيَّة والقَبَليَّة والمناطقيَّة.
أصحابُ الحقوق والمطالِب المشروعة حقٌّ أن يُسمَع لهم، وأن تُستنهَضَ كلُّ المُؤسَّسات المُتخصِّصة الرسمية وغير الرسمية ليُستمَع إليهم، ويُنظَر في مطالبِهم، فما ثبَتَ من حقٍّ فيجبُ المُسارعةُ إلى تحقيقه حسبَ إمكانات الزمانِ والمكان والقُدرات، وما كان غير ذلك فيكونُ الردُّ بالحُسنى، وتقدير حقِّ المُطالبة.
ألا فاتقوا الله -رحمكم الله-؛ فالسعيدُ من وُعِظ بغيره، والحكيمُ من نظرَ في العواقِب.
هذا؛ وصلُّوا وسلِّموا على الرحمة المُهداة، والنعمة المُسداة: نبيِّكم محمدٍ رسول الله؛ فقد أمركم بذلك ربُّكم، فقال في محكم تنزيله، وهو الصادقُ في قِيلِه: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولك نبيِّنا محمد الحبيب المُصطفى، والنبي المُجتبى، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وارضَ اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن الصحابة أجمعين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وجُودك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، واخذُل الطغاة والملاحدة وسائر أعداء الملَّة والدين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمَّتنا وولاة أمورنا، واجعل اللهم ولايتَنا فيمن خافك واتقاك، واتبع رضاك يا رب العالمين.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي