فبكثرة ذكرك لله -أيها المشتاق للحج والعمرة- تكون شبيهًا بالحاج يوم حجه، فإن من أعظم أنواع البِرِّ في الحج كثرة ذكر الله فيه، وقد أمر الله تعالى بكثرة ذكره في إقامة المناسك مرة بعد أخرى، ففي سورة البقرة يأمر ربنا تعالى الحجاج بكثرة ذكره: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّآلِّينَ)، وقال: (فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللّهَ ..
الحمد لله المتفرد باسمه الأسمى، والمختص بالمُلك الأعزِّ الأحمى، الذي ليس من دونه منتهى ولا وراءه مَرْمَى، الظاهر لا تخيلاً ووهمًا، الباطن تقدُّسًا لا عُدْمًا، وسع كل شيء رحمة وعلمًا، وأسبغ على أوليائه نعمًا عُما.
وبعث فيهم رسولاً من أنفسهم عُربًا وعجمًا، أزكاهم محتدًا ومَنْمَى، وأشدهم بهم رأفة ورُحمى، حاشاه ربه عيبًا ووصمًا، وزكَّاهُ روحًا وجسمًا، وآتاه حِكمة وحُكمًا، فآمن به وصدَّقه من جعل الله له في مغنم السعادة قسمًا، وكذّب به وصدف عنه من كتب الله عليه الشقاء حتمًا، ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى، صلى الله عليه صلاة تنمو وتنمى، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا.
معاشر الصالحين: عاش المسلمون في بقاع الأرض نفحاتِ وأسرارِ وأنوارِ الحج، فمن لم يعشها مكانًا وزمانًا عاشها روحًا ووجدانًا، عاشها وهو يرى الحجيج يتقلبون من مشعر إلى مشعر، ومن نفحة إلى أختها، حتى انتهى الموسم ولكل المسلمين مشاعر وآمالٌ وأمانيّ، فالذين حضروا يرجون من الله القبول وغفران الذنب، وذلك هو الظن في الله والرجاء فيه؛ والذين لم يعيشوه زمانًا ومكانًا يعيشون على أمل أن يمكنهم الله من التمتع بالحج والتقلب بين أنواره وأسراره.
ومن المعلوم أن رحمة ربنا واسعة، وكرمه فياض، وأنه إن أعطى أقوامًا لا يحرم آخرين، فإنه -سبحانه- يعلم أن من المسلمين من تشتاق روحه إلى زيارة بيت الله الحرام؛ ولكن حبسهم ومنعهم العذر من فقرٍ أو مرضٍ ما من أنواع الموانع.
ولكنه -سبحانه- وبمقتضي رحمته كما أعطى هؤلاء ومكنهم من الحج فإنه لم يحرم الآخرين من أصحاب الأعذار، فنوع لهم من الأعمال، وكتب لهم عليها من الأجور ما يلحقون به أجور الحجاج والعمار، رحمة من ربنا بالغة، ومِنَّة من لدنه سابغة.
فقد أشار سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى الكثير من الأعمال وبيّن أن أجرها يساوي ويعادل أجر الحج والعمرة، وليس ذلك تثبيطًا للنفوس من تلك الشعائر؛ ولكنه جبر للخواطر، وإعلام بأنه من لم يتيسر له الحج بشد رحاله لقلة ذات يده أو ضعف حاله؛ فإن هناك من الأعمال ما يبلغه به وإن قصرت المطايا، ويقربه وإن بعدت الزوايا.
وها هم صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، الفقراء منهم، كلما رأوا أصحاب الأموال ينفقون أموالهم فيما يحبه الله ورسوله من حج واعتمار وجهاد وغير ذلك من أنواع البر والطاعات والقربات حزنوا لما فاتهم من مشاركتهم في هذه الفضائل، وقد ذكرهم الله -تعالى- في كتابه الكريم بهذا الوصف فقال -سبحانه وتعالى-: (لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاء وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ لِلّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّواْ وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنفِقُونَ) [التوبة:91-92].
وسبب نزول هذه الآية كما رُوِي عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه قال: "أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الناس أن ينبعثوا -أي يخرجوا- غازين معه، فجاءت عصابة من أصحابه فيهم عبد الله بن مغفل المزني -رضي الله عنه- فقال: يا رسول الله: احملنا -يعني: خذنا معك-، فقال: "والله ما أجد ما أحملكم عليه!"، فتولوا ولهم بكاء، وعَزَّ عليهم أن يحبسوا عن الجهاد إذ لا يجدون نفقة ولا محملاً؛ فأنزل الله هذه الآية".
فبسبب إخلاصهم وصلاح نياتهم أثابهم الله بأن أبقى ذكرهم وأعطاهم من الأجر مثل ما أعطى المجاهدين، كما أخرج ابن أبي حاتم عن الحسن البصري قال، قال -صلى الله عليه وسلم-: "لقد خلفتم بالمدينة أقوامًا ما أنفقتم من نفقة، ولا قطعتم واديًا، ولا نلتم من عدو نيلاً إلا قد شاركوكم في الأجر".
وأصل الحديث عند الإمام البخاري من حديث أنس -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان في غزاة فقال: "إن أقوامًا بالمدينة خلفنا ما سلكنا شِعبًا ولا واديًا إلا وهم معنا فيه، حبسهم العذر".
فالقاعد لعذر شريك الساهر، وربما سبق الساهرُ بقلبه الساهرين بأبدانهم.
سَار قلبي خَـلْفَ أحْمَالِكُمُ *** غير أنَّ العُذْرَ عاق البَدَنَ
مـا قَـطَعْتُمْ وادياً إلا وقَدْ *** جئتُه أسعى بأقدامِ الْمُنى
أنا مذ غبتُمْ عَلَى تَذْكَارِكُمْ *** أتـرى عندكُمُ ما عِنْدَنا
أخي المشتاق: إن كنت صادقًا في نيتك بأنك تريد أن يمن الله عليك بالحج أو العمرة فاعزم بقلبك أن تعمل بكل طاقتك وبكل ما بوسعك لكي تذهب لبيت الله الحرام، وردد بقلبك قبل لسانك: (قَالَ هُمْ أُولَاء عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى) [طه:84].
ثم أبشِرْ أيها المشتاق! فإن الشارع الرحيم بنا قد سن لنا على يد نبيه -صلى الله عليه وسلم- من الطاعات والأعمال الصالحات ما يقوم مقام الحج والعمرة عند عدم الاستطاعة، وهذا فضل من الله على هذه الأمة الكريمة المرحومة.
وسنذكر بعضًا من تلك الأعمال لتحيا بها الهمم، وتزدان بها الجوارح، وتتعطر بها الجوانح، لعل حرارة الشوق أن تسكن، سكونَ المحب بقرب محبوبه.
أولاً: الذكر بعد الصلاة، فقد أخرج الإمام البخاري من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: جاء الفقراء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقالوا: ذهب أهل الدثور من الأموال بالدرجات العلى والنعيم المقيم! يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ولهم فضل من أموال يحجون بها ويعتمرون ويجاهدون ويتصدقون، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "ألا أحدثكم بأمر إن أخذتم به أدركتم به من سبقكم، ولم يدركّم أحد بعدكم، وكنتم خير مَن أنتم بين ظهرانيه، إلا مَن عمل مثله؟! تسبحون وتحمدون وتكبرون خلف كل صلاة ثلاثًا وثلاثين".
فاختلفنا بيننا، فقال بعضنا: نسبح ثلاثًا وثلاثين، ونحمد ثلاثًا وثلاثين، ونكبر أربعًا وثلاثين، فرجعت إليه فقال -صلى الله عليه وسلم-: "تقول: سبحان الله، والحمد لله، والله أكبر، حتى يكون منهن كلهن ثلاثًا وثلاثين". رواه البخاري ومسلم وغيرهما.
قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله- بعدما أورد روايات هذا الحديث وما فيه من اختلاف في البدايات في التسبيح من أنه هل يُبْتَدَأُ بالتسبيح أم بالتكبير أم بالحمد؟! فقال: "الأولى الابتداء بالتسبيح؛ لأنه يتضمن نفي النقائص عن البارئ -سبحانه وتعالى-، ثم التحميد؛ لأنه يتضمن إثبات الكمال له، إذ لا يلزم من نفي النقائص إثبات الكمال، ثم التكبير؛ إذ لا يلزم من نفي النقائص وإثبات الكمال أن يكون هناك كبير آخر، ثم يختم بالتهليل الدال على انفراده -سبحانه وتعالى- بجميع ذلك". انتهى كلامه -رحمه الله-.
وهكذا؛ لما رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- تأسف الصحابة الفقراء، وحزنهم على ما فاتهم من إنفاق إخوانهم الأغنياء أموالهم في سبيل الله وابتغاء مرضاته؛ طيّب النبي -صلى الله عليه وسلم- قلوبهم ودلهم على عمل يسير يدركون به من سبقهم، لا يلحقهم أحد بعدهم إلا من عمل مثل عملهم، ألا وهو الذكر بعد الصلاة من تسبيح وتحميد وتكبير.
لكن سمع الأغنياء بهذا ففعلوا مثله فتساووا في هذا الذكر، فرجع فقراء المهاجرين إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالوا: "سمع إخواننا أهل الأموال بما فعلنا ففعلوا مثله". وكأنهم يريدون شيئًا آخر يُختصون به، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء". رواه مسلم.
فالأغنياء من الصحابة حريصون على فعل الخيرات كالفقراء؛ بل ويتسابقون إليها، ولهذا صنعوا مثل ما صنع الفقراء، ويتضح لك -أخي الكريم- من هذا الحديث حرص الصحابة -رضي الله عنهم- على التسابق إلى الخير، وأن كل واحد منهم يحب أن يسبق غيره إلى فعل الطاعات التي تقربه من رب الأرض والسماوات، وصدق الله العظيم إذ يقول: (وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ) [المطففين:26].
فإن استطعت -أخي المشتاق- أن لا يسبقك إلى الله أحد فافعل، فليست الدنيا ولا الأموال ولا السلطة ولا الجاه بأمور يتنافس فيها المؤمن، وإنما المؤمن صاحب الهمة العالية والنفس الشريفة التواقة لا يرضى إلا بالأمور العالية، همُّهُ المسابقة إلى الخيرات، ونيل الدرجات الباقية العالية التي لا تفنى ولا تبيد، ولا يرجع أبدًا عن مطلوبه ولو تَلِفَتْ نفسه في طلبه، ولذلك قيل: "مَن كان في الله تلفه كان على الله خلفه".
والذكر -أيها الأحباب- من أعظم الأعمال؛ بل هو أعظمها وأكبرها، قال الله: (وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ) [العنكبوت:45]، فهو من أعظم الأعمال التي يدرك بها الذاكر درجة القائم الصائم الحاج المعتمر المجاهد، بل هو أفضل من الجهاد الذي هو ذروة سنام الإسلام، يقول سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حديث عظيم جميل رائق: "ألا أنبئكم بخير أعمالكم، وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إنفاق الذهب والورِق، وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟!"، قالوا: بلى! قال: "ذكر الله تعالى".
قال الإمام العز بن عبد السلام في قواعده: "هذا الحديث مما يدل على أن الثواب لا يترتب على قدر النصَب -أي التعب- في جميع العبادات، بل قد يؤجر الله -تعالى- على قليل الأعمال أكثر مما يؤجر على كثيرها".
إنه حديث عظيم يفتح لك الباب على مصراعيه للدخول إلى عالم المجاهدين والقائمين والصائمين والمنفقين؛ بل والتفوق عليهم بإدمانك ذكر الله -تعالى-، فكيف يغفل بعد ذلك أحد عن هذا الفضل العظيم؟!
قال معاذ بن جبل -رضي الله عنه-: "ما شيء أنجى من عذاب الله من ذكر الله". ومنه استنبط الإمام الشاطبي أبياتًا رائقة في لاميته حيث يقول:
رَوَى القلبَ ذِكْرُ اللهِ فاسْتَسْقِ مُقْبِلاً *** ولا تَعْدُ روْضَ الذاكرينَ فتمحَلا
وآثِـرْ عَـنِ الآثـارِ مَثْـرَاةَ عَذْبِهِ *** وما مِثْلُهُ للْعَبْـدِ حِصْـنًا ومَوْئِلاً
وَلا عملٌ أنْجَى لـه مِـن عذابِـهِ *** غـداةَ الْجَـزَا مِن ذِكْرِهِ مُتَقَبَّلاً
جعلني الله وإياكم ممن ذكر فنفعته الذكرى، وأخلص لله عمله سرًّا وجهرًا، آمين! آمين! آمين! والحمد لله رب العالمين.
الحمد لله الذي دلّ عباده على ما به يرتقون، وفتح لهم من أبواب الخيرات ما فيه يتنافسون، ودعاهم إلى دار كرامته وما به يسعدون، أحمده على مننه وهو الرب الكريم، وأشكره على عطائه وهو الإله الرحيم، وأصلي وأسلم على الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، سيدنا محمد رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الجزاء.
معاشر الصالحين: ما أكثر غفلتنا! وما أشد إعراضنا عما فيه خيرنا وكرامتنا وارتقاؤنا وتزكيتنا! فهذا الذكر اليسير على اللسان، الرطب على الوجدان، يرتقي به العبد إلى منازل الأبرار، ومجاورة الأخيار، بل يرتقي ويرتقي ويرتقي حتى يفوقهم منزلةً وقُرْبَى، ومع الأسف! إننا لا نأبه إلا للدنية لنجعل من ألسنتنا مقاريض للأعراض من غيبة ونميمة، واتهام بغير حق، وتضييع للأوقات في كلام لا يعود إلا بالويل والثبور وسوء الأمور.
إنها غفلة ما بعدها غفلة، وشرود ما بعده شرود! عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يسير في طريق مكة فمرّ على جبل يقال له: جمدان، فقال: "سيروا، هذا جمدان، سَبَقَ الْمُفَرِّدون"، قالوا: وما المفردون يا رسول الله؟! قال: "الذاكرون الله كثيرًا والذاكرات". رواه مسلم.
سبق المفردون الذاكرون، سبقوا غيرهم إلى ماذا؟! إلى كل خير في الدنيا والآخرة، إلى المنازل العلية، والمقامات السنية، إلى القرب من رب البرية؛ فيا متخلفًا عن السباق: اجعل من لسانك فرسَ رهانِك، وأسرع به إلى ربك بذكره وشكره واستحضار مقامه.
فبكثرة ذكرك لله -أيها المشتاق للحج والعمرة- تكون شبيهًا بالحاج يوم حجه، فإن من أعظم أنواع البِرِّ في الحج كثرة ذكر الله فيه، وقد أمر الله -تعالى- بكثرة ذكره في إقامة المناسك مرة بعد أخرى، ففي سورة البقرة يأمر ربنا -تعالى- الحجاج بكثرة ذكره: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّآلِّينَ) [البقرة:198]، (فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا) [البقرة:200]، (وَاذْكُرُواْ اللّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ) [البقرة:203].
وكما أمر الحُجاجَ بكثرة ذكره أمر المؤمنين جميعًا بكثرة ذكره على كل حال، فقال -سبحانه وتعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا) [الأحزاب:41، 42].
وقد روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس -رضي الله عنهما- في قوله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا)، قال:" إن الله لم يفرض على عباده فريضةً إلا جعل لها حدًّا معلومًا، ثم عذر أهلها في حالِ عذرٍ، غير الذكر، فإن الله لم يجعل له حدًّا ينتهي إليه، ولم يعذر أحدًا في تركه، إلا مغلوبًا على تركه، فقال: (فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ) [النساء:103]، بالليل والنهار، في البر والبحر، وفي السفر والحضر، والغنى والفقر، والصحة والسقم، والسر والعلانية، وعلى كل حال". انتهى كلامه -رحمه الله-.
ولله در القائل:
ذكرتُكَ يا سؤلي وغايةَ مَقْصَدِي *** وأنْتَ لنـا يا سيِّدي خيرُ ذاكرِ
فجُدْ بِقَبُولٍ مِنْكَ أرجو به الْمُنَى *** فذِكْرُكَ في قلبي وسِرِّي وخاطِري
ومعنى ذكر الله على كل حال أن العبد لا يخلو من أربعة أحوال: أن يكون في طاعة، أو في معصية أو في نعمة، أو في شدة؛ فإن كان في الطاعة فينبغي أن يذكر الله -تعالى- بالتوفيق، ويسأله القبول؛ وإن كان في المعصية فينبغي أن يذكر الله بالامتناع، ويسأله التوبة؛ وإن كان في النعمة فينبغي أن يذكره بالشكر، ويسأله البركة والزيادة؛ وإن كان في الشدة فينبغي أن يذكره بالصبر، ويسأله الأجر والثواب.
فينبغي على كل مسلم أن يذكر ربه في كل وقت، وعلى كل حال؛ ولذا أجمع العلماء على جواز الذكر بالقلب واللسان للمحدِث والحائض والنفساء والجنب.
ولقد هيَّأ الله -تعالى- للذاكرين الله كثيرًا والذاكرات مغفرة منه وأجرًا عظيمًا، فقال -تعالى-: (وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 35].
عن عبد الله بن بسر -رضي الله عنه- أن رجلاً قال: يا رسول الله: إن شرائع الإسلام قد كثرت عليّ، فأخبرني بشيء أتشبث به، قال: "لا يزال لسانك رطبًا بذكر الله". رواه الترمذي.
وهذا الصحابي الجليل معاذ بن جبل يأخذ بيده رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويقول له: "يا معاذ: والله إني لأحبك! والله إني لأحبك! أوصيك يا معاذ ألاَّ تدَعَنَّ في دبر كل صلاةٍ أن تقول: اللهم أعنّي على ذكرك، وشكرك، وحسن عبادتك". رواه أبو داود والنسائي.
فذِكْر الله -أخي المشتاق- من أعظم القربات عند الله -تبارك وتعالى-، وما تحسر ابن آدم على شيء يوم القيامة إلا على ساعة مرت ولم يذكر الله -تعالى- فيها. كذلك أهل الجنة، ما تحسروا على شيء إلا على ساعة مرت بهم وما ذكروا الله فيها.
وفي الحديث، عن أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما من ساعة تمر بابن آدم لم يذكر الله فيها إلا تحسر عليها يوم القيامة"، أو كما قال -صلى الله عليه وسلم-. رواه البيهقي وصححه الألباني
وفي رواية عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال، قال -صلى الله عليه وسلم-: "ما من قوم يجلسون مجلسًا لم يذكروا الله فيه إلا رأوه حسرة يوم القيامة". فإلى متى -أخي الحبيب- تظل غافلاً عن ذكر ربك؟!
ألم تعلم أن قلبك ما خُلق إلا ليظل شاكرًا؟! ولسانك ما وجد إلا ليكون لربك ذاكرًا؟! ولْيَكُنْ لسان حالك كقول القائل:
وكان فؤادي خاليًا قبل حُبِّكُمْ *** وكان بِذِكْرِ الخَلْقِ يلهو ويمرحُ
فلمـا دعـا قلبي هواكَ أجابَهُ *** فلسـتُ أراه عن فِنائك يبرح
فيا أيها المشتاق: سبق المفردون وقعدت، ووصل الذاكرون وتأخرت، أما تعلم لماذا؟! لأنهم كانوا للحمد والتكبير والتهليل ملازمين، وفي مجالس الذكر حاضرين، أعندك من حديثهم خبر؟! ألك في طريقهم أثر؟!
عن زيد بن سلام أن أبا سلام حدثه أن الحارث الأشعري -رضي الله عنه- حدّثه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الله أَمَرَ يحيى بن زكريا بخمس كلمات أن يعمل بهن، ويأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن"، وكان من بين هذه الكلمات الخمس: "وأمرَكم أن تذكروا الله كثيرًا؛ فإن مثَل ذلك كمثل رجل خرج العدو في أثره سراعًا، حتى إذا أتى على حصن حصين فأحرز نفسه منهم؛ كذلك العبد، لا يحرز نفسه من الشيطان إلا بذكر الله". رواه الترمذي.
فلو لم يكن في ذكره إلا هذه الخصلة الواحدة لكان حريًّا بالعبد أن لا يفتر لسانه من ذكر الله.
ولذلك فإن الله -تعالى- يباهي بأهل عرفات ملائكته، وفي هذا من الشرف ما لا يخفى، فإنه -سبحانه- يباهي كذلك بالذاكرين، فيكون الذاكر شريكًا للحاج في هذا الفضل، ففي الحديث عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: خرج معاوية على حلقة في المسجد فقال: ما أجلسكم؟! قالوا: جلسنا نذكر الله، قال: آلله ما أجلسكم إلا ذاك؟! قالوا: والله ما أجلسنا إلا ذاك، قال: أما إني لم أستحلفكم تهمة لكم، وما كان أحد بمنزلتي من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أقل حديثًا عنه مني، وإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خرج على حلقة من أصحابه فقال: "ما أجلسكم؟!"، قالوا: جلسنا نذكر الله ونحمده على ما هدانا للإسلام ومَنَّ به علينا، فقال: "آلله ما أجلسكم إلا ذاك؟!"، قالوا: والله ما أجلسنا إلا ذاك! قال: "أما إني لم أستحلفكم تهمة لكم، ولكنه أتاني جبريل فأخبرني أن الله -عز وجل- يباهي بكم الملائكة". رواه مسلم.
وهذه المباهاة من رب العالمين دليل على شرف الذكر ومكانة الذاكرين عنده -سبحانه-، بل إنه -جل وعلا- يغفر للذاكرين ذنوبهم، ويجيرهم من النار، كما هو ثابت في الصحيح.
فيا أيها الغافل عن ذكر ربك: أما سمعت قول مولاك: (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) [البقرة:152]؟! أما تمنيت وأنت العبد الفقير الذليل الضعيف أن يذكرك مولاك؟! أما تاقت نفسك إلى هذا الشرف العظيم؟! وصدق يحيى بن معاذ صاحب الكلام الأخّاذ حين قال: "يا غفول يا جهول: لو سمعت صرير الأقلام في اللوح المحفوظ وهي تكتب اسمك عند ذكرك لمولاك لَمتَّ شوقًا إلى مولاك".
واعلم -أخي المشتاق- أن حقيقة الذكر ليست بالقول فحسب؛ بل لابد أن ينشأ الذكر أولاً في الشعور والوجدان، ثم يفيض ذلك على لسان العبد تسبيحًا وتحميدًا وتقديسًا وتمجيدًا وتعظيمًا لله رب العالمين.
فإن كان العبد كذلك فهو لله ذاكر، فأقْبِلْ على ذكر مولاك ينشرحْ صدرك، ويُفَرَّجْ همك، وتُجَبْ دعوتك، ويرتفع قدرك؛ اذكر الله في كل حال، اذكر الله وأنت في سيارتك في الإشارات وأنت واقف بدل السباب والخصام واللوم والعتاب، اذكر الله عند غضبك وعند نومك وصحوك وفي كل أحوالك وأمرك.
واعلم أن حبيبك محمدًا -صلى الله عليه وسلم- قال: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد"، فاذكر الله ذكرًا موافقًا لسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وطرائق ذكره وذكر أصحابه، فإن خالفت الهَدْي فعملك مردود.
وسنواصل -إن شاء الله تعالى- فيما يأتي من خطب الحديث عن بعض الأعمال التي تصل بأصحاب الأعذار إلى درجة الحجاج والعمار.
اللهم أصلح أحوالنا...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي