ولا غنى لكل أمة عن التأريخ في جميع الأحوال الدنيوية والأخروية كما قال أهل العلم، وكانت الأمم تؤرخ بالمواقف العظام من تاريخها، فكان لكل أمة تأريخ بما تراه من أحداث فاصلة في تاريخها، ومؤثرة في ثقافتها. وقصة التأريخ بالهجرة واختيارها بداية للتأريخ الإسلامي في عهد ..
أما بعد: فإن لكل أمة دينها ولغتها وثقافتها وحضارتها التي تتمسك وتعتز بها، ثم تربي عليها أجيالها، ولكل حضارة تأريخ ينبئ عن تجربتها في الحياة، ويميزها عن غيرها من الأمم، وهناك ارتباط كبير بين ثقافة الأمة وعقيدتها ومكونات تاريخها ابتداءً من بداية العام والأعياد ومواسم العبادات وغيرها من مكونات التاريخ والثقافة.
أيها الإخوة: والتأريخ الخاص بالأمة هو الذي يظهر استقلاليتها وخصوصيتها وتميزها عن سائر الأمم، ويربط أجيالها بتاريخ أمتهم وثقافتهم ودينهم ويميزهم عن غيرهم.
ولا غنى لكل أمة عن التأريخ في جميع الأحوال الدنيوية والأخروية كما قال أهل العلم، وكانت الأمم تؤرخ بالمواقف العظام من تاريخها، فكان لكل أمة تأريخ بما تراه من أحداث فاصلة في تاريخها، ومؤثرة في ثقافتها.
وقصة التأريخ بالهجرة واختيارها بداية للتأريخ الإسلامي في عهد الخليفة الراشد عمر بن الخطاب -رضي الله تعالى عنه- تنبئك عن ذلك.
قال ابن كثير في البداية والنهاية: "قال الواقدي: وفي ربيع الأول من هذه السنة سنة ست عشرة من الهجرة كتب عمر بن الخطاب التاريخ، وهو أول من كتبه".
وقال -رحمه الله-: وسببه أنه رفع إلى عمر صكًا مكتوبًا لرجل على آخر بدين يحل عليه في شعبان، فقال له عمر: أي شعبان؟! أمِنْ هذه السنة أم التي قبلها أم التي بعدها؟! ثم جمع الناس فقال: ضعوا للناس شيئًا يعرفون فيه حلول ديونهم، فيقال: إن بعضهم أراد أن يُؤرَّخَ كما تؤرخ الفرس بملوكهم، كلما هلك ملكٌ أرخوا من تاريخ ولاية الذي بعده، فكرهوا ذلك.
ومنهم من قال: أرخوا بتاريخ الروم من زمان اسكندر؛ فكرهوا ذلك، ولطوله أيضًا. وقال قائلون: أرخوا من مولد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. وقال آخرون: من مبعثه صلى الله عليه وسلم.
وأشار علي بن أبي طالب وعثمان بن عفان -رضي الله عنهما- وآخرون أن يؤرخ من هجرته من مكة إلى المدينة لظهوره لكل أحد؛ فإنه أظهر من المولد والمبعث.
فاستحسن ذلك عمر والصحابة -رضوان الله عليهم-، فأمر عمر أن يؤرخ من هجرة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. وأرخوا من أول تلك السنة من محرمها وهو قول الجمهور، لأنه أضبط؛ لئلا تختلف الشهور، فإن المحرم أول السنة الهلالية العربية. وقال ابن الجوزي: "ولم يؤرخوا بالبعثة لأن في وقتها خلافًا، ولا من وفاته لما في تذكره من التألم، ولا من وقت قدومه المدينة، وإنما جعلوه من أول المحرم؛ لأن ابتداء العزم على الهجرة كان فيه، إذ البيعة كانت في ذي الحجة، وهي مقدمة لها، وأول هِلالٍ هَلَّ بعدها المحرم، ولأنه منصرف الناس من حجهم، فناسب جعله مبتدأ -أي للسنة-".
وقال ابن حجر معلقًا على هذا الكلام: "وهذا أقوى ما وقفت عليه من مناسبة الابتداء بالمحرم".
أيها الإخوة: التأريخ الهجري القمري المرتبط بالهلال هو التأريخ الشرعي الصحيح الذي شرعه الله تعالى، ليس للمسلمين فقط بل لجميع الأمم وجميع الشرائع، إلا أن اليهود والنصارى تركوه وابتدعوا التأريخ الشمسي والميلادي؛ قال ابن تيمية -رحمه الله-: "فإن الأنبياء ما وقتوا للعبادات إلا بالهلال، وإنما اليهود والنصارى حرفوا الشرائع تحريفًا ليس هذا موضع ذكره".
قال الله تعالى: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ) [التوبة: 36]، قال الشيخ السعدي -رحمه الله-: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ) أي: في قضائه وقدره، (اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا)، وهي هذه الشهور المعروفة (فِي كِتَابِ اللَّهِ)، أي في حكمه القدري، (يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ)، وأجرى ليلها ونهارها، وقدر أوقاتها فقسمها على هذه الشهور الاثني عشر.
عَنْ أَبِي بَكَرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خَطَبَ فِي حَجَّتِهِ، فَقَالَ: "أَلَا إِنَّ الزَّمَانَ قَدْ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا، مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ، ثَلَاثٌ مُتَوَالِيَاتٌ: ذُو الْقَعْدَةِ، وَذُو الْحِجَّةِ، وَالْمُحَرَّمُ، وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ". الحديث رواه أحمد وهو حديث صحيح.
وقال ابن كثير في تفسيره بعد أن ساق الحديث: وقوله -صلى الله عليه وسلم- في الحديث: "إِنَّ الزَّمَانَ قَدْ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ". تقرير منه -صَلَوَات الله وسلامه عليه- وتثبيت للأمر على ما جعله الله تعالى في أول الأمر من غير تقديم ولا تأخير، ولا زيادة ولا نقص، ولا نسيء ولا تبديل، ثم قال: (ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ)، أي: هذا هو الشرع المستقيم، من امتثال أمر الله فيما جعل من الأشهر الحرم، والحَذْو بها على ما سبق في كتاب الله الأول.
قال القرطبي -رحمه الله-: "(فِي كِتَابِ اللَّهِ) أي فِيمَا كَتَبَ الله يوم خلق السموات وَالأَرْضَ". وقال: "هَذِهِ الآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ تَعْلِيقُ الأَحْكَامِ مِنَ الْعِبَادَاتِ وَغَيْرِهَا إِنَّمَا يَكُونُ بِالشُّهُورِ وَالسِّنِينَ الَّتِي تَعْرِفُهَا الْعَرَبُ، دون الشهور التي تعتبرُها الْعَجَمُ وَالرُّومُ وَالْقِبْطُ، وَإِنْ لَمْ تَزِدْ عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا، لأَنَّهَا مُخْتَلِفَةُ الأَعْدَادِ، مِنْهَا مَا يَزِيدُ عَلَى ثَلاثِينَ وَمِنْهَا مَا يَنْقُصُ، وَشُهُورُ الْعَرَبِ لا تَزِيدُ عَلَى ثَلاثِينَ وَإِنْ كَانَ مِنْهَا مَا يَنْقُصُ، وَالَّذِي يَنْقُصُ لَيْسَ يَتَعَيَّنُ لَهُ شَهْرٌ، وَإِنَّمَا تَفَاوُتُهَا فِي النُّقْصَانِ وَالتَّمَامِ عَلَى حَسَبِ اخْتِلافِ سَيْرِ الْقَمَرِ فِي الْبُرُوجِ".
وقال شيخ الإسلام -رحمه الله في مجموع الفتاوى: "فَأَخْبَرَ أَنَّ الشُّهُورَ مَعْدُودَةٌ اثْنَا عَشَرَ، وَالشَّهْرُ هِلَالِيٌّ بِالِاضْطِرَارِ؛ فَعُلِمَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا مَعْرُوفٌ بِالْهِلَالِ، وَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ الشَّرَائِعَ قَبْلَنَا أَيْضًا إنَّمَا عَلَّقَتْ الْأَحْكَامَ بِالْأَهِلَّةِ، وَإِنَّمَا بَدَّلَ مَنْ بَدَّلَ مِنْ أَتْبَاعِهِمْ".
وقال ابن القيم في مفتاح دار السعادة عند قوله تعالى: (وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ) [يس: 39]: "فخص القمر بذكر تقدير المنازل دون الشمس، وإن كانت مقدرة المنازل لظهور ذلك للحس في القمر وظهور تفاوت نوره بالزيادة والنقصان في كل منزل، ولذلك كان الحساب القمري أشهر وأعرف عند الأمم، وأبعد من الغلط وأصح للضبط من الحساب الشمسي". وقال: "ولهذا قال تعالى في القمر: وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب، ولم يقل ذلك في الشمس، ولهذا كانت أشهر الحج والصوم والأعياد ومواسم الإسلام إنما هي على حساب القمر وسيره ونزوله في منازله لا على حساب الشمس وسيرها، حكمة من الله ورحمة وحفظًا لدينه؛ لاشتراك الناس في هذا الحساب وتعذر الغلط والخطأ فيه، فلا يدخل في الدين من الاختلاف والتخليط ما دخل في دين أهل الكتاب".
اللهم احفظ لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، واهدنا سبل السلام، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
أيها الإخوة: لقد انتشر بين الناس بعض المفاهيم الخاطئة حري بنا أن نعرضها على الشرع، فما وافقه أخذنا، وما خالفه تركناه، وخصوصًا في مثل هذه الأيام أيام بداية عام ونهاية عام حسب التاريخ المعمول به بالأمة.
وقبل بيانها تقرر لدينا أن التأريخ الهجري بدأ العمل به في عهد عمر -رضي الله عنه-، فيكون الرسول -صلى الله عليه وسلم- لم يفعل شيئًا مما يفعله الناس مما سنذكره الآن.
والتأريخ الهجري تـأريخ شرعي، فما شرعه الخلفاء الراشدون يعتبر شرعًا، فقد قال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الْمَهْدِيِّينَ الرَّاشِدِينَ، تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ". حديث صححه الألباني.
ولم يحدث في عهد عمر والخلفاء من بعده شيء من ذلك -رضي الله عنهم أجمعين-، وإنما هو التأريخ فقط.
أحبتي: العمل حتى يكون صالحًا لا بد فيه من شرطين: الإخلاص لله تعالى كما قال تعالى: (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ) [البينة:5]، والمتابعة للنبي -صلى الله عليه وسلم- كما روى الشيخان عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ فِيهِ فَهُوَ رَدٌّ". رواه البخاري. وفي رواية لمسلم قَالَ: "مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ".
وقد قال العلماء: لابد من موافقة النبي -صلى الله عليه وسلم- في العبادة في ستة أمور: الصفة، والقدر، الزمن، والمكان، والجنس، والسبب وهو ما يتعلق بحديثنا هذا، فأي عبادة وجد سببها في وقت النبي -صلى الله عليه وسلم- ولم يفعلها ففعلها غير مشروع.
من ذلك ختم السَّنة بالاستغفار أو الأعمال الصالحة في آخر يومٍ منها، وتعظيم آخر جمعة من السنة بالاستغفار أو الدعاء، واعتقاد أن هناك صحائف لأعمال الإنسان تطوى في آخر السنة، وأمر الناس وحثهم على محاسبة أنفسهم في آخر السنة.
ومما ينتشر كل عام بين الناس عبر رسائل الجوال أو شبكات التواصل الاجتماعي: أدعية يدّعون أنها مما يروى عن النبي -صلى الله عليه وسلم- لدخول السنة الجديدة، ويروون في ذلك بعض الأحاديث، ولا أعلم في ذلك شيئًا عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولا عن سلف الأمة، فليحذر من ذلك.
أما التهنئة التي يتبادلها الناس في هذه الأيام بالعام الهجري فقد قال الشيخ السعدي في فتاواه: هذه المسائل وما أشبهها مبنية على أصل عظيم نافع، وهو أن الأصل في جميع العادات القولية والفعلية الإباحة والجواز، فلا يحرم منها ولا يكره إلا ما نهى عنه الشارع، أو تضمّن مفسدة شرعية، وهذا الأصل الكبير قد دل عليه الكتاب والسنة في مواضع، وذكره شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره. فهذه الصور المسؤول عنها وما أشبهها من هذا القبيل، فإن الناس لم يقصدوا التعبد بها، وإنما هي عوائد وخطابات وجوابات جرت بينهم في مناسبات لا محذور فيها، بل فيها مصلحة دعاء المؤمنين بعضهم لبعض بدعاء مناسب لتلك الأحوال، فليس فيه محذور، وفيه من المصلحة أيضًا أنه سبب للمحبة وتآلف القلوب، كما هو مشاهد.
أما الإجابة في هذه الأمور لمن ابتدئ بشيء من ذلك، فالذي نرى أنه يجب عليه أن يجيبه بالجواب المناسب مثل الأجوبة بينهم؛ لأنها من العدل، ولأن ترك الإجابة يوغر الصدور ويشوش الخواطر. ثم اعلم أن هاهنا قاعدة حسنة، وهي: أن العادات والمباحات قد يقترن بها من المصالح والمنافع ما يلحقها بالأمور المحبوبة لله، بحسب ما ينتج عنها وما تثمره، كما أنه قد يقترن ببعض العادات من المفاسد والمضار ما يلحقها بالأمور الممنوعة، وأمثلة هذه القاعدة كثيرة جدًّا. اهـ.
وقد بدأ الشيخ عبد الرحمن السعدي -رحمه الله- بالتهنئة أحد طلابه، فقد بعث إليه كتابًا، كان في ديباجة رسالته: "ونهنئكم بالعام الجديد، جدَّدَ اللهُ علينا وعليكم النَّعَم، ودفع عنا وعنكم النقم". اهـ. والأمر فيه سعة إن شاء الله.
نسأل الله أن يدلنا على ما يحبه ويرضاه من العبادات والأعمال الصالحة.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي